فى مايو 1989 فتحت الحكومة الإصلاحية المجرية حدودها مع النمسا قبل عدة شهور من تحطم جدار برلين، وفى 4 يونيه 1989 حققت المعارضة البولندية أول فوز فى انتخابات حرة فى دولة شيوعية، وفى 9 نوفمبر 1989 اندفعت الحشود لتحطيم جدار برلين الشهير. فى 22 ديسمبر فتحت بوابة براندنبرج رمز تقسيم المانيا، وفى 30 ديسمبر اجتمع عند بوابة براندنبرج 50 الف شخص من جميع انحاء العالم للإحتفال بعصر جديد، وجاء أول يناير 1990 ليشكل لحظة تفاؤل حقيقى وعظيم وهائل لمستقبل جديد للإنسانية.ولكن هذا التفاؤل الكبير لم يستمر طويلا، ففى 11 سبتمبر 2001 اكتشف العالم أن الشيوعية كانت ترفا فلسفيا اوروبيا شكل جملة اعتراضية كلفت العالم نصف قرن من الحروب الباردة والساخنة، وأن التناقض الحقيقى مع الغرب قادم هذه المرة من التاريخ معبأ بالكراهية. وفى صيف 2008 تراجع التفاؤل أكثر فى قدرة النظام الرأسمالى الغربى المرهق بتكاليف حروب القرن الجديد مع العدو الجديد على توفير الرفاهية والامان لشعوبه.وفى اللحظة التى يحتفل فيها العالم بمرور عشرين عاما على تحطيم جدار برلين يطل العدو الجديد بوحشيته وقسوته فى قاعدة فورت هود الأمريكية منطلقا بكل طاقته الشريرة فى القتل والتخريب والإيذاء لكى يلحق بحورياته المزعومة،رغم أن عمى بصيرته وقلبه جعله لا يرى الحور الحقيقيين المنتشرين حوله فى أرجاء القارة الأمريكية.
كان سور برلين رمزا لمدينة مقسمة فى دولة مقسمة فى قارة مقسمة فى عالم مقسم بين معسكرين، وشكل سقوط السور النهاية الحقيقية للحرب العالمية الثانية والتى تركت نتائجها معلقة منذ مؤتمر يالطا(4-11 فبراير1945) حيث لم تنته الحرب العالمية الثانية بمعاهدة سلام قاطعة، وتوالت النتائج الحقيقية التى شكلتها رمزية سقوط السور،انتهى كل هذا التقسيم بنهاية الحرب الباردة، وسقطت الشيوعية سقوطا مدويا، وتفكك الاتحاد السوفيتى إلى خمسة عشر دولة، ولم يبقى من هذا النظام برمته إلا ذيول صغيرة فى كوبا وكوريا الشمالية ينظر العالم لشعوبها بأسى على هذه السجون التى يعيشون فيها، ويشكل جدار ماليكون فى كوبا ونقطة تفتيش نانمونجوم بين كوريا الشمالية والجنوبية اخر الحواجز التى تحيط ببقايا دول الستار الحديدى، هذه الدول التى كانت تخشى مواجهة الحرية والديموقراطية وتحبس شعوبها فى مجتمعات شديدة الإنغلاق حتى لا تعرف ما يدور حولها فى العالم وحجم البؤس الذى تعيش فيه، ويكفى القول أن الناتج المحلى الإجمالى لكوريا الشمالية عام 2008 يعادل 2% فقط من الناتج المحلى الإجمالى لكوريا الجنوبية عن نفس السنة، وأن الذين هربوا من جحيم الشيوعية من المانيا الشرقية إلى المانيا الغربية فى الفترة من عام 1949 حتى 1961 يشكلون حوالى 3 ملايين شخص من أفضل الكفاءات فى الشطر الشرقى من المانيا وقتها، وهذا الفرار الجماعى كان السبب الرئيسى وراء بناء السور والذى ابتدأ العمل به فى 13 اغسطس 1961 بطول 165 كيلومتر يتخلله 302 برج مراقبة وبارتفاع حوالى خمسة امتار.
لقد عاش العالم على اعصابه طوال نصف قرن تخللتها احداث محفورة فى ذاكرة التاريخ،الجسر الجوى لبرلين المحاصرة عام 1948،الحرب الكورية (1950-1953)،اطلاق السوفيت للقمر الصناعى عام 1957،بناء جدار برلين عام 1961، خطاب كيندى امام السور فى 26 يونيه 1963 مطلقا عبارته الشهيرة quot; إنى مواطن من برلينquot;،أزمة الصواريخ الكوبية فى اكتوبر 1962،حرب فيتنام، غزو السوفيت للمجر عام 1962،ولتشكوسلوفاكيا 1968، حرب النجوم وتحدى امبراطورية الشر فى عهد ريجان،تحولات جورباتشوف فى الاتحاد السوفيتى عام 1985، وصرخة ريجان فى وجهه أمام بوابة براندنبرج فى 12 يونيه 1987 quot;يا سيد جورباتشوف حطم هذا الجدارquot;. والآن يقول المحللون أن الموضوع كان مبالغا فيه بدرجة كبيرة،وأن النظام الشيوعى كان مفلسا عقائديا وغير كفؤ اقتصاديا وبدائيا من الناحية السياسية وكانت نهايته حتمية،وأن هذا الخلاف الفلسفى على شكل نظام الحكم فى القارة الاوروبية وفلسفته لم يكن ينبع من كراهية وأنما تجربة لنظرية جديدة فى الحكم تصور واضعوها إنها ستمثل طفرة فى تحقيق العدالة والمساواة والرخاء لمجتمعاتهم، وفشلت هذه النظرية فى نهاية المطاف مع الأحلام الرومانسية فى العدالة المثالية على الأرض، ومن ثم كان خلافا محكوما بتطبيق هذه النظرية واختبارها على أرض الواقع.
هناك من يرى أن 9 نوفمبر عام 1989 لم يكن باهمية أول فبراير عام 1979 حيث هبطت طائرة اير فرانس تحمل الخومينى إلى طهران لتندلع الثورة الإسلامية فى إيران لتدشن هذه المرة حربا شرسة للصراع بين الحضارات والثقافات والأديان، وأن الكراهية التى انطلقت عام 1979 من الجانب الإسلامى هى سمة رئيسية فى هذه الحرب التى سوف تشكل الملمح الرئيسى للقرن الحادى والعشرين باكمله، وان الغرب حتى الآن لم يبلور استراتيجية واضحة لمواجهة هذه الحرب الجديدة.
على أن هناك من يرى أن هناك محطات رئيسية اتبعت مع العدو الشيوعى وعلينا اتباعها مع الاصولية الإسلامية مثل نظرية احتواء الشيوعية، وإذاعة اوروبا الحرة، اتفاقية هلسنكى، برنامج كارتر لحقوق الإنسان، الرسالة المسيحية للحريات والكرامة الإنسانية التى اطلقها البابا يوحنا بولس..... وكل هذه الأمور تنطلق من المنافسة على كسب العقول والقلوب، ولكن يشكك البعض الآخر فى جدوى هذه الاستراتيجية مع الاصولية الإسلامية المشبعة بالكراهية والحقد وعشق الدم والقتل والخراب، فهل هناك أكثر مما قدمته الولايات المتحدة للرائد نضال مالك حسن الذى احتضنته وعائلته من المخيمات إلى واحدة من أجمل ولايات أمريكا فى فيرجينيا ليتعلم بعد ذلك فى أرقى التخصصات واعلاها دخلا فى امريكا وهو الطب، وليحصل على مرتب سنوى بعد ذلك يعادل مرتب مائتى طبيب مصرى مثله... فهل نجحت معه استراتيجية كسب العقول والقلوب؟ وكيف يمكن ان تثمر أستراتيجية فكرية من منتجات القرن الحادى والعشرين مع شخص يعيش بعقلية القرن السادس الميلادى وببدوية وجلافة وجفاف الصحراء، وهل يمكن مقارنة سكان اوروبا الشرقية بالمجاهدين فى افغانستان والصومال وادغال اليمن؟ وأى برامج هذه التى يمكن أن تبدل عقول بظلامية عقل الزرقاوى وبن لادن والظواهرى ومحمد عطا؟.
نعم سقط حائط برلين ولكن الغرب يواجه عدوا لا مثيل لقسوته ودمويته وعشقه للخراب وله تجربة تاريحية طويلة فى الغزو والقتل وتدمير الحضارات، وعلى الغرب أن يشحذ كافة عقوله للبحث عن أستراتيجية مجدية لمواجهة هذا العدو الشرس الجديد فى صحوته القديم فى عدوانه وتخريبه وتاريخه الملوث بالحروب والدماء.