بدأت الظاهرة فى حى المهندسين بالقاهرة، بالتحديد فى شارع جامعة الدول العربية، شاب عابث يقود سيارة سبور صغيرة، سار بها إلى الوراء بعرض الشارع، وعلى الفور قلده بعض الشباب، بعد عدة ايام أصبح التقليد الشائع فى هذه المنطقة التى تزدحم بالبشر حتى الفجر هو السير بالسيارات إلى الوراء. انتقل هذا التقليد إلى الحناطير والحمير الصغيرة التى تنتشر هناك فى موسم الصيف. يبدو أن الناس كانوا فى حاجة لتقليعة جديدة إذ انتقلت الظاهرة إلى بقية الأحياء الأخرى، وفى كل يوم كانت هذه الظاهرة تجتذب أنصارا جددا إلى أن أصبح من يقودون سياراتهم للإمام هم الأقلية، لدرجة أنه أصبح من الشائع السخرية منهم وتوجيه الشتائم لهم، أنا شخصيا سمعت شابا يصيح فى وجه واحد منهم: ما تسوق كويس يا حمار... بص وراك يا متخلف.
وبعد ان أصبح من المستحيل السير بالسيارة إلى الأمام، كان من المحتم أن يسير الجميع إلى الوراء بعد ان كثرت حوادث المرور بسبب هؤلاء الذين يربكون المرور بإصرارهم على السير إلى الأمام.
انتقلت العدوى إلى المشاة فبدأ الناس يسيرون بظهورهم وقد لوحوا رقابهم إلى الوراء، وظهر فى التليفزيون من يقول فى ندوة عن المرور: لقد سار الإنسان ووجهه للأمام آلاف السنين، فماذا حقق من ذلك..؟ لا شى... جرب أن تسير بظهرك إلى الوراء وستشعر فى ذلك براحة كبرى.
وفى الأدب ظهرت نظرية نقدية جديدة اسمها quot; الورائيةquot;، وعرض المسرح القومى مسرحية ناجحة اسمها quot; أنظر وراءك فى عبطquot; نجحت نجاحا ساحقا. بشكل عام كانت الصيحة فى الأدب والفن والثقافة هى quot; هات ورا هاتquot;.
ركبنى العناد وأصررت على السير للأمام فاصطدمت بعشرات البشر، وتشاجرت مع الآخرين عدة مرات فى اليوم، وواجهت نظرات التأنيب والسخرية التى كنت أراها فى أعين الآخرين وأنا أسير ووجهى للامام، بالإضافة بالطبع للتعليقات الهامسة مثل... البلد دى لسه فيها ناس مصرة تمشى لقدام؟ الا يعنى خالف تعرف؟... سيبك منه يا شيخ... تلاقيه عايش فى الأرياف.
هل كان هذا الشاب العابث الذى قاد سيارته مسرعا إلى الوراء فى شارع جامعة الدول العربية، هل كان يعلم أنه سيتسبب فى إحداث كل هذه المتغيرات؟ أم اننا جميعا كنا ممتلئين بالرغبة والشوق الجارف للمشى إلى الوراء فجاء هو وأشعل الشرارة؟
سؤال أتركه لاجتهادات المؤرخين.

هذه هى باختصار موجز رؤية ساخرة للكاتب المسرحى المبدع على سالم لتقييم الاوضاع فى مصر. على سالم من خلال هذه الكتابات المضحكة الساخرة يحاول الإمساك بالحقيقية وتقديمها عارية للقارئ.
quot; السائرون وراءquot; هو التشخيص الدقيق لحالة المجتمع المصرى، فرغم مظاهر الحداثة السطحية والتحديث القشرى إلا ان أخطر تراجع يتمثل فى اغلاق العقل وتردى منظومة القيم المجتمعية وتفشى الفساد، ويصاحب ذلك حالة من الهوس الدينى التى أثرت وللأسف سلبيا على منظومة القيم والاخلاق... كيف يكون التدين مصدرا رئيسيا للتراجع الأخلاقى والفساد المجتمعى؟. هذا يحدث لاننا نسير إلى الوراء.
فى حالة المجتمعات السائرة للخلف يقاس نفوذ الفرد بمدى خروجه على القانون، بل أن القانون ذاته يمثل هذا التراجع ويجسمه.
فى حالة المجتمعات السائرة للخلف تندثر أو تتوارى أو تهاجر أو تكتئب الطبقة النفيسة من الكفاءات والعقول المفكرة فى الأمة.
فى حالة المجتمعات السائرة للخلف يكون الكذب حالة مجتمعية عامة والفساد مطلبا شعبيا.
فى حالة المجتمعات السائرة للخلف لا صوت يعلو على صوت المقدس وملاك الحقيقة المطلقة.
فى حالة المجتمعات السائرة للخلف تنشغل المجتمعات بالقضايا التافهة وتمتلئ صحافتها بكل ما هو غث.
فى حالة المجتمعات السائرة للخلف يتم تكفير المفكرين والمبدعين ومحاصرة الإبداع. هل يعقل ان يتم تكفير نجيب محفوظ وفرج فودة وسيد القمنى وسعيد العشماوى وخليل عبد الكريم.... فى الوقت الذى لم تصدره فيه فتوى واحدة بتكفير اسامة بن لادن وايمن الظواهرى ومحمد عطا وابو مصعب الزرقاوى؟... أى مجتمع هذا الذى يكفر فيه شخصية فى غاية السمو والرقى الإنسانى مثل نجيب محفوظ فى الوقت الذى يحتفى فيه بالقتلة والمخربين وسافكى الدماء؟.
هل يعقل ان يصاحب اعلى معدل للتدين فى مصر فى العقود الثلاثة الأخيرة مع أعلى معدل للفساد تشهده مصر الحديثة وأعلى معدل للإنحلال الخلقى؟!!

ورغم أن الفكرة الخاطئة تظل خاطئة بالرغم من كثرة المتحمسين لها، والخطأ خطأ ولو كرره الف شخص، إلا ان المعأناة الحقيقية هى محاولة السير عكس التيار الكاسح فى هذه المجتمعات المريضة، وحسب قول على سالم: كيف لهؤلاء الذين تعودوا على استنشاق رائحة المجارى أن ينتبهوا لرائحة الياسمين؟.
خبرة التاريخ تعلمنا وتنبهنا إلى أن اخطر انواع السير للوراء ذلك هو الاتجاه نحو الدولة الدينية... ومصر للأسف تتجه نحو الدولة الدينية بقوة، وما كتبه فتحى سرور رئيس مجلس الشعب لبمصرى فى جريدة الاهالى بتاريخ 8 يوليو يعلن ذلك رسميا، بأن الدولة شبه الدينية التى نعيش تحت كنفها هى سياسة عليا وليست عملا عشوائيا كما كان بعضنا يظن. وان الخطوات تجرى على قدم وساق لاستكمال عناصر هذه الدولة الدينية.
ردود الفعل على منح سيد القمنى لجائزة الدولة التقديرية تقول ذلك بامتياز، هل يتخيل احد ونحن فى القرن الحادى والعشرين أن يعلن رجل دين بارز علنيا بأنه المتحدث بأسم الله، فبعد ان كفر الشيخ محمد عبد المنعم البرى سيد القمنى وكل من اعانوه على هذه الجائزة قال على الهواء مباشرة فى برنامج يسمعه الملايين quot; مش أنا اللى كفرته.. الله كفرهquot;!!!. وعندما سئل هل قرأت لسيد القمنى أو حسن حنفى اى من كتبهما؟ قال على الهواء quot; اقرأ انا الزبالة دى!! quot;... منتهى الادب!!... رجل دين بارز وعميد سابق لكلية دينية ورئيس حالى لجبهة علماء الأزهر لم يقرا شيئا لسيد القمنى.. على أى اساس يصدر أحكامه إذن وينطق؟ ومن اعطاه سلطة تكفير البشر والتحريض على قتلهم؟، ولماذا صمت هذا المهووس على أعمال القتل والتخريب والدمار التى تقوم به القاعدة وحلفاءها حول العالم؟..
لن استطرد فى سرد مظاهر السير للوراء فهى متعددة وواضحة، ولكن تهمنى رؤية سفير دولة أوروبية فى مصر كان قبل ذلك سفيرا لبلده فى إيران لعدة سنوات حيث قال لأحد اصدقائى فى جلسة خاصة: إيران تخرج من الدولة الدينية ومصر تستعد لدخولها، واضاف ان الشعب المصرى يتجه بقوة للدولة الدينية لأن هذا يمثل رغبة شعبية كاسحة عكس إيران المحكومة بحكومة دينية متسلطة فى حين أن الشعب تواق للعلمانية ويضغط بقوة للخروج من نفق الدولة الدينية المظلم.
ليس لدى حل سحرى فى مواجهة الجماهير الغفيرة.. وأتمنى أن لا نصل إلى وقت نقول فيه:
إنك أسمعت لو ناديت حيا... ولكن لاحياة لمن تنادى.
magdi.
.comkhalil@yahoo