الأوطان الطاردة لأبنائها ظاهرة إستفحل أمرها في أكثر من عاصمة عربية. قوارب صغيرة تغرق أو تتحطم بالقرب من السواحل الإيطالية، وسفن عالقة في المحيط بالقرب من السواحل الأسترالية، وكلها تحمل مواطنين عربا وأفارقة يغامرون بحياتهم، هاربين من تسلط الأنظمة الحاكمة وجحيم الفقر والبطالة، يبحثون عن مأوى خارج أوطانهم يوفر لهم لقمة العيش وبعضا من الكرامة الإنسانية.

أخبار القوارب الضالة في البحار والسفن العالقة في المحيطات تذكرنا بما حدث بعد إنتهاء الحرب في فيتنام في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي، حيث طفا فوق الموج كل من كان يبحث عن مأوى، وكل هارب وجد أن الموت غرقا أو جوعا أهون عليه من ذل الإنتظار المهين.

في غضون أربع سنوات، هاجر قسرا نحو ستة ملايين سوري للعيش خارج بلدهم، ومثلهم وربما أكثر من العراقيين خلال العقد الأخير. ومنذ بداية الأحداث السورية، زاد عدد سكان الأردن وهو بلد صغير بنسبة لا تقل عن 25%، وتحول لبنان، وهو بلد هش إلى حد ما، إلى خزان كبير بسبب اللاجئين السوريين. هذه الكتل البشرية الضخمة لا تفكر في العودة إلى أوطانها الأصلية، بل تفكر في الهجرة الأبدية إلى البلدان الأوروبية وأمريكا وكندا وأستراليا. شعوب بأكملها تبحث عن أوطان جديدة، وما من أحد سواء من الأقليات أو الأكثريات أصبح يتحمل العيش في الوطن الأم.

هذه الهجرة المحفوفة بأخطار كبيرة قد تصل إلى الموت المحقق، تتم عن طريق شبكات التهريب التي إستطاعت بأساليبها الخاصة تهريب ما يقارب الـ 90% من حالات هجرة الشباب العرب إلى البلدان الغربية، ويبدو أنها أصبحت أكثر صعوبة وخطورة في الآونة الأخيرة بسبب الإجراءات الشديدة التي إتخذتها السلطات الإيطالية للحد من دخول اللاجئين غير الشرعيين إليها ومن ثم العبور إلى الدول الأوروبية الأخرى.&

في أحد البرامج الإذاعية عن الهجرة غير الشرعية، عبر راديو الـ بي بي سي، سمعت سيدة عربية من سوريا ترد على المذيع عندما سألها عن سبب المغامرة بحياتها وحياة أطفالها في البحر، والتي قد تؤدي إلى الموت غرقا بنسبة تصل إلى 90% في كثير من الحالات، قالت بوضوح وبدون تردد، على الأقل هناك أمل بنسبة 10% في الوصول إلى السواحل الإيطالية، ومن ثم الذهاب إلى أحد الدول الأوروبية التي قد توفر لي ولأطفالي حياة كريمة إلى حد ما، بينما لا أعتقد بأن هناك أمل بنسبة 1% (واحد في المائة) في التمتع بحياة كريمة في وطني الأصلي. أليس هذا شيئا محزنا؟

ومن المآسي الإنسانية التي ينفطر لها القلب، التي قرأتها قبل فترة قصيرة في إحدى الصحف المحلية نقلا عن الحكومة الإسبانية: إن شابا مغربيا إختنق أثناء محاولة تهريبه إلى إسبانيا في حقيبة كانت موضوعة في صندوق سيارة. وعثر على الشاب البالغ من العمر 27 سنة متوفى بعد وصول السيارة إلى ميناء المرية على متن عبارة من جيب مليلية الإسباني في شمال أفريقيا. وقال الناطق بإسم الحكومة الإسبانية في المدينة إن صاحب السيارة، وهو أخو الرجل الميت، ألقي القبض عليه بتهمة القتل. واستغاث الأخ لإنقاذ أخيه عندما رست العبارة في إسبانيا لكن خدمات الطوارئ عجزت عن إنعاشه. ويعتقد أن 3500 شخص من المهاجرين واللاجئين لاقوا حتفهم في البحر الأبيض المتوسط العام الماضي، وأن قرابة 2000 شخص لفظوا أنفاسهم خلال الرحلة المحفوفة بالأخطار حتى الآن هذا العام.

أصبح المواطن العربي يعيش في عالم "عربي" يطرد أبناءه ويدفعهم قسرا إلى ذل الغربة والحياة الهامشية والموت غرقا في البحر أو قهرا خارج الوطن. ولا يقتصر هذا الأمر على بلد أو نظام سياسي عربي بعينه، حيث أصبح المواطنون العرب يهربون من كل البلدان ومن مختلف الأنظمة السياسية، يطرقون كل الأبواب لعبور الحدود لأوطان الغربة الدائمة.

العالم العربي، في ظل هذه الظروف البائسة يتحول تدريجيا إلى سجن كبير لأبنائه يدفع الكثير منهم إلى محاولة الهجرة بأي وسيلة كانت قانونية أم غير قانونية، حتى لو كان الثمن في بعض الأحيان هو الموت غرقا أو جوعا. أصبح حلم أكثر الشباب العرب في الوقت الحاضر هو أن يهاجروا من أوطانهم في أقرب فرصة ممكنة، وفي بعض البلدان العربية الغنية أصبح عدد الملتحقين بالمنظمات الإرهابية أعلى من طالبي الإلتحاق بالجامعات. أليس هذا مبكيا؟

&