الحركة الإسلامية والإصلاح :معضلة البحث عن نقطة التوازن

لقد بدأ مصطلح الإصلاح عند المسلمين ديني المقصد والطابع، وكانت آية الإصلاح من سورة هود (إن أريد إلا الإصلاح ماستطعت) تذكيرا دوريا بهذا المفهوم التغييري والثوري الذي حفل به المقدّس الإسلامي. وكانت إطلاقية المصطلح تعبيرا على ولوجه عوالم الاجتماع والسياسة والاقتصاد، وعدم حبسه في إطار ديني وشعائري ضيق. ولقد اعتمدت الحركة الإسلامية في بداية نشأتها على هذا الفهم السلمي والمتعدد الأبعاد للإصلاح والتغيير. يقول حسن البنّا "كان من نتيجة هذا الفهم العام للإسلام عند الإخوان المسلمين أن شملت فكرتهم كل نواحي الإصلاح في الأمة، وتمثلت فيها كل عناصر غيرها من الفِكَر الإصلاحية، وأصبح كل مصلح مخلص غيور يجد فيها أمنيته، والتقت عندها آمال محبي الإصلاح الذين عرفوها وفهموا مراميها"[ ].
لقد رافق مشروع الإصلاح الذي حملته الحركة الإسلامية هنات ومعضلات في مستوى المنهجية والماهية والهدف، رجت أطراف المشروع وساهمت في ضبابيته عند أصحابه وذويه، قبل خصمه ومنافسيه، وساعدت على انتكاسة بعض الأطراف، وتهميش البعض الآخر، ودخول البعض في متاهات العنف والمواجهة.
فعلى مستوى منهجية الإصلاح، إذا كانت السلمية وتعددية الأبعاد، منهجا ظاهرا للخطاب في مفهومه للتغيير والإصلاح، غير أن واقع الممارسة قد أخلّ بهذا الطرح ووقعت الحركة الإسلامية في فخ المواجهة وردات الفعل، وحملت ولا شك نصيبا في هذا الانحراف في بعض بطونها، فأصبحت منهجية الإصلاح عند البعض تغييرا قسريا، أو انقلابا عسكريا، أو مواجهة شاملة رغم عدم توازن القوى، فوقع المحظور ودخلت الحركة الإسلامية في بعض المواقع والأزمنة أنفاقا مظلمة من التشريد والنفي والجور.
وفي مستوى الماهية فقد غلب على مشروع الحركة الإسلامية التذبذب والفراغ و حتى العدم في بعض الأحوال، وعوضت الشعارات والرموز عبئ الاجتهاد والبناء، وكانت الإضافات والإبداع نابعا من خارجها، وكثيرا ما عقم الداخل عن الإنجاب والإنشاء إلا ما ندر.
أما عن الهدف، فكثيرا ما كانت إسلامية الدولة وتطبيق الشريعة في مستواها الجزائي، الهم الأكبر والهدف الأسمى، حتى اختُزِل مشروع الإصلاح في تغيير عنوان القصر وقطع الأيادي ورجم الزاني، وأصبح شعارها إن الله يزغ بالسلطان ما مالا يزغ بالقرآن، ومن أجل ذلك هيمن السياسي وهُمِّشت أبعاد الثقافة والنفس والاجتماع.
لقد كانت الوسطية والتوازن ميزة الرسالة المحمدية، حملتها شعارا ومحتوى وتنزيلا، وهي زاوية الرؤية أو عدسة الأمة حسب محمد عمارة[ ]، ولم يكن خطاب الحركة الإسلامية المعاصرة بعيدا عن هذا الفهم، غير أن إشكالا عويصا سرعان ما برز عند تعميق التنظير وقرب ملامسة التنزيل حول تحديد المفهوم. هل هو نقطة توازن رياضية تحمل نفس المسافة بين ضدين؟ أم هي منطقة يتموج فيها التنزيل بين طرفين دون أن يلامسهما؟
معضلات سبع رافقت حسب زعمنا منطلقات ومسارات الحركة الإسلامية، وساهمت بنسب مختلفة، وحسب الإطار الزمني والمكاني وخصوصيات الزعامات والمجموعات، في التقريب أو إبعاد حراك المشروع الإسلامي حول هذه الوسطية والتمركز حول نقطة التوازن المنشودة، التي تشكل العنصر الأساسي للإصلاح. و لقد ساهم تداخل هذه المعضلات في جعل الإصلاح عملية تلامس بداية المؤسسة في أفرادها ومنهجيتها وبرامجها، قبل أن تستجيب لمطالب وتحديات واقعها الخارجي وأطرافه، الذي تشكل كلا من الجماهير والمجتمع المدني والأنظمة والغرب، جوهره النابض و المستفز والمتحدي! والإصلاح بحر سوف نقف هذه المرة عند شواطئه...

1 معضلة العلاقة مع الصحوة
هذه العلاقة العجيبة والتي تعرضنا لها بتفصيل كبير في كتابات سابقة[ ]، تجعلنا نكتفي بالتذكير بهذه المعضلة الحساسة في مشروع الإصلاح، حيث تظهر صعوبة التمركز في مقابل هذه الجماهير التي تحمل نفس مرجعية المشروع ونفس أهدافه تقريبا. فالمفارقة مع الصحوة تتمثل في أن الحركة إن اقتربت أكثر من المطلوب احترقت الصحوة، وإن تباعدت أكثر من اللزوم احترقت الحركة. فالبحث عن نقطة التوازن بين هذين الطرفين يمثل إحدى ركائز نجاح مشروع الإصلاح وإحدى تحدياته الكبرى.
لم تفرق الحركة الإسلامية بينها وبين الظاهرة الإسلامية، وخلطت عن وعي أو بغير وعي بالبعد الإسلامي للشعوب ومرجعيتها وهويتها الإسلامية، مما جعل في العديد من الحالات المواجهة بين تصور سياسي للإسلام من جهة والأنظمة الحاكمة من جهة أخرى، تتحول إلى مواجهة بين الإسلام كدين وعقيدة وهوية وحضارة، وبين سلطة تتطرف في بعض الأحيان نحو علمانية جارفة وحادة ومعاداة واضحة للدين ومظاهره. فقاست الحركة وقاست الجماهير وقاسى الإسلام.
لقد حاولنا في حديث سابق تحديد مهمات وأهداف كل طرف، والوعي الكامل بحدود التماس والخطوط الحمراء، التي لا يجب ملامستها فعلا ونظرا، والاحترام الكامل لسنن التدرج والفعل الهادئ والبنّاء، وجمعناهم في مراحل متتالية حوت على نقلات عقائدية وروحية ومنهجية وتعاملية، زعمنا أنها تشكل خلاصا وحلا لهذه العلاقة الحساسة والخطيرة، حتى يحصل اللقاء الحتمي والناجح، إذا روعي تباينه وانفصاله السابق، وسعى كل طرف إلى استكمال مراحله، دون تسرع أو مشي على أطر الطرف الآخر، وعدم خلط في المناهج والأساليب والقيادات.

2 معضلة العلاقة مع الأنظمة
لقد كان قدر الحركة الإسلامية أن تمثل مركز قوى في بلدانها، وتكون قطبا جماهيريا يحسب له كل حساب في منازعته للسلطان. ولقد فهم الحاكم قوة هذا المنافس وخطورته فسعى في أغلب الأحيان إلى استئصاله في معارك حامية يشيب منها الولدان، وقبل في البعض الآخر بتواجدها القانوني ولو على مضض، محاولا استبعاد وصولها إلى السلطة ولو على حساب قوافل من التوابيت وسيارات الإسعاف.
لقد حملت الحركة الإسلامية معضلة عويصة بين جنبيها تجاه خصم عنيد علم حجمها وفقه دورها وحمل تجاهها الريبة والخوف. فهي إن صالحت أكثر من اللزوم فقدت تميزها وسقطت في "العادية" وانضمت إلى معارضة "الديكور"، وما أكثرها في أيامنا، وإن عادت زيادة عن المقبول، سقطت في التطرف والمواجهة والتواجد على التماس والاستئصال والخروج من الحلبة برمي المنديل أو محمولة إلى غرفة الإنعاش. ولقد عاشت الحركة الإسلامية المثالين في بعض تجاربها، فمن واجه ولم يعرف قوة عضلاته ولا عضلات خصمه سقط مغشيا عليه، ومن أصبح قطعة غير مهيبة في رقعة سياسية مغشوشة، فقد أصالته وتميزه ولعله خسر الكثير من جماهريته.
ولعل بين هذا وذاك يلوح بين الموقفين موقف التواجد القانوني ولو على رجل واحدة، خير من البقاء داخل السراديب حيث تتهيأ الظهور للانحناء ولو بإكراه أو تتعود على الانفراد فتتكون عقلية الاستبداد وثقافة الاستفراد في العقول قبل منازلته لاختلافات الواقع واستفزازاته. وحتى في عدم توفر هذا الغطاء القانوني فإن الحركة الإسلامية مطلوب منها الكثير من الصبر والمعاناة والثبات على مبدئية العمل السلمي مهما كانت ردود الخصم وإثاراته فعنصر الزمن يخدمها، والعواصف لا تؤدي إلا إلى استئصالها، ومشروعها ليس سياسيا فحسب بل حضاريا، بما يعنيه هذا المنحى من طول نفس وعناء طريق وتدرج في التنزيل وصبر على البلى.
إن الحركة الإسلامية وهي تحمل هذا المشروع الحضاري لا يمكن أن تنزل إلى مستوى معارضة الديكور، فالبديل المقترح يحمل الكثير من الجديد والفريد الذي تحميه مرجعيتها، سواء في مشروعها الاقتصادي أو الاجتماعي، ولكنه بين السكون والموالاة العمياء، أو المواجهة والتهور، توجد مناطق الكلمة الطيبة والمنطق السوي والذي تمثله مرحلة التحكيم.
"إننا لنزعم أن مرحلة البحث المباشر عن الحكم قد استنفذت أغراضها، وان مرحلة أخرى أقل فتكا وجدبا وانهيارا، وأكثر واقعية وفاعلية، تبدو ممكنة الحصول. فإذا كانت المرحلة الأولى تأسست على المنهجية السلطانية الكاسحة والتي أطنبت في هيمنة السياسي وتهميش الأبعاد الأخرى، والتي أثبتت فشلها، فإننا نرى أن المرحلة الجديدة تحفها المنهجية المجتمعاتية المتأنية، ومن حركة دولة وسلطة، إلى حركة إنسان ومجتمع، ومن إنسان الدولة، المقصد والنهاية، إلى دولة الإنسان الوسيلة والهدف، ومن الحكم إلى التحكيم.
إن الدور السياسي الذي نطرحه للحركة الإسلامية الإصلاحية هو التخلي عن الحكم المباشر، ونبذ نظرية الاكتساح، وأنها الممثل الوحيد والشرعي للإسلام والمسلمين، والسعي في المقابل إلى أن تكون حركة "لوبي" مؤثر وموجه في المجتمع في إطار حزبي وتواجد سياسي ضيّق، لا استعراض فيه لعضلات، ولا تنابز فيه بألقاب التخوين والتكفير، يكون أساسه التواجد القانوني والمشاركة في البرلمان مع سقوف محددة وملزمة لكل الأطراف"[ ].
وإذا كان عالم السياسة هو عالم التوافق والتفاوض، فإن السقوف التعجيزية وتجاوز السنن ومناطحة الواقع لا يمكن أن تؤدي إلى الحوار والتعاون، وأن عالم السياسة يتطلب الكثير من المرونة والقبول بأنصاف الحلول في انتظار استكمالها، ولو تطلب ذلك أجيالا وعقودا في ظل إطار من الهدوء والبناء الرصين والمتواتر، بعيدا عن العواصف وردات الأفعال، التي لا تقيم عودا ولا تنشئ صرحا ولو من الرمال!

3 معضلة العلاقة مع الغرب
تبقى علاقة الحركة الإسلامية مع الغرب حساسة وهشة، تطبعها الريبة والتوجس من الجانبين، كان للتاريخ البعيد والقريب دور كبير وضاغط على تأزمها، وساهمت الأحداث الأخيرة في تشعبها. لقد وجدت الحركة نفسها في موقع صعب وتحديات كبيرة تمليها خصوصيات كل طرف ومرجعياته وتاريخه واختلاط المبادئ والمصالح، وتدعو إلى الجرأة والوضوح والتفهم.
فالحركة الإسلامية تبدو في تعاملها في هذا الشأن بين سندان ومطرقة، إن قبلت "بالتصالح" بدا لها أنها فقدت رمزا لمشروعها واقتربت من صفات "العمالة" و"الخيانة" ودخلت إلى بيت الطاعة، عند منافسيها ولعله حتى عند مناضليها وجماهيرها، وإن رفضت أكثر من اللزوم وحملت راية المواجهة والعداء، فإنها أمضت على بقائها خارج اللعبة التي يملك الغرب الكثير من أوراقها داخلا وخارجا، وظلت منبوذة غير مستأمنة، وعين الريبة والخوف تلاحقها.
لقد حمل الخطاب الحركي الإسلامي ولا شك توجسا مُعيقا تجاه الغرب بجناحيه اللاتيني والأنقلوسكسوني، وما الكتابات والتنظيرات في هذا الباب إلا تعبير عن هذا الخوف والعداء الذي ابتدأ تجاه بلدان الاستعمار الأولى فرنسا وانقلترا ليتعزز لاحقا بأمريكا. كانت الخنادق متوفرة في بعض الكتابات والرؤى من هنا وهناك، كان الاستنجاد بالعامل الأخلاقي أول جنود المعركة تجاه هذا الغرب "المتداعي للسقوط الحضاري"، ثم تبلور هذا العداء إلى مواقف تحمل مضامين سياسية وحتى حضارية، وكانت الأحداث المتسارعة التي خضت العالم منذ عقدين سببا في تعميق هذه الهوة وتسعير نارها. ولم تكن الضفة المقابلة بريئة في هذا التصعيد وهذه المواجهة، وتأصّل العداء في بعض الأزمنة والأمكنة حتى وقع الطلاق بين الحركة الإسلامية والغرب، حيث اختطف الإرهاب كل محاولة للتقارب والتفهم والتعاون.
يهمنا في هذه الورقة نصيب الحركة الإسلامية في هذا التوجس والتنافر والعداء، ورغم تعقيدات العوامل وخصوصية الزمان والمكان، إلا أن بعض الأسباب تبدو جلية وتكاد تصبغ كل الحركات الإسلامية، وأهمها التوجس والخلط الحاصل بين المبدأ والمصلحة، وهو حسب ظني أساس كل هذا التباعد والنفور الذي ساهمت الحركة الإسلامية في إيجاده وتعميقه. كيف يمكن أن تكون مبدئيا دون الإخلال بمصالحك، وعالم السياسة كر وفر ومناورات ؟ كيف لك أن تسعى إلى كسب مصالحك دون التعرض لمبادئك؟ هذه المفارقة شكلت المفصل ومربط الفرس في انحراف هذه العلاقة وعدم نموذجيتها.
ليست المصلحية نقيض المبدئية، وهو ما يتسارع إلى الذهنية الإسلامية وكأن المبادئ لا تحمي المصالح، والمصالح لا تحترم المبادئ. فكل مصلحي غير مبدئي، والمبدئي غير مصلحي بداية. لقد خدم رسول الإسلام (ص) دينه وقومه وعشيرته، وسعى إلى ذلك في العديد من أطوار مشواره المدني. كان دستور المدينة عنوانا كبيرا لهذه الخدمة المدنية تجاه كل فرد وقبيلة، فكانت المصلحة عامة دخلت كل بيت وخيمة، ولم يتخلى الرسول الكريم (ص) عن مبادئ العدل والحرية وحق الإنسان في العيش في أمان واستقرار والوئام مع كل الأطراف.
وكان عهد الحديبية نقلة نوعية في فهم العلاقة المعقدة ظاهريا بين احترام المصلحة وعدم التخلي عن المبدأ، سعى الرسول الكريم (ص) إلى ضمان مصلحة الدين الجديد في كسب إطار زمني ومكاني من الهدوء والاستقرار، يؤهل لفهم هذا الدين الجديد، والتفاعل معه عقلا وتمحيصا، رغم عتاب أصحابه وشكهم في جدواه، حيث غابت عليهم أبعاد كان الرسول الكريم (ص) ماسكا بأطرافها، وحيث كان الغيب وحبل السماء متمكنا في هذه الصورة الخاصة. بل سعى عليه السلام إلى ضمان مصالح الطرف المقابل، حتى أنه رضي بمسح صفته كصاحب رسالة في إعلان العهد، كسبا لنجاحه. ولم يكن الرسول الكريم (ص) مناوئا لمبادئه وهو يمضي على الصحيفة، ولم تسقط القيم النبيلة والفضائل وهو يخط للمسلمين أكبر معاهدة خدمت مصالحهم ومصلحة دينهم، حيث دخل في الإسلام في سنتي سريان العهد أكثر ممن دخل طيلة الخمسة عشر عاما السالفة!
إن الحركة الإسلامية وهي تطرح برامج إنقاذ لمجتمعاتها لا يجب أن تنس في معادلاتها هذا البعد الخارجي الذي تزايد تأثيره وأصبحت له صولات وجولات داخل أوطانها. فمبدئية التعارف والتصالح، والعمل من أجل التقارب والتفهم، يجب أن يشكلا ثقافة الحركة وعقلية وسلوك أفرادها ومنهجية برامجها وخطوط مشاريعها.

4 معضلة العلاقة بأحزاب المعارضة
لقد تعرض مسار العمل السياسي والتواجد القانوني للشأن الإسلامي وعلاقته بأطراف المجتمع المدني وخاصة الأحزاب منها، تغيرات هيكلية عميقة تمثل تناقضا صريحا بين رؤى الانطلاقة والتصورات الحالية. فمن الرفض القاسي لتواجد الأحزاب وجمعها في إطار واحد[ ]، إلى قبول بوجودها والتعامل معها على أساس من الندية والاحترام المتبادل، تَشكّلَ المسار الصاعد للحالة الحركية الإسلامية والنقلة النوعية لعلاقة الحركة مع أطراف مجتمعاتها، وهو يمثل ولا شك الصورة الجديدة لمفهوم السياسة والعمل السياسي في أطروحاتها.
هذه الإشكالية وإن تم حسمها نسبيا نحو القبول بالأطراف الأخرى داخل رقعة التجاذب السياسي، إلا أن إشكالا جديدا ومعضلة عويصة طرحت نفسها ومثلت تحديا آخر للحركة الإسلامية في مشوارها السياسي بين التحالف مع هذه الأطراف، أو رفضها والعمل المنفرد. فهي إن قبلت بالتحالف السياسي، انتهت قطبيتها وزعامتها التي أوردتها الجماهير، وأصبحت رقما في معادلة يمكن أن تتجاوزها. وإن أرادت الاستفراد بالساحة فإنها عولت على قوى ذاتية يمكن أنها لم تبلغ كمال نضجها، واستضعفت في الأثناء قوة خصم، لم ترع امتلاكه لمراكز الهيمنة، من دولة وجيش وثروات، وتجاهلت عدم توازن الكفة لصالحها. مما هوّن الاستفراد بها لاستئصالها أو استبعادها في ظل سكون البعض ولامبالاته أو شماتة البعض الآخر ومناوراته. يقول الكواكبي في هذا الباب: " إن الاستبداد محفوف بأنواع القوات التي فيها قوة الارهاب بالعظمة وقوة الجند، ولا سيما إذا كان الجند غريب الجنس وقوة المال وقوة رجال الدين وقوة أهل الثروات وقوة الأنصار من الأجانب.." [ ]
إن عالم السياسة هو عالم التوافق والتفاوض، و تكوين الأحلاف والأقطاب، فالسقوف التعجيزية والاستكبار والاستعلاء لا يمكن أن يؤدوا إلى الحوار والتعاون، وعالم السياسة يتطلب الكثير من المرونة والتفهم وسعة الصدر والرؤية البعيدة، والقبول بأنصاف الحلول في انتظار استكمالها.

5 معضلة العلاقة مع الشعب
إن المتتبع لمسار الحركة الإسلامية لا يسعه إلا الانبهار بطابعها الجماهيري، وضخامة تأثيرها في شعوبها ولو من بعيد. حتى أنها تظل حاضرة ولو غابت قانونية تواجدها، وسعت عديد الأنظمة إلى تهميشها أو استئصالها. فمن المفارقات أن غيابها عن الشأن العام المباشر، جعلها حديث الداخل والخارج، و الغائب الحاضر على الدوام، إعلاما وحكاما وشعوبا. إن هذه الجماهيرية التي تحصلت عليها الحركة الإسلامية تخفي في الحقيقة معضلة وتحديا لن يتركا الحركة الإسلامية في راحة من أمرها، فستكون مضطرة إلى الحسم المباشر في مسائل لعلها تعد من ثوابتها أو من أصولها حتى لا تخسر هذا الزخم المتعاطف معها وتخيب آماله فيها.
هل تنطلق من قدسية مرجعيتها لتطال قدسية مواقفها وأطروحاتها وعصمة رجالها وروادها فيصبح خطابها إسقاطا وعملها تعليما، وممارستها أستاذية، لشعوب لا تفقه، وجماهير لا تعقل، تعيش أمية شرعية وحياتية؟ أم أنها تقبل أكثر من اللزوم مطالب جماهيرها وتخضع لتوجيهاتها وميولها، ولو كان فيها كثير أو قليل من "اعتداء" على بعض "مبادئها" وانسلاخ عن بعض أهدافها، وتغيير بيّن لمنهجيتها؟
إن علاقة واضحة مع الشعوب تؤدي إلى استبعاد الآمال المفقودة والأحلام المنشودة، ولا تؤدي إلى الإحباط والفشل والهزيمة. فالمعادلة الصعبة التي ينبغي على الحركة الإسلامية النجاح فيها تتوازن بين احترام ثوابتها ومرجعيتها من جهة وتدافعات الواقع ومطالب الجماهير من جهة أخرى، هذه المطالب الضاغطة والمتسرعة أحيانا نظرا لتشوق هذه الجماهير وتعطشها للإشباع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي فقدته طيلة عقود وعاشت في يتم إنساني رهيب. فالحركة الإسلامية وهي لا تزال في موطن المعارضة لا ينبغي أن يكون خطابها اليوم مخالفا لخطابها في مرحلة التمكين، لن تكون دعاوي الحرية والديمقراطية والتعددية وتحرير المبادرة يافطات انتخابية فقط تمليها مناورات اللحظة، ولكن ثوابت لها مرجعيتها وتراثها و"قدسيتها" تحملها الحركة الإسلامية في ثقافة روادها وكتابات منظريها وسلوك أفرادها.
إن هذه العلاقة مع الشعوب في فهم دورها ودور الحركة تدعو في الحقيقة إلى حركة اجتهادية مع المنقول في حدود المعقول وفيما يسمح به المقدس، فلا يكون المرجع في واد والواقع في واد آخر، حتى لا تفقد الحركة الإسلامية جماهيرها وتقفز على واقعها، ولا تصطدم بثوابتها. ولعل البعض من الأقوال والأفعال التي خالتها الحركة من الثوابت والمقدس الذي لا يُمس، وهو في الحقيقة من تجليات التراث والتاريخ، واجتهادات الرجال، وإفرازات واقع غير واقعها.

6 معضلة الديني والزمني
عندما نطرح هذه المفارقة يخيل إلينا أن طرحها مغلوط، فوجود الحركة الإسلامية نفسها دليل على الحسم الذي تم، باعتبار التلازم العضوي بين السياسي والديني، والذي يمثله في الواقع هذا التحزب الذي تعيشه الحركة الإسلامية كحاملة لمشروع تعود مرجعيته الأساسية إلى تصور لاندماج الديني في الإطار السياسي. في الحقيقة فإنه رغم نسبية الحسم حيث مازالت بعض الأطراف التي بقيت محسوبة على التيار الإسلامي تلوّح بهذا الانفصال، فإن ما نريد ملاحظته بعد هذا الحسم في العلاقة الوطيدة بين الزمني والديني، هو مدى بلورته في الواقع في ظل التقاء المقدس مع البشري وضغطهما المتبادل.
لعل العقبة الأولى التي اعترضت الحركة الإسلامية وهي تعبر عباب التحزب والتسيّس تمثلت في الإجابة على سؤالين اثنين : كيف يمكن أولا الزج بالنص المنزه والمعصوم في غيابات الفعل السياسي بشبهاته واجتهاداته وحتى نزواته؟ ثم كيف يمكن ثانيا أن يُمَثَّل الإسلام كدين له حرمته وعظمته ومقدّسه واجتماعيته، من قبل طرف أو مجموعة أو فريق، دون أن يقع في جبّ الاستفراد والتمثيلية الوحيدة للإسلام؟ فيصبح ما سواه باطلا ولعله كفر، حين يلتقي التحزب مع الاعتقاد والإيمان، وما سواه من تحزب منافس يضحى كفرا بواحا!، فتلتقي بيعة الانتماء للحزب، مع بيعة الإيمان والانتماء للعقيدة والدين، فيصبح برنامج الحزب دينا منزلا، والشيخ والرئيس نبيا مرسلا.
إن العمل السياسي ليس دينا منزلا، وليس فتوى يطلقها رئيس الحركة، سواء كان فقيها أو عالما مدنيا، بل هو عمل اجتماعي تتفاوت فيه الرؤى بين الصواب والخطأ. فالفعل السياسي هو إحدى تنزيلات واجتهادات وتأويلات النص الديني في ملامسته للواقع، فهو رؤيا خاصة غير مقدسة، يشوبها الخطأ والصواب كأي فعل إنساني آخر، من قبل أطراف غير معصومين. وحتى إن وُجد على رأس الحركة الإسلامية أو احتمت بعلماء يسيّرون ركبها الشرعي، فإن مواقفها الملتزمة بمرجعيتها والتي يثبتها لها علماءها الشرعيون، تبقى مواقف غير مقدسة وتنطوي، بالنسبة لغيرها، تحت مظلة الخطأ والصواب، وليست في إطار الحلال والحرام. "إن التيار الإسلامي بحكم نوع ثقافته ومرجعياته ليس أكثر من قارئ في مدونة الإسلام، وهو ككل قارئ يمارس فعل تأويل النصوص، والتأويل اجتهاد، والاجتهاد رأي، والرأي غير مقدس"[ ] فالحركة الإسلامية في فعلها السياسي ليست حركة دعوة في مفهومها الديني وإن اختلطت السبل عند بعض رواها وعند بعض الجماهير، ولكنها حركة دعوة لبرنامجها السياسي كبقية الحركات. وهي بالتالي ليست حركة دينية ولا حركة تعيش في التاريخ الغابر أو خارج التاريخ الحاضر، ولكن حركة مدنية تعيش الجغرافيا مع اعتبار لتاريخ اليوم والأمس.

7 معضلة تموقع السياسي والفكري
إذ كانت سياسية الحركة الإسلامية أضحى شأنا غالبا داخل أطرها وبين منافسيها وأعدائها، غير أن تغوّل السياسي في أطروحاتها وبرامجها على حساب أبعاد أخرى مثل معضلة وانحرافا دفعت الحركة ثمنه باهضا في بعض الأحيان، حيث غلبت في بعض الأزمنة والأمكنة المنهجية السلطانية الكاسحة التي ولدها تكوين سياسي حدثي وحلم سياسي طفولي وفكر سياسي فضفاض وهدف سياسي رمادي، على حساب أبعاد أخرى تخلف بناءها أو همش أو ضمر. ولم تستطع الحركة الإسلامية وهي تطرق المضمار السياسي وتنسد الأبواب في مجاله، فتح أبواب أخرى ومسارات مغايرة لأن منطلق البناء لم يكن قد توازن في الأبعاد كلها والذي يمثل السياسي طرفا مهما فيها. إن الميزة الأساسية التي يحملها مشروع الحركة الإسلامية إجراء وحضارة، لا يتشكل فقط في مستواه السياسي الحدثي البحت ولكنه في مستواه الفكري والمعرفي.
لا يمكن لمشروع تغييري أن ينال مبتغاه إذا لم يكن منطلقه ومساره فكري ومعرفي، لا يمكن للتغيير أن يلامس الواقع وينجح في مشواره إذا لم يكن الفكري والمعرفي الأداة الموجهة والدافعة للبناء النظري السليم قبل أن يتنزل المشروع تنزيلا واقعيا صحيحا ومعافى.
إن ما يحدث الآن من بعض الانحرافات التي نالت الحركة الإسلامية في توجه بعض شبابها إلى منطق القوة والعنف والإرهاب كان نتيجة هذا الخرم الذي ضرب أطراف الفكري والمعرفي، والنقص الذي شهدته الحركة الإسلامية، حتى تطاول على الفتوى والتفكير والعلم في تغيير مجتمعات بكاملها أناس لا يستطيعون ببضاعتهم العلمية الزهيدة حتى حسن الإفتاء في نواقض الوضوء ومفسدات الصوم. لقد تم اختطاف الإسلام كمنهج تغيير سلمي ومتدرج وعرضه كسرك للألعاب النارية وخطف وقتل واعتداء، نتيجة هذا النقص الذي طال الفكري، وهذه الهيمنة للسياسي على بقية الأبعاد.
إن الفكري والسياسي ليسا كتلا متناقضة أو متدافعة، ولكن كلّ متناغم، لا ينفصل هذا عن ذاك، يكون المقود التوجيهي للفكري انطلاقا ومسارا، ويحمل السياسي مشعل التنزيل والمراجعة وحسن عرض البضاعة حتى ينجح الشراء. كما يسعى السياسي إلى تجميع الطاقات لتدعيم المشروع في جوانبه المتعددة ومنها الفكري ومحطاته السياسية. لكم كان عجيبا أن يكون تطور الفكر الإسلامي في شتى مظاهره السياسية والاقتصادية والاجتماعية وليد اجتهادات كتاب ورواد ومراكز ومنتديات يعملون خارج الحركات الإسلامية، لم يطئوا أرضها ولم يلتحفوا سمائها، أو أنهم تخلوا عن ظلها بعد مشوار، بل أنك لتجد في بعض الحركات أن تقتصر الأقلام وينحصر التنظير والاجتهاد على رئيس الحركة أو ذراعه وما سوى ذلك فالعدم!
هذه النقيصة الفكرية التي حملها المشروع، كثيرا ما تبلورت إما إلى مشروع أجوف أو فضفاض تعنونه شعارات جوفاء، من أمثال "الإسلام هو الحل" بما تخفيه من هروب وضعف وإخفاء، أو إلى عدم وجود المشروع أصلا، فكثير من الحركات الإسلامية لا يحمل إطارها برنامجا وحلولا تفصيلية لمشاكل وأزمات مجتمعاتها، ويبقى ردها أنها ليست في مرحلة التمكين وأنها غير مطالبة بالتفصيل. والإصلاح وإن كانت ظواهره وخواتمه سياسية خالصة فإن وجود البناء الفكري وصلاحه يمثلان صمام الأمان والنهضة الحقيقية لأي تنزيل لاحق للإصلاح في برنامج أو خطة أو مشروع. والحركة الإسلامية إذا لم تتجاوز هذه النقيصة الفادحة عند بعض شرائحها من أمية شرعية ومدنية فإنها سوف تبقى خارج لعبة البناء والتحدي، ولن ينفعها التلويح بالشعارات الفضفاضة والغمغمات في سياق حضاريي وإجرائي علمي متصاعد، وأمام تعطش جماهيري لرصد المشاريع المعروضة من هنا وهناك.
لا شك أن الحالة غير السليمة التي تعيشها الكثير من الحركات الإسلامية، من غبن وقهر وجور وتسلط، واستئصال، لن تثمر إبداعا ولا إنتاجا سليما وذوقا رفيعا، وقد تعجل بارتياد أسهل الطرق ظاهرا، من عنف ورموز وشعائر فضفاضة، في سبيل الخلاص من أغلال الاضطهاد أولا. لكن السياسة ليست جنان بابل المعلقة، ولكنها كر وفر، و في بلادنا معاناة واضطهاد، ولا أظن أن الحركة الإسلامية وهي تدخل الإطار السياسي، كانت تنتظر الورود على جنبات الطريق والزرابي المبثوثة في وسطه! إن ارتهان البرنامج والخطة والمشروع بالتدافع السياسي هو عين الخطأ ولن يبرر الفجوة والفراغ والعدم.
ختاما
لم يكن مشوار الحركة الإسلامية الإصلاحية يوما طريقا مبثوثا بالورود، كانت أطرافه أشواكا، ومساره أشواكا، دفعت من أجل الثبات عليه ثمنا باهضا ومروّعا، مما يعظم مسؤولية التواصل والوصول. كان همّ الحركة الإسلامية المشاركة في بناء مجتمعاتها والمساهمة في إصلاحها ورقيّها.
والإصلاح عقلية وثقافة وسلوك وحركة ومسار، يبدأ من الداخل ليشمل المؤسسة أفرادا وبرامج، قبل أن يطأ برأسه داخل الشأن العام. و مشروع الإصلاح ليس محطة في مشوار ولكنه مسار صاعد ودائم يتطلب الصبر والمصابرة والهدوء حتى تتمكن الحركة الإسلامية من تجاوز المعضلات المنتصبة والتحديات القائمة، والتي يجمع بينها مبدأ التنافر والتباعد نحو مناطق الغلو وعدم التوازن. هذه المعضلات التي تشكل الإجابة عنها عنصر التجاوز أو السقوط و التي تتمثل في الوصول إلى ربط علاقة واعية مع الجماهير، وبناء وفاق مع مؤسسات المجتمع المدني، وتحقيق مصالحة مع الأنظمة في ظل الحق والعدل، وتعارف وسلام مع الخارج، وحسم مباشر ونهائي في منهجيتها الديمقراطية والسلمية.
إن هذه التحديات تمثل عقبات، حسمت الحركة الإسلامية بعضها وترهلت في البعض الآخر، ولم يمهلها الواقع أحيانا في تجاوزها.والإصلاح المطروح داخلا وخارجا ليس إلا جوابا شافيا صافيا لكل هذه الإشكالات، وعنوانا بارزا لدخول الحركة الإسلامية مجال العطاء والمساهمة البناّءة والصابرة والهادئة في تنمية مجتمعاتها.

د.خالد الطراولي
مدير تحرير مجلة مرايا باريس
[email protected]