1. التـوراة

التناقض الخطير الذي لم تستطع أي من الديانات السماوية القائمة حالياً تجاوزه أو حله هو فيما إذا كان "الله" المتعارف عليه لدى سائر المؤمنين هو شخص أم معنى أو فكرة وبالتالي فيما إذا كان اسمه اسم علم لا يجوز مناداته باسم آخر غير اسمه الذي عرف به كان من كان المنادي وبأي لغة تكلم، أم اسم معنى بحيث يجوز التعبير عنه باللفظ المعين المختلف من لغة إلى أخرى. الديانات السماوية الثلاث متفقة على أن إسم "الله" هو إسم معنى وبالتالي يجوز التعبير عنه باللفظ المعيّن في اللغة، إلاّ أن النصوص المقدسة وما تحمله من معاني في الكتب الثلاث للرسالات السماوية التوراة والإنجيل والقرآن تتعارض مع هذا الإتفاق وتوضح بجلاء أن الله هو شخص يتكلم ويأمر وينهى، يحب ويكره، يغضب ويفرح..الخ
الديانات الوثنية القديمة لم تواجه مثل هذا المأزق الخطير حيث تبنت كل ديانة منها إلهاً شخصاً باسم معين، اسم علم، لا يجوز استخدامه للإشارة إلى أي إله آخر فتجد لكل أمة بل لكل قبيلة ولكل نشاط طبيعي إلهاً خاصاً له اسم خاص، للحب إله وللحرب إله آخر وثالث للطقس وما إلى ذلك، كما كان إله للرومان وآخر للفينيقيين وثالث للبابليين ورابع للكنعانيين ولكل واحد من هؤلاء اسمه الخاص به الذي لا يستخدم في الإشارة إلى أي شيء آخر. كان للآلهة أسماء علم تحدد شخصيتهم المستقلة. التوحيدية هي ما أدخل الأديان السماوية القائمة حاليا في هذا التناقض الخطير إذ لا يجوز أبداً ذكر الله الذي هو الواحد الأحد والذي وصفه بولص في إحدى رسائله قائلاً.. " لا إله إلاّ الله " لا يجوز مناداته بأسماء مختلفة من أمة لأخرى، أسماء كانت فيما قبل التوحيد أسماء آلهة وثنية.
يتجلى هذا التناقض بكل وضوح في التوراة بشكل خاص إذ لم يستطع كتبتها أو الأحرى رواتها ـ لأنها لم تكتب قبل القرن الأول بعد الميلاد وبنفس مسيحي ظاهر ـ من تجاوز هذا المأزق فسمى كل كاتب منهم إلهه الخاص بمنطقته من يهودا باسم مختلف فالإله " يهوه " ليس هو الإله " جيهوفا " والإله " ايلوهيم " يختلف عن السابقين، وظهر هذا الخلل في التوراة فجعلوا أباهم إبراهيم ينادي الله بهذه الأسماء الثلاثة التي هي أصلاً أسماء آلهة لديانات وثنية. ثم جعلوا يعقوب يضيف إسماً رابعاً هو " إيل " إله الكنعانيين الوثنيين. لاحظ حفظة التوراة هذا الخلل الذي يضفي على ديانتهم طابع الوثنية ويقلل من شأنها فأخذوا لا يذكرون الله إلاّ بصفاته العظمى مثل " شدّاي " أي الشديد القوي و " يعلون " أي العليّ و " جبّور " أي الجبار و " هاشم " أي الكريم و " أدوناي " أي السيد. وليس من تفسير لهذا الخلل في التوراة سوى أن يهودا كانت وقت رواية التوراة مقسمة إلى ثلاث مناطق ولكل منطقة إلهها الخاص بها كانت قد تعرفت عليه من خلال الإتصال بأمم أخرى وثنية وليست توحيدية الديانات. وهذا يعني مباشرة أن اليهودية كما تجسدت في التوراة لم تكن أساساً وحتى فيما بعد ظهور موسى الموحد ديانة توحيدية ولم يتعرف اليهود على الله الواحد الأحد خلال تاريخهم السحيق.
مما يقطع فيه العلماء المختصون من مؤرخين وآثاريين وأنثروبولوجيين هو أن التوراة كانت قد كتبت أو الأحرى رُويت قبل خمسمائة سنة قبل الميلاد. أي أنها لم تنزّل على موسى كما يعتقد المسلمون واليهود المتزمتون حيث أنها تروي قصصاً وأسماء ملوك وأشخاص لم يكن لهم وجود قبل القرن السادس قبل الميلاد مثل الغزو البابلي بقيادة الملك نبوخذنصر والغزو الفارسي بقيادة الملك كورش. كان البابليون بقيادة نبوخذ نصر قد غزوا سوريا وفلسطين ويهودا في جنوب فلسطين عام 586 ق.م ونظراً لاحتياج مزارع بابل مزيداً من أيدي العبيد العاملة فقد ساقوا بضعة آلاف من اليهود للعمل فيها وهو ما عرف بالسبي البابلي. ثم غزا الفرس بقيادة الملك كورش بابل والبلدان التابعة لها ومنها يهودا عام 537 ق.م وأصدر كورش بيانه الشهير حول حرية الأمم وحرر تبعاً لذلك العبيد اليهود في بابل وأعادهم إلى يهودا وأهلّهم فيها. وكان من بين هؤلاء العبيد المحررين نفس الذين كتبوا التوراة. إن من يقرأ أسفار "الأنبياء" أشعيا وحزقيال ودانيال وصموئيل وعزرا، الذي عينه الفرس حاكماً لسوريا وفلسطين، يدرك تماماً أن روايات التوراة إنما ولدت كردة فعل على الغزو البابلي. تحرر هؤلاء العبيد من الأسر البابلي وصاغوا التوراة، كتابة أو شفاهة، فزعين من سبي آخر يحل بأهل يهودا إذا ما استمروا في الإنغماس بالخطيئة بخلاف ما أمرت به وصايا موسى حيث بلغ الإنحلال الخلقي واللصوصية والإجرام حدوداً قصوى. فكان الموضوع الرئيسي لتنبؤات هؤلاء العبيد " الأنبياء " أن الإستمرار في الخطيئة لا بدّ وأن يُغضب الآلهة فتُنزل بهم سبياً آخر من قبل عدوٍ أشد قسوة من البابليين. وباعتبارهم كورش، محررهم، مبعوث العناية الإلهية فلا بدّ إذاً أن يكون نبوخذ نصر قدراً من الآلهة وعقاباً لهم على ما إقترفوا من خطايا. واستنكاراً لأي غزو محتمل وإنكاراً لشرعيته إبتدع هؤلاء الكتبة قصة إبراهيم ووعد الله له ولأبنائه من بعده بأرض فلسطين وقد فاتهم أن إبراهيم وأبناءه لم يمتلكوا شبرا من فلسطين إلاّ بعد خمسمائة عاماً، أو ألف وخمسمائة عاماً وفق تقديرات أخرى، هذا إذا ما كان من عبروا سيناء من مصر هم فعلاً من أبناء إبراهيم. ومن هنا جاءت صياغة التوراة بأجمعها، من أولها إلى آخرها، إقتباساً للأساطير والروايات السومرية والبابلية. فقصة الخلق التوراتية منقولة عن الأسطورة السومرية " اميونا أليش " التي تصف الله روحاً ترفرف فوق الغمر في محيط الظلمات. كما أن " شجرة المعرفة " كانت محوراً لإحدى الديانات البابلية. وقصة نوح والطوفان مقتبسة عن ملحمة جلجامش المشهورة باستثناء أن من نجا في فلك جلجامش كان ماكراً خدع الآلهة وليس مؤمناً كنوح. وجسد الصراع بين قائين وهابيل الصراع بين العاملين في الزراعة والعاملين في الرعي سواء في سومر وبابل أم في يهودا وتصوير هابيل بالرجل الطيب إنما جاء إمتداحاً لليهود ومعظمهم كان يعمل بالـرعي. أما قصة إبراهيم فقد أخذها هـؤلاء الكتبة " الأنبياء " عن قصة سومرية تروي أن أحد السومريين واسمه " أبرام " إضطر إلى الرحيل عن مدينة " أور " بعد أن غرقت بفيضان نهر الفرات وساق مواشيه وأغنامه مصطحباً زوجته " ساراي " وهي أخته غير الشقيقة وأخاه " لوط " إلى أن وصلوا إلى مدينة " حرّان " في أقاصي شمال سوريا حيث استقروا وماتوا ودفنوا في حرّان؛ إلاّ أن هؤلاء الكتبة أضافوا إلى هذه القصة فغيروا اسم أبرام مرتين كما في التوراة ليصبح إبراهيم ـ ويلاحظ أن اسم إبراهيم هو صيغة الجمع لأبرام كما في اللغة الآرامية العبرية ـ وغيروا إسم ساراي إلى ساره، ثم جعلوا إبراهيم وعائلته يرحلون عبر سوريا وفلسطين إلى مصر كيما يبرروا الإدعاء بأن موسى ومن عبر معه من أبناء إبراهيم.
وأضاف هؤلاء الكتبة حكاية موسى، سفر الخروج، إلى رواياتهم الأخرى؛ وحكاية موسى أقرب إلى الحقيقة إذ كان موسى الفرعوني ـ بدلالة اسمه غير اليهودي ـ من المقربين إلى الفرعون الإصلاحي " أخناتون " الذي قام بثورة إجتماعية في مصر حيث ألغى الإمتيازات الطبقية لسائر الشيوخ والأعيان والكهنة وكبار العسكريين الذين كانوا يحظون بجرايات شهرية من الموازنة العامة ووصل الأمر به إلى إنكار جميع آلهتهم مستبدلاً إياها بإله واحد لا شريك له هو إله الشمس " آتون " الذي لا يحتاج لوساطة الكهنة من غير الملك نفسه الذي كتب وصاياه العشر على ألواح حجرية وألف نشيداً لآتون هو ذات النشيد الذي أنشده الملك داؤود في المزمور رقم 104. دافع موسى عن الفقراء وخاصة مجموعات العمال الزراعيين في شرق الدلتا وأقام علاقات وثيقة معهم. بعد أن توفي أخناتون قام جميع الذين أُلغيت إمتيازاتهم بإنقلاب ضد نظام أخناتون وطارد الإنقلابيون جميع أنصار نظام أخناتون ومنهم موسى وقتلوا من تمكنوا منه. هرب موسى ومعه مريدوه وأنصاره الذين بلغ عددهم وفق تقديرات بعض الأنثروبولوجيين خمسة عشر ألفاً، وطاردهم جيش الإنقلابيين حتى عبروا إلى صحراء سيناء. إذّاك ترتب على موسى أن ينظم أنصاره فأمرهم بإطاعة الوصايا العشر التي وضعها أخناتون، وادعى الصلة بالله كما كان دأب الملوك والقادة وأن الله هو من كتب هذه الوصايا على لوحين حجريين أعطاهما له على رأس الجبل وسط نار كبرى لا يستطيع أحدهم الإقتراب منها ـ ولعل موسى أراد بالنار الإشارة إلى الشمس التي عبدها مليكه أخناتون. وبالإضافة إلى الوصايا قسّم موسى جموع الهاربين معه على النمط العسكري إلى إثني عشر قسماً أو كتيبة والتي أعتبرت فيما بعد القبائل اليهودية الإثني عشر ونصب على رأس كل كتيبة منها شيخا يرعى أمورها. ثم قسم الكتيبة إلى سرايا تضم الواحدة منها مئة رجلاً يقودهم قبطان وقسم السرية إلى مجموعات في كل واحدة عشرة رجال لهم رئيسهم؛ وقام من ثمّ بتعيين قضاة يبتون بالخلافات الطارئة بين الجماعات والأفراد وطلب منهم أن يحكموا بالعدل دون أن تأخذهم الأهواء. كل هذا يشير إلى أن موسى لم يكن رجلاً عادياً بل كان ذا خبرة واسعة في أعمال الدولة. مسئوليته الكبرى بعدئذٍ تجاه أتباعه تمثلت في إيجاد مستوطنة لهم يستقرون فيها نهائياً. فعبر بهم سيناء باتجاه خليج العقبة بعد أن علم بأن قبائل كنعانيا، فلسطين، قوم ذو بأس شديد لن يسمحوا له باستيطان أراضيهم. ثم قادهم إلى الشمال عابراً بهم ممالك عديدة متراصفة على المرتفعات الشرقية لمنخفض وادي العربة ـ نهر الأردن وكان لا يعبر إحداها إلاّ بحرب مريرة أو لقاء بدل مالي. حارب المؤابيين والعموريين والعمانيين والباشانيين حتى وصل به المطاف إلى شمال بحيرة الحولة دون أن ينجح في الإستيلاء على بقعة أرض مناسبة. ورجع عابراً بقبائله الإثنتي عشر إلى الجنوب حتى باتت شعوب المنطقة تسميهم بِ " العبرانيين " والأرجح أنهم إكتسبوا اسمهم هذا لهذا السبب وليس كما يعتقد بعض المؤرخين أنهم سموا بالعبرانيين لأنهم كانوا يعملون في مصر عمالاً زراعيين ويسمون باللغة المصرية القديمة " عبيرو " ويسميهم أهل مصر اليوم بعمال التراحيل. مات زعيمهم وقائدهم موسى قبل أن يحقق لهم الإستيطان. وأخيراً نجح خليفته يوشع بن نون باستقطاع الجزء الجنوبي القاحل من كنعانيا بعد حرب وحشية. وبعد ثلاثة قرون طويلة احتلوا القدس بقيادة داؤود وأسسوا أول دولة لهم فيها.
إستعراضنا السريع والمختصر فيما تقدم للتوراة يشير دون أدنى لبس إلى أن الديانة اليهودية المتجسدة في التوراة إنما هي نتاج لديانات وثنية متعددة أخذت بها شعوب كان لها حضارات في شرق المتوسط. وقد يسند المرء هذا الإستنتاج الهام بألف برهان وبرهان تقدمها التوراة نفسها والتي ليس أقواها النص القائل بأن يعقوب ابن اسحق كان قد تصارح الله في جبال جرش " مهنايم " وصرع الله أرضاً فسماه الله " إسرائيل " أي آسر الله !! والنص الذي يقول أن الملك النبي سليمان الحكيم إرتدّ عن اليهودية حين بلغ الكهولة. والمعنى الضمني في هذا هو أن الحكمة تقول برفض اليهودية وبرفض التوراة جملة وتفصيلاً.