العلمانية في العراق المستقبلي عامل استقرار ووحدة الشعب

نشرت هذه المقالة في كراس اوراق من الوطن، الذي كان يصدرها نخبة من المثقفين الاشوريين وهي اي النخبة المرحلة ما قبل اعلان العمل العلني للحزب الوطني الاشوري، ونشرت في العدد التاسع الصادر في حزيران 1996، ولان مضمونها يتوافق مع النقاش الذي نريد اثارته حول الدستور العراقي الجديد، فأننا نعيد نشرها، مع ادخال تغييرت تتطلبها المرحلة او ضرورة التوسع فيها.

برغم من الفشل الذي طال التجارب التي ادعت انها تقيم دولة دينية، الا إن البعض لا يزال يرفع شعار هذه الدولة، معتبرا ان القصور ليس في الدين القائد لهذه التجربة بل في الاشخاص الذين قادوا مثل هذه التجارب، ورغم انني ايضا اؤكد ان الدين واي دين قد لا يكون قاصرا في سماته العامة، والتي تميزه كدين عن الايدولوجية، ولكن حتما ان قيم الدين وجمود هذه القيم لا يمكن ان تقود دولة عصرية، يجب ان تلاحق التطورات الاجتماعية والثقافية والتكنولوجية، مما يتطلب ايضا فلسفة سياسية تتطور ايضا بحسب تطور الحياة بشكل عام.

إن المتتبع للمسار الإنساني المؤرخ، يلاحظ بلا شك التطور في هذا المسار، وخصوصا لو تتبعنا قضايا التحرر ووصول الإنسان إلى درجات أعلى في التمتع بحرية أوسع في كل مرحلة تاريخية عن سابقتها، (بحيث اعتبرت الحرية فردية أو جماعية هي التي تصنع التاريخ) وضمن هذا التطور وفي سياقه وصل العالم المتمدن إلى ضرورة فصل الدين عن الدولة، لكون الدين مسالة ضميرية تتعلق بالإنسان وعلاقته بالرب أو المعبود أيا كان اسمه، فالحساب والدينونة لا يعرفهما إلا الرب، ومن هو الشخص المؤهل لتفتيش ضمير الإنسان، أو لمعرفة الدين الحق أو الشريعة الحقة أو المذهب الحق، فالدين باعتباره مسالة اعتقاديه من حق الإنسان أن يكون حرا فيها، والحكم باسم الله بتكفير هذا الإنسان أو هذه المجموعة أو تلك من صلاحية الله وحده، والله لم يمنحها لأي شخص، والإنسان الذي هو صورة الله في الأرض أو خليفته، يجب أن يحترم وتصان كرامته. والله في الأديان السماوية يدين الإنسان في الآخرة، فليس للبشر أيا كان موقعه أن يدين الإنسان بأية عقوبة دنيوية على أساس المعتقد والإيمان، وكل مؤسسة دينية كانت أو اجتماعية أو سياسية لها قوانينها الخاصة ويمكنها أن تحكم على المنتمين إليها بان أحد أعضاءها يعتبر خارج عن معتقداتها وحسب أنظمتها المعمول بها، ليس اكثر، على أن لا يتجاوز ذلك الى فرض عقوبات بدنية عليه كالحجز أو الاعتقال أو التصفية الجسدية.

الدولة بما هي مؤسسة تعاقدية بين أبناءها الأحرار، لكي يضمنوا الحق والعدل والنظام، للوصول إلى التطور الدائم، يجب أن تنظر إلى المواطنين بنظرة مساواة باختلاف معتقداتهم الدينية والقومية أو منابتهم العنصرية أو الجهوية، والقياس الوحيد المعتمد هو مدى التزام كل شخص بالقانون الحافظ لحقوق البشر وواجباتهم.

والعلمانية والحالة هذه ليست بأية حال من الأحوال الإلحاد، بل العكس هي التي تبني الإنسان المؤمن الذي يمارس الإيمان عن قناعة تامة وليس مراعاة لتقاليد اجتماعية أو خوفا من عقاب دنيوي، فالعلمانية تفترض الحرية في كل ممارسة ما لم يكون في هذه الممارسة تجاوزا على حريات الآخرين.

والمسالة التي قد يستجد النقاش فيها هي: مدى مطابقة هذا المطلب مع ما تقره اغلب التوجهات الإسلامية والتي تعتبر الإسلام دين ودولة، فنرى القانون الإسلامي، والاقتصاد الإسلامي، والثقافة الإسلامية، والعلوم الإسلامية أو أسلمة العلوم، واعتبار العالم دار الحرب ودا
الاسلام، فدار الحرب هي كل الأراضي الخاضعة للكفار التي يجيز الاسلام فتحها واستملاكها وضمها لدار الاسلام التي هي الأراضي التي يحكمها الحاكم المسلم، وبهذا المفهوم فالفتنة قائمة إلى ما شاء الله، أو إلى حين انتصار الإسلام على أعدائه، وفي القران الكريم نلاحظ عدم وضوح هؤلاء الأعداء وخصوصا لو قارنا الآيات المكية بالآيات المدنية، وهو امر يؤدي إلى تقويض أمر الدولة الحديثة القائمة على التعاقد الحر، ويدفعنا إلى الدولة الدينية ( او الاصح السلطة الدينية) التي تحدد العدو من الصديق بمقدار قرب الآخر من معتقداتها الدينية وان شئتم الأيديولوجية، وبهذا فنحن سائرون إلى دكتاتورية بنوع آخر، دكتاتورية الدين الاكثري الذي يطلب الجنة ليس حسب معتقدات الدين وإنما بالضرورة حسب مصالح الأشخاص المتقلدين لزمام السلطة والذين سيجدون في الكتب المقدسة آيات كثيرة تدعم توجهاتهم.

إن التاريخ القريب والبعيد يرينا مدى الإجحاف الذي لحق بالاقليات الدينية التي عاشت في ظل الدول التي تدعي الاحتكام إلى الشرائع السماوية، ونحيل القارئ إذا أراد التأكد وجس نبض هذه الاقليات في العراق، إلى المسيحيين أو اليزيدية أو الصابئة المندائيين وما عانوه عبر التاريخ في ما ظل يسمى الدولة الإسلامية وخصوصا الفترة العثمانية وسيرى الفظائع التي لم يحاول أي مؤرخ عربي كشفها أو انتقادها، لا بل ظل الملوك والخلفاء الذين مارسوا التمييز الديني ضد غير المسلمين مثار إعجاب هؤلاء المؤرخين، وهذا الأمر ينطبق على المورسكيين في أسبانيا بعد زوال الحكم الإسلامي العربي عنها حيث خضع هؤلاء لمحاكم التفتيش الدينية القاسية، على أساس المعتقد والأيمان الصحيح، ففي كلا الحالتين وضع الحاكم أو الفقيه نفسه مكان الله جل جلاله، وحكم بالقتل والإبعاد وفرض الاتاوات والضرائب على الآخر لمجرد الاختلاف في الإيمان، وهذا الأمر ليس فقط بين الأديان المختلفة، وإنما مصيره بعد زوال التعدد الديني، العمل إلى إزالة كل اختلاف مذهبي واعتبار المذهب الفلاني هو الممثل للدين الحق..

وفي هذا المسار لا يختلف الدين عن الأيديولوجية التي تدعي امتلاكها للحقيقة المطلقة، ومعتنقيها هم صفوة البشر، ورأينا نتاجها في تجربة الدول الشيوعية، فالأيديولوجية منحت امتلاك الحقيقة إلى المكتب السياسي والمكتب السياسي منحها إلى سكرتير الحزب وخير مثال لذلك هو التجربة الستالينية في الاتحاد السوفياتي السابق.

إن الأديان في غالبتها تتوجه إلى الفرد، تدعوه للخلاص بإتباع طرق للحياة يتسامى عن الأنانيات ويرتقى إلى نكران الذات وزرع المحبة والوئام، وتحث المؤمن إلى ممارسة التقشف وعدم التعلق بالماديات والتطلع إلى المثال، وليس إلى الحكم والجاه، وضمن هذا المنطلق فالدين مسالة فردية، ومن يحقق هذا الهدف فله الوصول إلى المرام، والعارف به ليس غير الله مبعث الرسل والأنبياء، وليس شخصا يخضع مثلنا للأهواء.

إن تخليص الدين من ربقة الدولة، يعني إعادته إلى المنبع، إلى حقيقته، في توجيه الفرد نحو العمل الصالح والخير وزرع المحبة، كما انه يجعل الدين غير خاضع لأهواء السياسيين الذين يستغلون المشاعر الدينية لدى البسطاء لتحقيق مآرب سياسية رخيصة، الدين منها براء، وكلنا رأينا استغلال صدام للمشاعر الدينية في جريمة احتلال الكويت.

ومما يلاحظ إن وصاية الدولة على الدين تجعل اغلب رجال الدين تسير في ركب الساسة وخصوصا في الدول الدكتاتورية ذات الأنظمة الشمولية البغيضة.

كما إن تطبيق العلمانية يعني الاعتراف بحق الجماعات، الغير الخاضعة لدين الغالبية، في المحافظة على معتقداتها وخصائصها وتراثها، ويكون في مقدورها تطوير هذه المعتقدات والتراث والخصائص بما يوائم التحرر من الخوف المحكومين به، ويجعلهم منفتحين، بدل التقوقع والانعزالية الحالية، والتي جاءت جراء حقب طويلة من الاضطهادات، وهذا الانفتاح يساعد على خلق المجتمع المدني الكفيل برفد الدولة بأساس التطور وهو الإنسان الحر.

كما ان تطبيق العلمانية في الدولة، يعني العودة الى المبداء الاصيل في المساواة بين الاديان، مهما كان عدد معتنقيه، باعتبار الدولة تنظر الى حق المواطنين الطبيعي في اعتناق الفكر و(الدين منه) الذي يجدونه ملائما لهم، كما ان هذه المساواة هي الحالة الطبيعية المسايرة للتطور باعتبار التجمعات الدينين والقومية واللغوية متساوية، كما هي الشعوب متساوية في حقوقها بغض النظر عن العدد.

تيري بطرس