باتت قضية السلطة في العراق محط انظار العالم كله، ويكمن السبب، وبلا تردد، في ان امريكا تمسك كافة المفاصل الحيوية في العراق، وبات الوجود الأمريكي لا يعدو اكثر من حالة تتوزع بين المواطن والهموم التي يعاني منها والمتعلقة بمفردات الحياة اليومية، وبين الأحزاب التي تشارك الأمريكان في صياغة مستقبل العراق وفقا للمنظور الأمريكي لمستقبل المنطقة العربية والإسلامية برمتها، وهنا يتحتم على هذه السلطة ان تتكلف بمهمة الخروج بالعراق من مأزق الصراع الداخلي على هذه السلطة، أي بمعنى انها تخرج نفسها من حلبة الصراع متعدد الأطراف الى الصراع الذي يختاره الشعب، لا سيما وأنها قبلت بأن تكون في الواجهة وعلى مرأى ومسمع المجتمع الدولي والكل يدرك أن لا سلطة لها إلا فيما يخص المواطن ذاته والتفاعلات التي تخدم مصالح فئات معينة، أما البقية فعليه المعاناة والضغوط التي تتجدد وتتفاعل مع الأيام وهكذا تتحول القضية الى توتر في العلاقات متعددة الأطراف، ولكنها في النهاية لا بد وأن تحسم لصالح طرف او أكثر وفي مقدمة الأطراف المستفيدة من كل هذه التوترات هي امريكا.
لقد كان صدام حسين ونظامه الدكتاتوري ذات سلطة قوية ودموية ودكتاتورية متميزة ومعروف ان القتل والإعدامات ماهي إلا قضية أقل ما يقال عنها أنها من اجل الحفاظ على الأمن والدفاع عن السلطة وهيبتها، وهذا لم يستطع أن يخرجها من حدود ضيقة داخل العراق، فهناك كردستان كانت خارج سيطرة السلطة الدموية، ومناطق الأهوار وبعض مدن جنوب العراق تكون في النهار تحت سلطة الدولة والحزب الحاكم ولكنها تخرج عن إطار السلطة ليلا وتتحول معظم المدن بيد المقاتلين والحركات المعارضة للنظام والرافضة له، وتتواجد الطائرات الحربية الأمريكية والبريطانية تجوب الأجواء العراقية ولا تحرك السلطة ساكنا فتلجأ الى الدولة الرسمية ومن خلال القنوات الرسمية الدولية لتشجب وتستنكر، أما على أرض العراق فلا يمكن لها ان تحرك ساكنا لأنها رهينة بيد القوات الأمريكية المنطلقة من قواعد امريكية داخل منطقة الخليج العربية وقاعدة أنجرليك التركية.
وربما نجد السلطة على قرية دون قرية أخرى وعلى فئة دون فئة أخرى، وهذا ما جعل النظام يتهاوي أمام أية ضربة قوية توجه له من الخارج فما عساه يفعل ؟ العودة لضرب الشعب والتمثيل به وبقواه الوطنية التي كانت دائما ضمن مسار الأنتفاضة الصامتة منتظرا الفرصة للإنقضاض على النظام وهكذا كان سقوطه في 9 نيسان 2003 فرصة للإنتقام الشعبي من المؤسسة التي لم تكن تمثل الوطن وليس لفرد مصلحة فيها بقدر ما كانت تعكس صورة السلطة الطاغية المتجبرة، ولم تجد السلطة من يسعفها في لحظة من اخطر ما مرت به السلطة وأخطر ما مر به الوطن عبر تاريخه الحديث كله.
هنا تبرز حقيقة أهمية النظر الى الدولة لكي تكون دولة المواطن وليست دولة السلطة، فالنظام الدكتاتوري عمل جاهدا في سبيل إفراغ الدولة من محتواها الدستوري والقانوني وحولها الى محتوى ومفهو السلطة التي تمثل سلطة محدودة غير فاعلة إلا في حالة واحدة وهي تنظيم مجريات الأمور لصالح بقائها، وهنا يمكن القول أن العراق بات أضعف ما يكون لأنه دولة سلطة وليس دولة قانون او دستور، فالسلطة حولت مؤسسات الدولة من مهمتها الدستورية والقانونية الى مهمة سلطوية ودموية وهذا ما جعل المواطن ينظر للوطن من خلال السلطة فضعفت المواطنة، لأنه يرى الفساد الإداري الذي تقوده السلطة، ويرى التدهور في قيم المواطنة بسبب السلطة، ومن هنا أنفض الشعب من حول السلطة وبقيت مجاميع الأطماع الفردية والتي لا يمكن ان تعيش بدون هذه السلطة او انها قادرة على التلون مثل الحرباء لأن السلطة لمن تكن صاحبة سياسة بقدر ما كانت سلطة تشتري الذمم والمواطنة مقابل ما تقدمه من فتات لأولئك الذي نجد معظمهم الان وقد أستطاعوا التكيف مع الأحتلال بالرغم من انهم كانوا يقترحون وبتفنن كيفية مصارعة الإمبريالية الأمريكية، ويقدمون الشعب على مذابح السلطة تحت مسميات الأخلاص للقائد وللحزب والثورة.
من هنا نجد ان السلطة الحالية التي تفتقد للقدرة على مسك الملف الأمني من قوات الإحتلال تقترح هي ذاتها وبفنية عالية كيفية التعامل مع المواطن ومن زاوية الحفاظ على الأمن وسيادة القانون رغم أن القانون هو قانون الإحتلال، ورغم أن الأمن لا يمكن النظر اليه سوى أنه سوى أمن القوات المحتلة والقوات الحليفة لها،، وهذا أيضا يقلل من أمكانية نمو بذور المواطنة من جديد، فالعديد ممن كانوا يرون في النظام السابق أنه نظام الهبات والهدايا والطبقية غير العادلة، هم ذاتهم يقودون السلطة سواء المؤقتة أو السلطة التي يمكن ان تكتب للعراق دستوره ومستقبله، وهنا لا نعني بذلك الشخصيات التي تتمثل في رئيس الدولة او رئيس الوزراء او غيرهم من الخط الأول، بل يمكن أن نتعمق لنجد في المفاصل الصغيرة من هو فاعل كما كان في عهد صدام من خلال القدرة على المراوغة وتنفيذ طموحات السلطة التي لا ترى في المواطن سوى ذلك المقلق لها لأنها تراه دائما يريد منها وهي إما غير قادرة بسبب الإحتلال وهي ما لا تريد ان تعترف بذلك، أو أنه يريد منها وهي لا تريد كم هائل من البشر يقاسمها المغانم الآن لأسباب فردية واضحة وهذا تجلى في تزايد حدة الفساد الإداري والرشوة وتدني الخدمات وتدمير البنى التحتية للبلد.
ترى ما هو مستقبل السلطة في العراق ؟ ولكي نكون أكثر وضوحا.. ما نوع السلطة التي يريدها المواطن ؟ لا نعتقد بأن القضية صعبة في تحديد ملامح السلطة الحالية والسلطة القادمة، ولكن من الصعوبة تحديد مفهوم هذه السلطة وكيفية وصولها الى نقطة تحول لصالح المواطن، لا ان تصبح عبئا عليه وأداة لتدمير أحلامه وطموحاته، وقد يرى البعض أن هذه السلطة يمكن البحث لها عن أعذار إذا ما أصبحت في موقع تدافع به عن نفسها لا في موقع تدافع به عن مشروعها الوطني، فقضية المشروع الوطني الآن وفي ظل نتائج الأنتخابات لا يمكن ان يكون مجموعة من الخطب والبيانات والتصريحات، ولكنه مشروع لا بد ان يكون مشروعا قابلا للتطبيق والتنفيذ على مراحل،، فالشعب مل كثرة الأحاديث والكلام الدبلوماسي، فهو يريد واقعا على الأرض، وليس المشروع الوطني مجرد مجموعة منجزات لصالح السلطة، ولكنه مشروع لصالح المواطن، نحن نسمع من الشخصيات التي تقود السلطة أن المواطن سوف يبدأ بمساءلة المسؤول الأداري والمسؤول المالي والمسؤول العسكري، بل ويقول البعض ان المواطن سيقاضي رئيس الجمهورية – كما صرح بذلك الدكتور عادل عبد المهدي وزير المالية في حديث له مؤخرا على قناة الفيحاء - ونحن نعتقد ان ذلك نوعا من الخيال وأداة للتخدير لأن المواطن الآن يرى موظفا بسيطا يرتشي ويسرق ويتعامل خارج القانون ولا يستطيع أن يقول شيئا فكيف به يستطيع ان يحاسب رئيس الدولة او رئيس الحكومة او المحافظ الذي عينه بريمر او الذي يستمد قوته من وجود قوات الأحتلال على الأرض ؟؟
السلطة تصبح خارج اطار تصور الفرد عندما يسمع شيئا ويرى غيره على مستوى التطبيق، والشعب العراقي تحديدا في هذه المسألة بات اكثر من غيره قادرا على كشف خوافي الأمور بعد تجربته مع نظام صدام الذي كان يتكلم اكثر مما ينفذ !! هذه السلطة التي لم تقبل ان تضع يدها على الجرح الوطني سواء فيما يتعلق بالإحتلال او ما يتعلق بتنفيذ الخطط الإقتصادية، هي ذاتها سوف تجد نفسها وقد أتت من عالم لا ينسجم مع ما يريده الفرد، والسبب هو أن هذه السلطة غير قادرة على ترجمة نفسها الى مفهوم واحد هو المفهوم الوطني، وعندها تصبح مطالبة بأن تقدم شيئا يحقق للمواطن المستوى الذي كان يأمله، فمثلا جدولة خروج القوات المحتلة من العراق، وبالرغم من أنه معضلة قوية امام الوطن بأكمله وليس السلطة لوحدها إلا أن ذلك ربما يختزل من السلطة لتصبح تقرر هذا الأمر بعيدا عن المواطن، وعليه يجب أن تبرمج لنفسها المشروع قبل أن تستفتي على الدستور، وان تترجم الوضع المأساوي للإقتصاد العراقي الى حقيقة يطمئن لها المواطن، ففي الجانب المالي مثلا، كان الدينار العراقي ضعيفا جدا امام الدولار، أي أن التضخم يفوق حد التصور وحد المسموح به (( 1$=2000 دينار )) واليوم تغيرت صورة صدام على الدينار ليصبح 1$ = 1640 دينار )) والكل يدرك حجم مبيعات النفط العراقي برغم التخريب.. إذن أين الأجابة عن التساؤول الأقتصادي إذا تم تجاهل القضية الأمنية ؟ السلطة التي لا تستطيع ان توحد البلد وليكن بالقوة لا يمكن لها ان توحد قرى محافظة من المحافظات تحت امرة المحافظ نفسه،، والدولة التي لا تستطيع أن تجيب الفرد عن الوضع الأجتماعي المبهم وتواجد الكم الهائل من الغرباء الى جانب المحتلين ومعهم، فهي غير قادرة ان تلزم المجتمع بثوابت عديدة حتى وإن كانت هذه الثوابت مما يحقق للفرد الأمن الإجتماعي.
لابد من الحديث عن السلطة ومستقبلها إذن، وهذا لا يعني أننا نشكك في قدرة القائمين عليها ولكننا ومن منطلق الحرص الوطني علينا أن ننبه الى حقيقة ما يمكن ان يواجه البلد برمته وهنا على السلطة ان لا تطلب من المواطن ان يدعمها او انها يجب ان تبقى الى الأبد. فهي تواجه تحديا أمنيا حقيقيا، هذا التحدي يكمن في وجود مخاطر تعيق قدرتها على التصرف، وقد أشرنا الى الأحتلال، ولكن هناك امور أخرى حتى لو رحل الأحتلال فإن المقاومة التي لا تود السلطة الإعتراف بها هي ذاتها التي كان صدام يعتبر من يتكلم عن المعارضة يستحق الإعدام، وإذا كانت السلطة المقبلة غير قادرة على الإعلان بوجود المقاومة الوطنية الشريفة فأنها سوف تواجه معضلة وطنية لأن الجميع يرى ويعرف ويقر بحق المقاومة في مواجهة الأحتلال.
إن مقاومة الإحتلال هو واجب وطني ولا يجوز لأحد ان يصم أذنيه أو يغلق عينيه أمام حقائق على الأرض، ونتمنى للسلطة القادمة ومن موقع التواضع ووعي الحالة الحقيقة الموجودة على الأرض أن تعترف قبل أن تغرق الوطن في دمار آخر لا أحد يريده، هذا الدمار سوف يأتي من عدم قدرة السلطة القادمة على توخي الدقة في التعامل مع الواقع، وعليه يتوجب أن نهيء الفرصة للحوار مع المقاومة أولا ومع الأطراف الوطنية ربما تلك القابلة بالأحتلال ولكنها ليست في السلطة او تلك الرافضة للإحتلال وليست المنخرطة في المقاومة. فالمقاومة الآن تتوزع في مناطق العراق، ربما ليس بذات القدرة من القوة ولكنها قد تنشط بحسب الظرف الواقعي لها، وكذلك هناك أصوات وطنية وإن بدت خجولة لكنها سوف تقف الى جانب المقاومة ربما حينما تجد نفسها مضطرة لذلك بسبب سلوك السلطة القادمة، أو أنها سوف تجد نفسها في طريق طويل ملئ بالتجاوزات من السلطة أو عندما تتجاهل السلطة رغبة الشعب في رحيل الإحتلال ويصبح الإحتلال أمرا لا نقاش حوله من وجهة نظر السلطة ذاتها.
إننا لا نريد أن نضع العصا في عجلة العربة ولكن من حقنا الوطني ان ننبه ما أمكن لأننا شركاء في الوطن والشريك الوطني لا يمكن ان يصمت ولا يعفيه عدم وجوده في السلطة من مهمة التأشير لكل الخلل والخطوات التي يمكن ان تتحول الى عبء ثقيل على كاهله، ومن حقنا ان نشير الى الحلول التي تجعل من مستقبل العراق حق لكل العراقيين.
وإذا تصورنا ما جرى في زمن النظام السابق وما آلت إليه امور البلد من شبه خراب إقتصادي وتدمير لكل مكونات المجتمع والدولة خلال السنتين الماضيتين يجعلنا نقف قليلا لتأشير مخاطر الأنحدار في هكذا إتجاه دون حساب مخاطر المستقبل الذي يرتبط حتما بالسلطة التي لم تستطع خلال المرحلة السابقة، وبعكس النظام الدكتاتوري من الإجابة، عن الوضع الأمني او الفساد الأداري الذي وصفه السيد وزير الدولة قاسم داود بأنه مستشر في أعلى المستويات، كما أن تدهور الأوضاع الصحية والنفسية والإقتصادية لكل العراق يجعلنا نتشاءم مرة ثانية من مستقبل السلطة التي ربما ستنشغل بأمور هامشية وتتجاهل الأساسيات التي لا بد ان تكون من اولويات أية حكومة، كما نخشى من التستر بستار مقولة (( حكومة تدبير أمور )) وهكذا يكون العراق ضحية حقيقية من ضحايا الحكومات التي لا تملك لنفسها سوى جني المكاسب الشخصية وتجاهل مستلزمات الحياة اليومية، وعلى هذا الأساس من الضروري أن تكشف لنا الحكومة القادمة وبالأحرى السلطة القادمة آليات الأداء المستقبلي لها، وبشكل يضمن للمواطن القناعة بالحد الدنى والقبول بمفهوم السلطة تحت ظروف الإحتلال أو تحت ظروف بلد يعاني من متغيرات دموية وسياسية صعبة.
إن المستقبل الذي نراه سوف يتجسد بما يلي:
أولا: تفشي ظاهرة الرشوة والفساد الأداري بما ينهك البلد مستقبلا ويجعل الأزمات تتلاحق بشكل يستعصي أيجاد حلول للعديد من الظواهر في هذا الميدان.
ثانيا: بروز مفهوم السلطة وطغيانه على مفهوم الدولة والقانون وذلك بسبب حالة من الأحتقان من ماضي العراق في ظل النظام الدكتاتوري مما يجعل غالبية من سيكون في السلطة سيسعى الى تقليد أساليب الإدارة والتصرف إزاء حقوق الشعب، وهنا سوف تبدأ البنية الإجتماعية بالتحطم إذا ما لم تلتفت القيادات الرئيسية لمعالجة هذه الظاهرة وبشكل سريع وحاسم.
ثالثا: تدني مستوى الإداء الإداري للسلطة وهذا سوف ينعكس على مستوى العلاقات بين مستلزمات النهوض ومستلزمات المعالجة الحقيقية لأية خطة إصلاح إداري او إقتصادي.
رابعا: تفشي ظواهر عديدة في المجتمع تضاعف التعقيدات أمام الحكومة والسبب يعود للسلطة وليس للدولة لأن السلطة عندما تصادر مسؤوليات الدولة الخاصة بتدبير أمور المواطن، تصبح لا محالة غير قادرة على جمع الشعب حولها لمستقبل آخر يتعلق بالأنتخابات والأستفتاء على الدستور.
ولكي تكون الدولة او السلطة المستقبلية قادرة على الوفاء للشعب الذي أنتخبها عليها التنازل عن الكثير من المبررات التي تسوقها في حالة أي فشل يواجهها مستقبلا في الأداء والتعامل مع المتغيرات ذات العلاقة بالمواطن مباشرة.
والمطلوب من السلطة القادمة صراحة هو إبعاد كل العناصر التي لا تفهم الفرق بين السلطة وبين الدولة التي تخدم الشعب، وتمنح البقية فرصة تلمس الإجابة عن تساؤولات الشعب نفسه، ولا سيما أولئك القادرين على مراقبة الأمور بعين الشعب لا بعين المعارضة او المقاومة او الند الذي يتربص بنده.

الدكتور
أستاذ عراقي مقيم في ألمانيا