يتصدر الأهتمام الوطني قضيتان: الأولى المقاومة وثانيهما الأرهاب، وبين هاتين القضيتين تتصاعد بعض الأصوات التي ترمي باللائمة مرة هنا ومرة هناك، ويتخلل الحديث عنهما قضية الحوار الوطني او ما يطلق عليه بالمصالحة الوطنية، وفي جميع الأحوال لا يمكن توجيه اللوم لطرف وترك البقية يتظاهرون او يريدون من الاخرين أن يعذرونهم، بل ويؤيدون وجهة نظرهم وكأن هذا الطرف أكثر وطنية من ذاك، او ان العراق بات لفئة دون اخرى، مما يرجح لهذه الفئة او تلك ان تنفرد بالعراق من شماله الى جنوبه دون ان يؤخذ بنظر الأعتبار ان التغيرات السياسية مهما كانت فلا بد ان يبقى شيء واحد وهو ان العراق للجميع، ولكي لا نطلق الكلمات جزافا، فقد سعت السلطات العراقية بعد سقوط النظام السابق لتسلك مسلكا لا يليق بها لأنها سارت في الطريق الذي سلكه النظام السابق، وهو انه كان يعاقب مدينة او عشيرة عندما يخطأ فرد من هذه العشيرة او مجموعة من هذه المدينة أو من تلك، وقد لمس المواطن حقائق من هذا النوع، وعليه نتمنى ان لا نترك أحدا يشعر بأنه هو المقصود بكلامنا ولكن المواقف التي بات المواطن يتلمسها تجعله يستعيد المواقف السابقة رغم دعاوى البعض بأن امريكا قد حررت العراق من النظام الدكتاتوري، ولكنهم يتجاهلون أن أمريكا خلقت فئة جديدة او عدة فئات قد تفوق صدام ظلما لو أن الفرصة سمحت لها.
من هنا نريد ان نتوجه الى بسط الحديث للجميع وترك الكل يرى ويسمع ومن لديه هموم فليطلقها الآن قبل أن تتمادى بعض الأطراف لتجعل من نفسها وصية على العراق وهي تحتمي بالإحتلال وتطلب من الشعب ان يكون مطيعا لها بأسم الحرية والديمقراطية وحماية الأمن وسيادة القانون. وإنطلاقا من ذلك يصبح الأحتقان الداخلي وعدم الثقة بالسلطة هو الملاذ الوحيد لغالبية الأطراف التي باتت لا ترى في نفسها سوى السيف المسلط على الأقتصاد وحقوق المواطن، صحيح أن الديمقراطية تسير بخطى متسارعة من وجهة نظر الذين وصلوا للسلطة ولكنها في الحقيقة لا تمثل سوى الحد الأدنى من طموح البعض ممن أستطاعوا ان يستغلوا السلطة اليوم لصالحهم ويتركوا العبث بالأمن والإقتصاد، ما هي سوى مرحلة من مراحل لتثبيت الإحتلال وتمكين القوى التي لا تريد من العراق سوى ذلك المتكأ الذي يحقق لها مشروعها في المنطقة وبلا شك المشروع الأمريكي الذي لا يعدو سوى نسخة طبق الأصل من مشروع شارون في المنطقة العربية برمتها.
ولأجل ان نتحاشى الأنفجار الداخلي والحرب بين الكتل والأحزاب والفئات غير الوطنية، فأنه يتحتم ان نسعى لإمتصاص النقمة الشعبية التي باتت تتزايد بفعل الظلم الطبقي والشعور بالأضمحلال أمام جبروت المحتل والدور الذي تقوم به بعض الأطراف الداخلية، في أنها تجعل من نفسها دليلا للمحتل لكي يهين المواطن ويتجاوز على كرامته ويهدر قيمه ويغمط حقوقه، وعندما يشعر المواطن من موظفين وعسكريين محترفين أنهوم أهينوا بوجود الإحتلال ولا سيما أن الأمر بات إما بيد المليشيات المسلحة او بيد الفئات والكتل السياسية، فأن ذلك سوف يدفع بهؤلاء ليصبحوا جيوشا محاربة ويلتحقون بالمقاومة او بفئات يطلق عليها التنظيمات الإرهابية، وعليه نحن بحاجة الى مشروع وطني متجانس ومتكامل يسعى لتلمس الحقائق التي يعيشها المواطن ومنها ننطلق للمعاجة الحقيقية بضرورة ان يسود القانون ويتساوى المواطن مع غيره سواء مع من جاء مع الإحتلال او من جاء تحت عباءة المليشيات المسلحة وهي التي أصبحت فاعلة غير مسؤولة وهذا سوف يدفع شيئا فشيئا الى تعدد بؤر المقاومة لتشمل العراق كله،، والسبب يكمن في ان اللحمة الوطنية الإجتماعية في العراق تحديدا هي التي أسمهت بشكل فاعل للجم الحرب الطائفية او الأهلية، وهي التي سوف تدفع الى تكامل الفعل الوطني المقاوم لا سيما إذا ما طال أمد الوضع السياسي وعدم وضوح الرؤية من الإحتلال ومن تساؤولات عديدة أهمها البطالة والتدهور الإقتصادي، وعندها فإن اللحمة الوطنية والإجتماعية لا يمكن ان تسهم بقدر كبير في ترتيب الأوضاع الأمنية بقدر ما تسهم في تنامي الفعل المقاوم.
وعندما نتحدث عن المشروع الوطني فإنه من غير الممكن لأي مشروع يطرح ان ينال القبول والرضى بمعزل عن الأستجابة للعديد من التساؤولات وفي مقدمتها تواجد الإحتلال الأمريكي والعلاقة الأقليمية غير الواضحة في تسيير أمور الدولة، وهنا لا بد ان نكون قادرين على تلمس الأخطاء التي لا زالت تتخبط فيها الحكومات (( حكومات تدبير الأمور )) وهذا سينعكس مباشرة على الطبقات المسحوقة والفقيرة التي تواجه الأزمات الفاعلة في حياتها إذ لا يهم البعض من هذه الفئات أية حكومة تأتي بقدر ما يهمها ماذا ستقدم هذه الحكومة لها بعد ان جاءت تحت شعار تحرير المواطن من ظلم الدكتاتورية.
إن الحوار الوطني الذي لا يمكن تفعيله الآن ليس بسبب قصور طرف في الحوار أو عدم أستجابته للحوار وللمساعي الوطنية، كما يحاول البعض تصويره، ولكن بسبب تنامي المقاومة والإرهاب في آن واحد ومحاولة البعض أن يزاوج بين المقاومة والإرهاب ويصر على تحميل طائفة أو فئة او حركة مسؤولية تدهور الوضع الأمني والإقتصادي، ولا يقبل بأن تتحمل السلطة التي تقبل بأن تقود البلد الى الهاوية والخراب، وبأشراف قوات الإحتلال الأمريكي مسؤولية عدم قدرتها على طرح مشروع حقيقي للحوار او مشروع وطني للمصارحة وليس المصالحة ويتلخص في:
أولا: أن الحوار الوطني الوطني يبدأ على أرضية تنطلق من إعلان الحكومة عزمها مطالبة المحتل بجدولة زمنية للرحيل المنظم، مع الأخذ بنظر الأعتبار المصالح المشتركة بين العراق كدولة وبين امريكا كدولة عظمى، وهذا سوف يتيح للجميع ان يطرح تصوره لمستقبل هذه العلاقة المبنية على مصالح أستراتيجية واضحة.
ثانيا: أن المشروع الوطني هو كتابة دستور عراقي للعراقيين جميعا وسلطة وطنية يديرها الأغلبية الفائزة بالإنتخابات ويشترك فيها الأقلية التي تريد أن تبني هذه المشاركة بضوء الحوار الوطني وإعلان الحكومة بمشروع الجدولة الزمني للإحتلال.
ثالثا، أن يكون هناك فصل داخل المشروع الوطني للحوار يتضمن فصل رؤية الدولة او السلطة ما بين الإرهاب والمقاومة، وبذلك سيأتي المقاوم مرفوع الرأس ويثق بالسلطة ليحاورها بضوء مشروع جدولة رحيل الإحتلال، ويسهم في محاربة الإرهاب.
رابع: أن يكون الإعلان عن الحوار الوطني هو بداية مشروع كتابة الدستور وان تنطلق في هذا المشروع نقاط الخلاف بين السلطة وبين المقاومة وأن يتم تسمية الجهات التي تؤيد بقاء قوات الإحتلال وتبعيتها للمشروع الأمريكي، وفي ذات الوقت يتم تسمية الفئات والجهات التي تنتمي للمقاومة ويعلن عنها للجميع مع شرط تحمل السلطة مسؤولية أمن وسلامة القوى المقاومة، بما يتيح الفرصة لتنمية الحوار الوطني الذي يخرج منه مشروع وطني متكامل تقبل به كل الأطراف.
رابعا: إبعاد الأطراف الأقليمية عن مجرى القضية الوطنية العراقية، وان لا يسمح بالتدخلات التي يتم من خلالها تأجيج الحقد بين أبناء الشعب العراقي.
وتأكيدا على هذا تبقى أمامنا قضية الفصل بين الإرهاب والمقاومة وهي مهمة شاقة وصعبة تتعلق بتنفيذ ما ذهبنا إليه، ولا بد من القول ان المقاومة الوطنية اليوم باتت تذبح مرتين:
الأولى: تذبح المقاومة من قبل السلطة المؤقتة بأسم الحفاظ على الأمن الداخلي، في حين ان ذلك يعني قتل المقاومة لأنها تحارب المحتل، والأمن الداخلي هنا يعني من وجهة نظر السلطة، أمن قوات التحالف، وهي القوات الأمريكية والبريطانية، وعلينا ان نفهم قضية مهمة، هي أن أية مقاومة مهما كان نوعها وحجمها لا تكتسب شرعيتها من دون ان تكون موجهة ضد المحتل، وعليه فإن المقاومة نفسها لا تقبل بأن تتجاوز الحدود الوطنية وتقتل الحرس الوطني او قوى الأمن المختلفة ولكن لا يمكن ان نعيب عليها محاربة المحتل والقوى الخفية التي جاءت معه.
والثانية: أن المقاومة تتم محاربتها وتدمير المدن وقتل الأبرياء بأسم محاربة الأرهاب، وهنا أخطأت بعض الأطراف الوطنية ومنها أطراف السلطة ذاتها في الخلط بين الأرهاب وبين المقاومة، وعليه لا يمكن ان تسمح المقاومة لنفسها ان تدرج في قائمة الإرهاب ولا يمكن أن تقبل بأن تذبح مرتين.. مرة بأسم الأمن الوطني وسيادة القانون ومرة بأسم الإرهاب.
فالقضية لا تقبل الخلط او عدم الوضوح، وهي أن المشروع الوطني والحوار او ما يطلق عليه بالمصالحة الوطنية، يتجسد في إعتراف العديد من الأطراف بالمقاومة كمشروع وطني اولا، وثانيا أن المقاومة هي جزء من هذا المشروع وقبولها كطرف شريك بالوطن وبالمستقبل.
والمساحة الوطنية المسموح التحرك عليها لتحقيق ما نحن بصدده يتجلى في أن العراق خرج من دائرة الدكتاتورية ولا يمكن ان يعود للوراء ومن يقول بأن المقاومة تريد للعراق ان يعود للوراء، ما هو إلا هراء وتبدل الحقائق وتجنى على قضية وطنية، والمحتل يحاول أن يبقى هذه المفاهيم سائدة لأن قبول كل الأطراف بقيمة المقاومة يجعل المحتل يقف في مكانه الطبيعي وهو انه محتل وبلا إطار قانوني وعليه ان يرحل وهذا لا يخدم مشروع امريكا في المنطقة، وكذلك لا يخدم مشروع البعض ممن يريد ان يكون العراق حصة دائمة لمجموعة ويتناسى ان بقاء صدام أكثر من ثلث قرن في السلطة لم يحميه من وجود قوة إحتلال أستطاعت ان تزيله ليحل محله طرف آخر سوف يستمر من اجل المشروع الأمريكي، ولكنه لن يستمر طويلا.

الدكتور عبدالله يوسف الجبوري
أستاذ عراقي مقيم في ألمانيا