من أين تأتي الطعنة الغادرة؟!
إلى متى يظل عرب الجوار يزينون جثثنا بالموت و يحتفون بالقتلة ؟ و متى يتوقف هدير نهر الدماء الثالث في بلاد ما بين النارين ؛ نار الحرب الطائفية التي يحمل لوائها الآن بعض من العرب السنة و قد زينت لهم الباطل أحقاد فرسان الجوار ممن يتشهون سفك الدم العراقي بتلذذ مريض، و نار الحرب العنصرية بدعوى أن هؤلاء وحدهم، دون شركائهم ( الآخر ) –ين في المواطنة، شعب الله المختار من العرب الأقحاح الذين اصطفاهم رب العزة و فضلهم على العالمين أجمعين. ألا ساء ما تظنه عقول مريضة إلى هذا الحد !
ففي السلط تحتفل عائلة القاتل الأردني الهالك في سعير الحقد على العراق، و تتلقى التهاني و التبريكات ممن يتلثمون بالإسلام لا لشيء إلا لأنه قد تمكن من سفك الدم الطاهر لأكثر من 300 عراقي بين شهيد أو جريح في مدينة الحلة، ظنا منه و منهم أن الضحايا شيعة فقط. و لا يعرف هؤلاء الذين إلتاثت قلوبهم و فسدت عقولهم أن الحلة مثل باقي مدن العراق الأخرى تتعايش فيها كل أطياف الشعب العراقي من شماله إلى جنوبه.
و أنى لإرهابي كرائد منصور البنا أن يستهدف الشيعي دون غيره وسط حشد من المدرسين و الموظفين من كل نوع ؟ و لماذا يصبح أي تجمع شيعي هدفا محتملا للقتلة تبيحه لهم فتاوى أئمة الظلال ممن ضاقت بحقدهم السموات و الأرضين ؟ و كيف فات هؤلاء الأخسرين أن الشيعة ورثة و أحفاد أبي الأنبياء، إبراهيم الخليل (ع) الذي ولد في الناصرية العراقية لا في السلط أو القامشلي أو الرياض و غيرها. و هو بالذات من بذل العرب و المسلمون معا جهدهم لكي يتشرفوا بالانتساب إليه لا العكس كما يهلوس العروبيون و ينبحون ليل نهار.
ثم أي إسلام هذا الذي يستحل دماء المسلمين بسبب تنوعهم المذهبي، و يمجد القتلة الذين يمنعون رحمة الاختلاف التي أشاد بها نبيهم الذي يظهرون إتباعه ؟ أفلا ينظرون إلى التنوع المذهبي في الطائفة الواحدة. فالسنة – مثلا – فيهم الشافعي و الحنبلي و المالكي و الحنفي الخ..و كذا غيرهم. أم أن بدع الحقد السلفي التكفيري الذي يقف، الآن، إلى جانبها العروبيون يخفي ما هو أعمق من ذلك و أخطر ؟
إذ ما ان انهار نظام صدام، شيخ أشياخ القتلة في الشرق الأوسط، حتى تكشف هول الصدمة عن مجتمعات كراهية أنشبت مخالبها و أنيابها في خواصرنا، و راحت تلغ في دماءنا، لمنع ولادة عراق جديد لا يريد أن يكون مجرد بقرة حلوب لكل من هب و دب من رعاع الأرض على حساب العراقيين. فما انطفأ مصباح في بلاد الرافدين إلا و أضاء في بلد من بلدان الجوار أو غيرها و ما هذا بخاف على أحد.
و بالإضافة إلى هؤلاء المتضررين من سقوط الطاغية، هنالك من يخشون على امتيازاتهم الراهنة من أن تعصف بها رياح التغيير الديموقراطي التي يتوقع هبوبها من العراق الجديد. و يشكل كل من هؤلاء و أولئك ( المتضررين و المتخوفين معا ) الطبقة التقليدية سياسيا و عسكريا و اقتصاديا، تلك التي حكمت بلدان الشرق الأوسط منذ عقود. و يعرف الجميع كيف رعت هذه الطبقة المتنفذة التيارات الدينية المتشددة إلى الحد الذي كانت تعتقد انه لن يشكل خطرا عليها، واستخدمتها ككلاب حراسة للوقوف أمام المد اليساري طوال الحرب الباردة. و بالطبع أنا لا أقصد بهذه الطبقة النفعية المتنفذة الحكومات الرسمية في هذا البلد أو ذاك بقدر ما هي طبقة تقليدية حاكمة بصرف النظر عن وجود تلك الحكومات الرسمية أو تبدلها.
و كان الحلف الشيطاني، بين هذه الطبقة النفعية الانتهازية و كلاب حراستها المتلفعة بلثام الإسلام، يقوم في الأساس على كراهية ( الآخر ) و نبذه و إقصائه ( و هو الشيوعي أو الثوري أو الملحد آنذاك ) ليتطور، من ثم، إلى رغبة في الفتك بكل معارض، و مختلف عنهم، و ( آخر ) ممن يحسبون انه قد يشكل خطرا يتهددهم. فتكرست قيم التسلط و القمع و الاستبداد على كل من مستويي الحاكم و المحكوم معا بفعل هذين الطرفين. و ما بينهما راحت تسعى أجيال من المثقفين الانتهازيين لمسح أحذية الحكام و تمسيد لحى كلاب حراستهم. فسكتت الأقلام و الحناجر بعدما ماتت الضمائر عن التنديد بمشاعر الكراهية المرضية لدى شعوب الشرق الأوسط التي تدفعها وطأة البؤس الذي ترزح تحته إلى تحميل ( الآخر ) - ين أيا كانوا مسؤولية ما هم عليه.
و لعل هذا وحده يفسر ما لمسته شخصيا من ابتهاج بعض العرب و المسلمين، على نحو منفر، في كل من سوريا و الأردن و غيرها، عندما انتحرت بحقدها ثلة من أسوأ ما أنتجه التعصب الإسلامي و العروبي، مخلفة آلاف الضحايا الأبرياء في (( غزوة منهاتن )) سيئة الصيت في 11-أيلول ( سبتمبر ). حيث تبادل المواطنون العاديون التهاني و التبريكات على نطاق واسع و ملحوظ. و كانت مشاعر الارتياح و السرور بادية على وجوه الناس و بتشف لا يعتاش إلا على آلام ( الآخر ) ين من الضحايا الأبرياء. حتى انك كنت لتسمع الناس و هم لا يخجلون من رفع عقائرهم بالدعاء لشيخ مجموعة الذئاب البشرية، ((المجاهد)) أسامة مثلما يبتهلون إليه.
و الجهاد الإسلامي لدى هؤلاء ما هو إلا رداء فضفاضا يمكن أن يتسع – حسب الظروف – للأحقاد و الجرائم من كل نوع، كقتل المدنيين الأبرياء و الاصطفاف مع الطغاة و العبث بحياة الآمنين و نهب ممتلكاتهم إلى ابتزاز عواطف البائسين و ضعفاء العقول ممن وقعوا في دائرة سحر الإعجاب بقتلة إسلاميين من أمثال أسامة بن لادن و الزرقاوي و أضرابهما. لذا فان الجهاد، كما هو معتاد، عند هذا النوع من العرب و المسلمين مجرد باب من أبواب تصريف مشاعر الحقد و الكراهية ضد "الآخر".
و لعل العراق الآن يشكل بالنسبة لشعوب الجوار نموذجا مثاليا لتجسيد مخاوفهم من "الآخر" المختلف بسبب ظهور الشيعة على الساحة السياسية و هيمنتهم على التنوع الديموغرافي المعقد، و لوجود أمريكا المقلق و خططها المعلنة لتصدير الديموقراطية انطلاقا من النموذج المرتقب الذي تنوي التأسيس له في بلاد ما بين النهرين. و ربما استدعى خوفهم المتوقع من كل ما يمثل هذا "الآخر" المعاصر ذكرى مخاوف تاريخية قديمة يبدو ان جراحها لم تندمل بعد. و إلا بماذا نفسر استعادة القتلة لمسميات من قبيل جيش "الشام"، وهو فصيل من فصائل القتل و الذبح في العراق الآن.
إذ يمكن أن تحيلنا إشارة كهذه إلى الصراع الأزلي بين قيم الثقافة الزراعية المتحضرة لدى العراقيين مع قيم الثقافة البدوية المتدنية لدى الشاميين بفعل حلفهم التاريخي مع أعراب الجزيرة العربية. و كان هذا الصراع قد غذته العداوات التاريخية الغابرة التي خلفتها الصدامات بين دولة المناذرة العراقية و الغساسنة الشامية، ثم النزاع المرير بين الكنيسة الشرقية في طيسفون العراقية و الكنيسة الغربية، وصولا إلى الاقتتال الدموي بين العباسيين و الأمويين و انتهاء بإثارة مشاعر العنف الطائفي و المذهبي بينهما والتي يغذيها في المقام الأول الخوف المرضي من "الآخر" و عدم الرغبة في تقبله.
و لكن من أين تأتي الطعنة الغادرة، و من يتحمل المسؤولية الأخلاقية عن الجرائم التي ترتكب بحق العراق غير نفر ضال من العراقيين الذين ماتت ضمائرهم ؟ فترى إليهم و قد تلثموا بحزام الغدر الناسف لمن يجندونهم بدعوى الجهاد تارة أو تلثموا بسكاكين قطع رقاب الأبرياء بدعوى المقاومة تارة أخرى. و غفل هؤلاء عن ان العراقيين من العرب السنة كان لا بد لهم – عاجلا أم آجلا – ان يدركوا خطئهم حالما يتذكرون أنهم عراقيون أولا، فيعزلونهم و يصطفون مع شركائهم في الوطن مثلما يهيئون أنفسهم لكي يفعلوا الآن.
إذ ان العرب السنة مكون أساسي لتحقيق التوازن السياسي الضروري لبناء العراق الجديد. و لقد ولت إلى غير رجعة تلك الأيام التي كان فيها هذا التكوين ينفرد بالحكم دون الكرد في الشمال بحجة انهم ليسوا من العرب، و ينبذ الشيعة في الجنوب – طائفيا بسبب من اختلافهم المذهبي، و عنصريا بذريعة التشكك الدائم بعروبتهم. و ما آليات طرد و نبذ و إقصاء ( الآخر ) ين هذه إلا وسائل لتحقيق أغراض سياسية كانت تخدم، في المقام الأخير، تبرير حكم الأقلية على الأغلبية، مع كل ما ينجم عن ذلك من مشاكل اجتماعية و سياسية خطيرة لا يمكن تفسيرها إلا بالخوف من ذلك (الآخر) الذي يتهدد دوما من يشعر به بالقلق و الضياع.
و من ناحية أخرى، لعلي لا أجانب الصواب إذا ما نظرت إلى دور هذا الخوف من ( الآخر ) في تفسير قلق و عدم ارتياح العراقيين في الداخل من شخصيات و أحزاب المعارضة القادمة من الخارج منذ أول اجتماع لها في الناصرية عقب سقوط نظام صدام مباشرة. فمن منا لا يذكر الشعارات العدائية التي رفعها المتظاهرون الشيعة في الناصرية خارج خيمة الاجتماع و هم يهتفون : ((نعم. نعم. لأحزاب الخنادق. كلا. كلا. لأحزاب الفنادق)) و التي تجسدت أخيرا في ظاهرة المتطرف الشيعي الشاب مقتدى الصدر. و من منا لا يذكر، في المقابل، كيف كان المتطرفون من السنة العرب يتهمون الأحزاب العراقية العائدة بالعمالة للأجنبي و بأنها جاءت على ظهر الدبابات الأمريكية، و كيف تحولت هذه المشاعر العدائية، من ثم، إلى رفع السلاح و سكاكين قطع الرقاب و تجنيد الانتحاريين ممن كفروا بنعمة الحياة و انتهاء بحرق و تدمير البنية التحتية لصناعتي النفط و الطاقة الكهربائية و ما إلى ذلك.
لكن الرهان الآن إنما هو على بناء أمة عراقية جديدة على أسس المواطنة و العدالة و التداول السلمي للسلطة. لذا فان اصطفاف السنة العرب مع شركائهم (الآخر)ين في الوطن، يمكن أن يخدم كثيرا في تبديد بعض المخاوف المشروعة من احتمالات تطرف عنصري لدى الكرد أو تطرف طائفي لدى الشيعة أو تطرف عنصري – طائفي لدى العرب السنة. كما يمكن لهذا الطرف المغيب بإرادته ان يرتقي بمواقفه إلى التحالف المتوقع، مثلا، مع القوى الليبرالية المعتدلة لإعطاء فرصة لتهيأة التربة لظهور الغالبية السياسية المرجوة بدلا من الغالبية الطائفية أو العنصرية. و بالنتيجة سيهتدي العراقيون إلى بناء شخصيتهم الوطنية التي يسهمون جميعا في بنائها، فلا يشعر أحد منهم بالنبذ أو الإقصاء مثلما يشعر البعض الآن.
و حتى ذلك الحين، ينبغي أن يكف الضالون من بعض العراقيين عن التلثم بشعار لعبة المقاومة المسلحة - و قد افتضحت نواياها الخبيثة - أو التستر وراء كل من تلقي بهم جيف البطون على العراق من قتلة و مجرمين. و حتى لا تتكرر المأساة و لكي يتوقف، في النهاية، نهر الدماء الثالث في بلاد ما بين النهرين، علينا أن نسأل أنفسنا دائما : هل ما جرى في مدينة السلط الأردنية كان احتفاء بسفك الدم العراقي، أم كان احتفالا لتلقي التهاني و التبريكات بموت الضمير الأخلاقي لدى بعض المسلمين من عرب الجوار و غيرهم ؟!
التعليقات