وهل يخفي لثام المقاومة السنية في العراق حربا طائفية ؟
لا يكاد يختلف اثنان على الشعور بوجود مشكلة جدية تعيق عودة الحياة الطبيعية للعراق الآن. و لكن لا أحد يريد أن يضع الإصبع على الجرح ليحدد بالضبط أين تكمن هذه المشكلة. و يبدو لي إن الخطاب السياسي _ سواء كان للمؤيدين للعملية السياسية أم للمناهضين لها _ ينطوي على مسكوت عنه بالغ الخطورة.
و نحن نرى أن هذا المسكوت عنه من قبل السياسيين و رجال الدين و المثقفين على حد سواء، لا يزال عقبة كبرى أمام المحاولات الجارية لإنقاذ العراق من دورة العنف و القتل و التدمير.إذ كشف سقوط تمثال صدام، في 9_نيسان من العام الفائت، عن أن الانقسام الطائفي بين العراقيين إلى سنة و شيعة هو أخطر بكثير من كل الاختلافات بين العرب و الأكراد. و لعل السبب في ذلك يعود إلى إن الحكومات العراقية المتعاقبة لم تجد بدا من الاعتراف بالحقوق السياسية للأكراد، حتى لو كان ذلك شكليا، كما في قانون الحكم الذاتي.
في حين نجد إن هذه الحكومات نفسها _ و إن كانت تصر على إنكار ذلك باستمرار _ قد سعت على الدوام إلى ترسيخ سياسة التمييز الطائفي لاستبعاد الشيعة لا لكونهم شيعة فحسب، بل لكونهم يشكلون السواد الأعظم من الغالبية السياسية المحرومة من حقوقها الطبيعية. حيث يشكل الشيعة، إذا ما استثنينا الأكراد السنة، ثلاثة أرباع سكان العراق تقريبا. لذلك كانت الحكومات العراقية المتعاقبة و النخب السياسية و الثقافية التي فرخت في ظلها تتجنب الحديث عن الاستئثار السني العربي بمقاليد السياسة و الاقتصاد العراقيين. كما انه ما من أحد كان يجرؤ على إثارة الاهتمام بهذه المشكلة العالقة خوفا من التعرض إلى الاتهام بالتحريض الطائفي. و هذه مجرد وسيلة من وسائل الإرهاب الفكري الذي كان و لا يزال يمارس على نطاق واسع. ولكن الشواهد المؤسفة على التمييز الطائفي الذي تتسم به آلية عمل الهيكل السياسي للحكومات العراقية المتعاقبة يصدمنا في كل مرة نحاول فيها أن نتناساه. و لعل من يقارن مثلا بين هجرة العراقيين أوائل التسعينات عقب الانتفاضة الشعبية و هجرتهم في 2003 يدرك الفارق و بسهولة بالغة.إذ التحف العراقيون _ وجلهم من المناطق الشيعية _ أرصفة المدن في بلدان الجوار و جيوبهم ومعدهم خاوية، فيما لم نر وجوه من فروا عقب سقوط نظام صدام _ وجلهم مما يسمى الآن بالمثلث السني _ لأنهم اشتروا المنازل والشقق الفاخرة في أرقى أحياء العواصم المجاورة. من هنا يتبين لنا من كان منتفعا ممن كان ضحية بامتياز.
أما الآن و قد تدهورت الأوضاع في العراق إلى درجة ينبغي التوقف عندها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فعلينا التخلص من مخاوفنا الزائفة و مواجهة مشاكلنا بأنفسنا و إلا فأنها ستزداد تعقيدا إلى درجة قد يصعب معها الحل. و لذا يتوجب علينا الاعتراف، ابتداء، بوجود مشكلة طائفية ذات نتائج خطرة جدا على حاضر و مستقبل العراقيين. و من دون هذا الاعتراف لن تسهل المكاشفة. و ستبقى المشكلة قائمة و تهدد بالفشل أية مبادرة لعقد مصالحة وطنية محتملة بين السنة والشيعة، طرفي اقدم صراع و أعنفه منذ احتلال المسلمين العرب إلى العراق حتى الآن.
صحيح أننا لم نكن نشعر بوجود هذه المشكلة الطائفية بمثل هذه الحدة قبل سقوط تمثال صدام في ساحة الفردوس، و لكن هذا لا يعني بالضرورة أن المشكلة الطائفية لم تكن موجودة. كل ما هنالك هو إن السلطات العراقية القمعية لم تكن تتساهل أبدا مع من يحاول أن يثير هذا الموضوع سواء من قريب أم من بعيد. أما وقد انهارت الدولة فقد أصبحت الحرب الخفية و المسكوت عنها بين السنة والشيعة صراعا مكشوفا تحاول فيه الشيعة استدراك ما فات من حقوقها السياسية المشروعة، بينما يستقتل السنة العرب لاستعادة استبدادهم التاريخي بالسلطة يدفعهم إلى ذلك تنامي الهلع و الخوف على مستقبلهم السياسي الغامض من وجهة نظرهم الطائفية الضيقة.
و قد يقول قائل إن الديموقراطيات الغربية نفسها تتكون شعوبها من تنويعات طائفية وعرقية و لغوية متعددة و لكنها لا تجد في مثل هذه التنويعات ما يضير، فلماذا يشكل هذا التنوع الطائفي مشكلة عندنا بينما لا يكون كذلك عند الغرب ؟
الرد على ذلك، و بكل بساطة، هو إن العمر التاريخي الطويل نسبيا للدول الديموقراطية الغربية قد تمكن في النهاية من بناء شعوب تتميز بهويات وطنية موحدة قادرة على تذويب الاختلافات التي قد تهدد المجتمع بالانقسام و التمزق. في حين إن دولنا حديثة النشأة لم تتمكن بعد من تكوين شعوب تتحلى بهويات وطنية جامعة يشعر المواطنون بان ولائهم لها أكثر أهمية من موالاتهم الطائفية أو العشائرية أو العرقية المتنوعة. و بالتالي لم تنجح حكوماتنا في ترسيخ الحس الوطني الذي كان يفترض أن يكون هو الضمانة الرئيسية لوحدة الشعب و تماسكه على المدى الطويل.
و لعل من أبرز العوامل على عدم تبلور الهوية الوطنية بشكل واضح هو غياب مفهوم الدولة في الخطاب السياسي العراقي والعربي المعاصرين.إذ عادة ما لا ينظر إلى العراق على انه ((دولة))، بل على انه لا يزال مجرد ((قطر)) ذي حدود مصطنعة من مخلفات معاهدة سايكس بيكو ذائعة الصيت. فلقد، شاع في الأدبيات السياسية استخدام مصطلحا ((القطر)) و ((القطرية)) و روجت لهما الثقافة الثورجية السائدة للالتفاف على الاستحقاقات التي قد تترتب على معاملة بلداننا على أنها دول عليها ما على الدول إزاء شعوبها.
و ما هذا إلا نتيجة من نتائج وصاية النخب السياسية و الثقافية و الدينية و تعاليها على وعي الجماهير من جهة، و نتيجة كذلك لتضخم مفهوم الأمة الغامض في الخطاب السياسي الرائج منذ نشوء الدول العربية عقب الحرب العالمية من جهة ثانية. حيث مرت عقود و هذه النخب تحلم بأممية يسارية أو قومية أو إسلامية غير واضحة الحدود و المعالم. وبذلك لم تخلف هذه النخب لشعوبها غير العلف الأيديولوجي الغث الذي لم يغن و لم يسمن من جوع. و حدث نتيجة لذلك، كما هو معروف، فراغ أيديولوجي قاحل خصوصا بعد سقوط التحاد السوفيتي مما سهل الوقوع في أحضان الدوغمائيات التي صرنا نعاني منها الآن.
و أقصد من ذلك إلى إن انعدام الحس الوطني أو ضعفه دليل على هشاشة تجاربنا السياسية. كما انه دليل أيضا على عدم قدرة التجمعات الحزبية، طوال ما يسمى بحقبة الاستبداد الوطني، على بناء وعي سياسي ناضج، كان يفترض أن تعتصم الشعوب بحبله أوقات الأزمات و الهزات الاجتماعية الكبرى.
و بذلك فان ما حدث، و في العراق تحديدا، هو إن التصدعات بدأت تظهر بوضوح و بشكل أكثر خطورة عقب سقوط تمثال صدام مباشرة. و راحت كل فئة رئيسية من فئات المجتمع العراقي الثلاث : سنة _أكراد _شيعة تتجه بشكل متسارع نحو العزلة و الانكفاء على ذاتها بنفس الدرجة التي بدأ يتسارع فيها الإحساس بالمخاوف و المخاطر المحدقة بمستقبلها السياسي. و كانت حصة السنة العرب من هذه المخاوف هي الأكبر لذلك فان انعزالهم كان هو الأشد و الأكثر انغلاقا مما اضطرهم إلى الانزواء تحت سلطة ظلام اللثام.
و لعل ما فاقم من سوء الأوضاع بشكل أسرع هو ما لمسناه من عزوف شعبي واضح عن الانخراط في اللعبة السياسية نتيجة لتراكم الإحساس بالإحباط مما خلفته تجربة الأحزاب الوطنية و نخبها السياسية على مدار عقود طويلة. و في نفس الوقت، لا يمكن لنا أن ننسى ما يترتب على هذا الشعور بوجود فراغ أيديولوجي قاحل نتيجة لذلك، و كيف عمق الفراغ الذي حدث في السلطة عقب السقوط من وطأة الإحساس بعدم قدرة الأحزاب على ملء ذلك الفراغ. و بالتالي، فأن التجمعات الدينية و العرقية المتطرفة صارت هي الأكثر قوة و حضورا في الشارع العراقي اليوم حيث تصول و تجول لأنها القوة التقليدية الأكثر استعدادا لاستغلال مثل هذه الظروف بحكم طابعها الانتهازي.
و بفعل هذه النزعة الانتهازية بالذات و لضعف الحس الوطني و ما يؤدي إليه هذا الضعف من تجرد من المسؤولية الأخلاقية صرنا نرى كيف أصبحت ظاهرة التطرف الطائفي بدرجة أولى و العرقي بدرجة ثانية تنتشر انتشار النار في الهشيم. و ابلغ الشواهد على ما يمكن أن يؤدي إليه هذا التطرف هو ما سمعناه من تلك الدعوات المثيرة لتقسيم العراق سواء انطلقت من بعض أتباع المتطرف الشيعي مقتدى الصدر لفصل الجنوب، أم من دعوة بعض الأكراد في كركوك لطرد العرب و فصل الشمال، أم من التكفيريين الذين اختطفوا المثلث السني وعزلوه تماما حتى جعلوه بؤرة ملتهبة للإرهاب والقتل و العنف و التدمير الأعمى تحت شعار ((مقاومة الاحتلال)) الذي يتلثمون به للتنفيس عن مشاعر الاحتقان الطائفي المتراكم نتيجة ثقافة الإلغاء و الإقصاء و عدم الاعتراف بالآخر أيا كان.
فمن الواضح، إذن، إن هذه المقاومة التي تفتقر إلى أبسط مقومات الحس الوطني السليم ما هي إلا حرب طائفية إذا أردنا تسمية الأشياء بأسمائها. إذ لا تحضى بشرعية الإجماع الوطني الذي لا يزال السبب الرئيسي في اعتزاز العراقيين بثورة العشرين. كما أنها تفتقر إلى أية قيادة سياسية أو برنامج سياسي واضح، ناهيك عن إن النسبة الغالبة من ضحاياها هم، ومثلما هو متوقع، من الطائفة الشيعية التي يكفرها و يبيح هدر دمائها السلفيون الذين يتزعمون الآن، في الواقع، مجمل النشاطات الإجرامية لما بات معروفا عن عصابات ما يسمى بمقاومة الاحتلال بكل تشكيلاتها. و الغريب إن هذه الحرب الطائفية التي تتستر بقناع المقاومة لا تخجل من الجرائم الشنيعة التي ترتكبها باستمرار و لا تحاول أن تبرأ ذمتها منها مثلما يحاول بعض المراهنين عليها من وراء الحدود.
و ترتكب الحكومة الانتقالية خطأ كبيرا إذا ما اعتقدت أن العنف الراهن في العراق وافد من خارج البلاد بالدرجة الأساس. إذ ليس من المعقول أن نستسهل إلقاء اللوم على الآخرين دائما، و كأن العراقيين مجرد مجاميع من السذج تتلاعب بهم القوى الخارجية. فالأكراد _ إذا ما أخذنا بالاتهامات المجانية من هذا النوع _ توسوس لهم المخابرات الإسرائيلية، مثلما يحاول أن يلفق البعض، و الشيعة ألعوبة بيد الإيرانيين و السنة حصان طروادة للعروبيين الطائفيين. و برأيي إن الاطمئنان إلى نظرية المؤامرة الخارجية ما هو إلا مؤشر على عدم القدرة على تشخيص الواقع و تهرب من مواجهة المشاكل الحقيقية. لكن هذا لا ينفي، في نفس الوقت، تورط قوى و تنظيمات خارجية مغرضة للنيل من استقرار و أمن العراق مثلما هو باد للعيان. إلا إن ما يسمى بالمقاومة المسلحة داخل العراق، هي المسؤول المباشر الآن عن توفير حاضنة ملائمة لمثل هذه القوى و التنظيمات الشريرة.
و لكن تبقى الحقيقة الساطعة في إن هذا العنف الدائر و الملثم بالإرهاب لن يكون بمقدوره أبدا الكشف عن وجهه الحقيقي، من وجهة نظري، لا لشيء إلا لخشيته من افتضاح دوافعه الطائفية المخجلة أمام أنظار المجتمع العراقي ككل. و إذا ما أقدمت هذه المقاومة السنية على ذلك، فأنها تكون بذلك قد أحرقت كل أوراقها دفعة واحدة. و هي لا تريد، أيضا، أن يكشف النقاب عن وجهها الحقيقي لأنها تخشى من أن تفتضح صلاتها المشبوهة مع أيتام النظام السابق الإقليميين و الدوليين الذين يريدون أن يجعلوا من العراق كبش محرقة في صراعهم مع الولايات المتحدة، اللاعب الأكبر في الساحة العراقية الآن.
و من هنا أخلص إلى القول بأن ما يسمى بمقاومة الاحتلال الملثمة بالإرهاب في العراق ما هي إلا حرب طائفية سافرة. و تحكمها وجهة نظر ضيقة ترى أن ترويع الشعب العراقي للاستفراد به _ في حال تخلت أمريكا عن خططها المعلنة للسماح بإقامة نظام ديموقراطي _ هو المفتاح لاستعادة الوضع الذي كانت تحضى فيه الطائفة السنية العربية بشبكة معقدة من المصالح المتبادلة مع قوى إقليمية و دولية كانت تدعمها على حساب الشعب العراقي ككل. و لكن فات كل هؤلاء المعادين لولادة عراق جديد أن مثل هذه الوسائل البربرية لم يعد بمقدورها أن تعيد عقارب الزمن إلى الوراء.
إذ ليس من المعقول _ و نحن في القرن الواحد و العشرين _ أن لا يكون لدينا خيار سوى أن نعيش على تراكمات الصراع السني _ الشيعي. و هو صراع قد استنفذ أغراضه التاريخية، منذ زمان بعيد كما يفترض، بعدما انتهى النزاع الدامي للسيطرة على العراق حين كان مفتاح الجاه و المال و السلطان أيام الأمويين و العباسيين. و قد لا أجانب الصواب كثيرا إذا ما قلت بان الصراع الطائفي المعاصر هو، في وجه منه، بقية من بقايا العداء بين العراقيين وبين أهل الشام و من ورائهم الأعراب قبل الاحتلال باسم الإسلام نتيجة للصدام التاريخي بين الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية، و في وجه آخر، يمكن أن يكون الصراع أثرا من آثار الاختلاف والتغاير بين ثقافة العراق الزراعية و الثقافة البدوية الرعوية مثلما تؤكد شواهد كثيرة أيضا. و بكلمة أخرى، إن هذا الصراع الطائفي لم يعد صراعا تاريخيا بالمرة لان راكبي موجته يريدون أن يجروا العراق إلى خارج حدود التاريخ و بعيدا عن العصر الذي يجب أن نتعلم فيه كيف ينبغي علينا أن نعيش جميعا على افضل وجه ممكن لنا و لأجيالنا القادمة.
و برأيي الشخصي، إن العراقيين أمامهم فرصة متاحة الآن لكي يكفوا عن التفكير بمنطق الغالبية و الأقلية الطائفية أو العرقية. و يبادروا، بدلا من ذلك، إلى تشكيل غالبية سياسية تذوب فيها كل التغايرات الاجتماعية المتنوعة. و بانتظار أن يتم ذلك، ستبقى أنظار الجميع مصوبة إلى الطريقة التي سيتمكن بها العراقيون من تصفية حسابهم مع المشاكل التي ورثوها عن ماضيهم الدامي، و كيف سيتوحدون على هويتهم الوطنية عراقيا بالدرجة الأولى لكي يسدوا الطريق على كل من يريد أن يتشفى بإراقة المزيد من الدم العراقي.
- آخر تحديث :
التعليقات