ليلة عرس أختي "حزينة" لا اعرف لماذا أطلقوا عليها هذا الاسم، كانت الأمور تسير على غير العادة داخل كنفات المنزل. كل الأشياء من حولى صامتة، الفرن الطينى، وحزم القش التى تنتظر الحريق. بلاليص المياه، والأوانى الفارغة، والمشنات المعلقة، ومناخل الدقيق، والموقد الصغير.وبعض حمامات تحط فى باحة البيت ثم تطير إلى أقفاصها المعلقة. كنت أرقب النساء عينى على شفاههم وهن يتحدثن عن كل مايدور فى القرية، يمزقن الأعراض شر ممزق، وكنت فى نفس الوقت انظر بعين مملؤة بالدموع إلى أختي حزينة ووالدتى، اراهما مستسلمتان يستمعان إلى مايدور دون ان يبدين رأيا
نظرت أمى فى عيون أختى وقالت لها
الآمر ليس بيدى -
شعرت انى مكبل بقيود العرف الأسرى والتقاليد البالية
الدخان تصاعد من الفرن والقى بوطأته السوداء على أختى حزينة ولم اعد اتبين ..حقيقتها. تهيأ الفرن، وتهيأ العجين بعد أن اختمر وهبت النساء ودبت الحركة.
وتناولت الأيدي العجين فكورته ورصته فوق الصوانى، "واجب يؤدنه فى كل المناسبات للمجاملة" أو ربما دين يردونه
والواجب أيضا فى عرف بلدتنا شيء يحترم، احترام الصغير للكبير..تقديم فروض الطاعة والولاء لأولى الأمر.
حتى أبى وهو ذاهب إلى عقد قران أختي لم يسألها رأيها، نظر إليها فقط وهى تمسك بالمقورة وتدسها فى الباذنجانة السوداء وخرج.
ولا اعرف لماذا كانت تختار هذا اللون من الباذنجان بالرغم من وجود ألوان أخرى أمامها مثل الأبيض والبنفسجي.
تخرج اللب الأبيض .. تلقيه فيتحول إلى اللون البني .. ثم يتحول إلى اللون الأسود.
فكرت حزينة فى أنها مثل الباذنجان تستسلم للمقورة.عندما صاحت امرأة عجوز فى أختى الشاردة قائلة
إللى حاتخرم باذنجانه حا تفضل عانس "ثم نظرت فى وجه اختى متأملة فى قسماته العابسة وقالت:
إنتى حزينة ليه ما لأكل فى قسماته العابسة قدامك والشرب قدامك وفرحك الليلة عايزه إيه تانى
قالت أخرى
إللى بتدق تحاسب شويه
تمايلت بعض الفتيات على إيقاع طبلة صغيرة بعد ان انتهى التقوير والتنقير وامتلأ الباذنجان بالأرز واللحم ورفع على المواقد، "الانتهاء من تجهيز الطعام "معناه الإيذان ببداية طقوس تجهيز العروس"
وضعت والدتي يدها فوق كتف أختي وقادتها إلى غرفة خالية ليس بها سوى مقعد واحد؛ أجلستها، جلست وعلى وجهها ابتسامة بلهاء، امتلأت الغرفة ببعض النساء وبعض الصبايا.
دخلت الحاجة فاطمة وأمرت الصبايا بالخروج لأنه لا يجوز لهن مشاهدة ما يحدث للعروس، رفعت الملابس عن ساقيها وراحت تتعامل مع الشعيرات الزائدة بالطريقة المتعارف عليها.
الفتاة تتألم فى صمت.. والنساء يضحكن فى خبث، انسحبت خجلا إلى مهجعى وأنا أحاول أن أخمد نيران الغضب التى تعتريني. شعرت كأن أشلائى ستنفجر ودموعا تحجرت فى مقلتاي.كدت افقد السيطرة على أعصابي وأصرخ لولا ان دخل والدى الذى يعلم رفضي لكل هذه العادات. نظر إلى وجهي، لمح كل جوارحي فى حالة رفض وفرائسي ترتعد
:بادرنى قائلا
- يجب أن تظهر فرحتك فى هذه الليلة
حاولت ان أصرخ وكانت مصيبتي اننى حاولت ان اصرخ . لكمني فى فكى لكمة قوية أحسست بشلل فى فكى، وخرج وهو يتهدد ويتوعد
لن تفتح فمك وأنا حى أرزق -
زفت اختى إلى بيت زوجها، ودخلت العروس إلى مخدعها، وتوجهت المعازيم إلى حيث المكان الذى يتناولون فيه الطعام، وبعد لحظات عادت الأوانى فارغة.
وقف والدى يشد على الأيدى التى تبارك وترحل إلى ان خلا البيت إلا من بعض النسوة وعلى رأسهم الست فاطمة
هدأت الأنفاس وتعلقت الأنظار نحو غرفة العروس، قطعت الست فاطمة الصمت بقولها
الوقت طال أكثر من اللازم لابد من خروج عرض البنت-
" مالت امرأة على اذن أخرى وهمست قائلة"
باين عليه عريس لبخه -
العروسين يشعران بالأنفاس بالخارج وبالهمهمات وكأنهما فوق جسر لا يعبر وكنف لا يوطأ..وعقبة لا ترتقى. الخوف والخجل والرهبة غاز جديد يلقيان بالإنسان فى خضم القلق الذى يغطى على ذاتيته.
خرج العريس منكس الرأس.. يحمل فشلا وشللا أصيب بهما نتيجة موقف خارج عن إرادته، شعور بالانكسار والذله ..وتمنى لو تنشق الأرض وتبتلعه.
دخلت والدة العريس، لم تجد أثرا للدماء، نظرت فى وجه العروس وخرجت سحبت ابنها والعرق يتفصد من جبينه بعيدا وهمست فى أذنه وهى تضغط على يده:
أقول للناس أيه.. أنت مش راجل؟ -
نادت الحاجة فاطمة
صرخ العريس..لا..لا..بلاش الحاجة فاطنة .. وخارت قواه
تخطت الحاجة فاطنة الرقاب نافشة ريشها، تعالت الأصوات.. وسعى يا بنت للحاجة فاطنة، توجهت الحاجة فاطنة إلى غرفة العروس تسير وراءها أربعة نساء من العيار الثقيل لمساعدتها. أغلقت الباب وراءها، وتناولت خرقة بيضاء ..والقت الفتاة على ظهرها وأمرتها بعدم المقاومة والصراخ.
استولت كل امرأة من الأربعة على ربع من أختى، وامتدت يد الحاجة فاطنة تغوص فى حرمة الجسد.، انتفضت أختى كالعصفور.. صرخت ..لم يشفع صراخها ولم يؤثر فى طينه الحاجة فاطنة القاسية. انطلقت الزغاريد أثر خروج الحاجة فاطنة وهى ترفع بيدها خرقة ملونة بالدماء..استراح الجميع بعد رؤيتها.إنفض السامر، وبقى العريس جالسا ككومة من التراب، وعندما أحس بالوحدة تحامل على نفسه ودخل إلى حيث مخدع عروسه.
وجد بقعا من الدماء مبعثرة على حافة السرير وعلى فستان العروس لمح ابتسامة باهتة ترتسم على وجه عروسه، سقطت دمعة من عينه، أمسك يد زوجته بحنان، همهم بكلمات يناديها:
حزينه! هل انتى نائمة؟ هل انتى سعيدة؟..شعر بأنها نامت -
رأى القمر فى وجهها
حزينة..لماذا لا تردين..هل أنا سيء؟..أنا أحبك، ساعديني يازوجتى، ردى على، سامحيني
« حزينة ! »
« حزينة نائمة ؟ »
« حزينة ! »
« حزينة أصبحت سعيدة ! »
« حزينة ! »
« حزينة وجهها كالقمر .. مطمئنة ! »
« حزينة ! »
« حزينة لا تريد منكم شيئا ! »
« حزينة ! »
« حزينة ماتت ! »
.صرخ صرخة مدوية شقت صمت القرية، بال على نفسه، .
فى الصباح الباكر كانت الزوجة تزف إلى قبرها، كل الذين حضروا عرسها حضروا جنازتها فى نفس اليوم، .وعاد الكل إلا العريس الذى ظل بجوار قبر عروسه..يضحك تارة ويبكى أخرى "وظل على هذا الحال أياما إلى ان فارق الحياة

مضى من الألفية الثانية ثلاثة أعوم وكانت بداية قبيحة
ماذا أفعل إزاء كل ما حدث، لم أكن فى وضع يسمح لى فيه بالصراخ، الصراخ فى سلو بلدتا يعنى مخالفة القوانين"قوانين الأسرة".
ان كبت الألم والصرخة جعلني أشعر بحموضة جسدى كله ووهن احالنى إلى رمة. وبالرغم من كل ذلك أشعر فى .قراره نفسي بالشجاعة وانتصار الإرادة.
أنا متهم..هل تعرفون لماذا؟ انتم أذكياء وتعرفون الإجابة..نعم..نعم ..كنت أريد ان أصرخ، أنا من وجهة نظر الأسرة قليل الأدب، قليل الشأن، ولكى أكون مؤدبا يجب ان استسلم لمن بيده مقاليد الأمور حتى ولو نتف شعر رأسي بالحذاء..وربما أساعده على ضربي .وأناوله الحذاء إذا سقط من يده.
نقيضان يحدثان أمامي وبي فى نفس اليوم والليلة، عرس انقلب إلى مأتم.. رقص وزغاريد، ثم نواح وعويل، حرارة شديدة ثم ماء بارد، إنكسار وسقوط وضياع فى ظل الوصايا، الوجوه غير الوجوه..والأحاديث غير الأحاديث، حكاوي الرجال تختلف عن حكاوى النساء، أحاديث فى الدين تنقلب إلى أحاديث عن ما يحدث فى القرية عن حكاية الرجل الذى سرق بعض قرون الفول ودقوا شحمه اذنه بمسمار .فى جدار الحظيرة وتركوه ملتحما حتى شهده كل أهالي القرية

أجتمع الكل فى باحه البيت لمحاكمتى ومعهم شيخ المسجد يحرم الأحاديث ويتحدث هو بما يراه .. ويفتى بأن الكوكاكولا لا تقدم فى المأتم بدلا من القهوة التى تضر بالكبد، ثم يحرم تدخين السيجار ويدخن الشيشة، اقترب والدي من الشيخ وسأله فى مشكلتى ومحاولة خروجى عن المألوف، ارتفع صوت الشيخ وهو يحاور والدى :لكى يسمعني ما يقول، عدل من هيئته وهو يسأل والدى
ما هى المشكلة ياحاج سمعان؟ -
"إبنى "قال ذلك وهو ينظر إلي -
!ماله ابنك؟ -
: تدخلت الحاجة فاطمة قائلة
مش عايز يسمع كلام حد، وانت عارف يا مولانا إللى ما يسمعش كلام أبوه -
يبقى ناقص رباية..المصيبة انه حاول يفضفض بكلام لشريهان بنت خالة عمتى وقالت انه كان عايز يدخل فى موضوع جواز اخته حزينة
:"بسمل الشيخ وحوقل ثم قال"-
هل كان يريد ان يتدخل فى أقدار السماء لا..لا..لابد من طاعة ولى امره وراعى شئونه اما سمع قول المولى ولا تقل لهما أف..إن صراخك معناه الثورة على من يتكفلون برعايتك
نادانى الشيخ، تقدمت إليه بخطى بطيئة وأثر اللكمة على فكى مازال ظاهرا
تقدم يا بنى -
كان منظرى لا يدل على اننى أستطيع ان أتحدث بشيء.. اشفق علّي الرجل ووجه :حديثه لوالدي قائلا:
يا حاج سمعان الولد مازال صغيرا، يحبو ..لم يفطم بعد ..اعف عنه هذه المرة -
اتركه حتى يبلغ سن الرشد.
.سلم الجميع بما قاله الشيخ وامرني والدي بالخروج

فى الحقيقة انا لست صغيرا، فمن واقع السجلات عمرى ستون عاما
ربما اكون مريضا .. ولكن هذا ليس ذنبى، فمى مغلق وأسنانى
ملتصقة ..الفك الأعلى ملتصق بالفك الأسفل، ولا أستطيع أن أتكلم، وهذا ليس ذنبي، بل كان ذنبي أنني ولدت . ويوم أن خرجت من رحم أمي كان عمدة بلدتنا والعسس يحومون حول الدار سمع صراخي وكان العمدة لا يحب صراخ الأطفال :فدخل إلى بيتنا وقال آمرا أمي
«أخرسيه وإلا حطمت فمه ! »
أغلقت أمي فمي بيدها ( إنه كبير البلدة ولا أحد يجرؤ أن يعصي له أمرا) ولكن صراخي تخلل من بين أصابعها، فلكمني في وجهي لكمة مازالت أثارها على وجهي حتى الآن وعلى بقية أعضاء جسدي، أصبحت بلا عزيمة، بلا قيمة أصبحت إنسانا من ذوات الأربع، هل رأيتم إنسانا من ذوات الأربع ؟
أنا .. نعم أنا من ذوات الأربع وأحمل فوق ظهري قبة مستديرة اسمها حدبة، حدبة بها كل التعاريج والمنحنيات الظاهرة والغائرة، شقوقها كشقوق الأرض الشراقيوبرغم كل ما أحمل فوقي وبرغم أنني لا أقدر أن أسير، لم تستحوذ روح الانتقام .علي، لأن روح الانتقام إذا سرت في النفوس ستأكلها كما تأكل النار الهشيم
ستون عاما وأنا أحبو على يداي، الفك السفلي بدأ السوس ينخر فيه والعلوي ملتصق بالسفلي، وأنا بينهم لا أقدر أن أتخلص منهم، أنا الخاسر دائما، سيرتي أصبحت على كل لسان تتناقلها جميع وكالات الأنباء، وسيرتي على الأفواه وملأ .الأسماع
استيقظت في الصباح الباكر وأنا عازم على الهروب، ولكن كيف ؟ وأنا بطيء كالسلحفاة، أخرس كالطير، من يفهمني ؟ أين المفر وأين المقر ؟ ولكني عزمت وانتهى الأمر .. أمر لابد لي منه، ولا محالة منه، ولا سبيل عنه
أول مرة أتخذ قرار وبمفردي وأنفذه، والآن أنا أصبحت على مشارف بلدتنا، .صحيح أنني تحملت أكثر من طاقتي، وتحملت تبعية قراري
كان الجو حارا خانقا والقيظ يزيد لهيب ظهري وضوء الشمس قد تخلل الشقوق بدون أن يجد أي دفاع أو حماية، حتى الذباب الملعون يتحرك بحرية ولا أحد يبعده عن ظهري، يلدغ تم يدور حول الجرح ليجرحه مرة أخرى .. ينهش في لحمي بحرية .. يراقبني .. يسير خلفي وفوقي .. يطن ويزن .. ولم أفلح في الانتصار عليه، ازدادت جراحي، وأشعة الشمس ألهبت جروحي ؛ فكرت أن أتخلص من الذباب .وحرارة الشمس بأن ألقي بنفسي في النهر، بداخلي بقايا رعب قديم

لم تواتيني الشجاعة بـأن ألقي بنفسي في النهر، فقررت الجلوس تحت الكبرى الذي يفصل بلدتنا عن العالم الآخر، كان تحت الكبرى جدار قديم تهدمت بعض من أركانه، إلا أن شجرة اليقطين كانت ممتدة فوق الطوب المتناثر وفوق الجدار مما .أعطتني إحساسا بأنه آثار لكوخ أحد الصيادين القدماء

جلست وقد أصابني شيء من الهدوء وحللت عقدة الخوف عن قلبي ألأنني أصبحت بعيدا عن عيون الرقباء ؟ .. وأمامي مياه النهر هادئة تسير وهى صامتة مثلي تماما ؟ .. هل أنا ماء ؟! .. وكل السائرين فوقي، أقصد فوق الكوبري الهوائي المعلق من هواء، إلى أين هم ذاهبون ؟! .. لماذا في البداية كنتأثير دهشتهم والآن لا أحد أصبحت أثير دهشته أو حتى استغرابه ؟!.. هل هي العادة الإنسانية أو التطور ؟! .. أم الدهشة كالحزن يولد كبيرا ثم يصغر ؟! ..أم أن الدهشة والعجب من كثرتها قتلت فينا مراكزها فى الجسد ؟ ..

كان الهدوء الذي أصابني كالهدوء الذي يسبق العاصفة، فقد رأيته يشق النهر رافعا رأسه جوعان غضبان، لم أره من قبل على هذه الحالة، هائجا كثور ذبيح، يقترب مني، حاولت أن أختبئ بين أوراق اليقطين . تراقصت أمامي جميع الصور .. أختي .. اللكمات التي تحملتها منذ مولدي .. هو يقترب والصور تحيطني من كل جانب وكأن أوراق اليقطين أصبحت متجسدة أمامي في جميع الصور التي كانت تمر في .خيالي وفي أحلامي .. الخوف

اقتربت الرأس من الشاطئ واتضحت الرؤية عندما انطلقت الضفدعة التي كان يريد أن يبتلعها ونطت مختبئة بداخل شقوق ظهري .. صرخت .. تألمت ولم يجرني أحد .. تدحرجت كعقال يتدحرج فوق الأرض ولكن بلا فائدة، وعندما تمكنت من الصراخ وجدت اثنين من العسس يهبطان إلى الشاطئ ولكنهما عندما تأملاني نادي .عليهما القائد من أعلى صارخا : «دعوه وشأنه إنه الرجل الضفدعة !

محمد غنيم شاعر وأديب إيطالى من أصل مصري وقصته هذه ترجمة عن الإيطالية.
www.ghonim.com
http://www.newsofworld.info/