يشيع في بلاد مصر والشام والعراق إستعمال كلمة الإستكراد، ويتداولها العامّة للتعبير عن موقف أو حال. ولكي يثبت المرء في هذه البلاد أنه ليس غبياً أو بهلولاً، في حديثٍ أو مجلس أو معاملة، يلفظها علناً دون تردد: أنا لست كُردياً (مانّي كردي، وفق اللفظ العامي)!


وإذا أراد الواحد أن يثبت للآخر إنه ذكي وليس أحمقاً حتى تنطلي الحيلة عليه، يحذره: ما تستكردني!
وإذا رأى أحدهم شيئاً غير معقولا، أو ليس بمألوف من شخص ما، يسأله مستنكراً: كردي؟
وكلمة الإستكراد مشتقة من لفظة كُرد. ومعلوم أن الكُرد إسم هذا القوم الذي يسكن كُردستان، ويُعرف الآن بالشعب الكُردي.
الإستكراد لفظة مؤذية جداً للأكراد، وهم يسمعون الناس يتبرأون منهم لكي يثبتوا أنهم ليسوا حمقى!
وأثناء إقامتي في سوريا وفي لبنان لأكثر من سبعة أعوام، كنت أسمع بشكل مستمر هذه الكلمة بين الناس. ومرة وأثناء الحديث مع شخص لبناني، لم تعجبه مسألة تحدثت بها، فاستنكر عليّ سائلاً: quot; شو كرديquot;؟!
نعم كيف عرفت؟ أجبته وأردت الإستمتاع بالموقف، وبدا الرجل محرجاً!

في الواقع لا يمكن تعميم الصفات والأوصاف على الشعوب والجماعات. فليس هناك شعب ذكي وآخر أحمق. قد يكون شعبٌ ما أكثر حظاً في الحياة لعوامل وأسباب معينة، لكن الشعب الذي يعيش البؤس والحرمان، لا يعني أنه غبي أحبطه إسعاف العقل من قلّة!
ولكن حتى مع هذا، فهناك شعوب أكثر فاعلية في صناعة التأريخ. والأمر قد يكون لعوامل كثيرة ومختلفة. على كل حال ليس ذلك بموضوع المقال.

الأكراد لهم تأريخهم، وقد صنعوا وساهموا في بناء التأريخ في مراحل مختلفة، وقدموا شخصيات مهمة على أصعدة شتى في التأريخ القديم والحديث، ليس على نطاق كُردستان فحسب وإنما على صعيد المنطقة برمتها.
فإبن صلاح الشهرزوري، والحافظ العراقي، وإبن خلكان، وأبناء الأثير، وصلاح الدين الأيوبي، وقاضي القضاة كمال الدين الشهرزوري، وأبا مسلم الخراساني، وأحمدي خاني وغيرهم كثير في التأريخ القديم كانوا أكرادا.
وفي التأريخ الحديث هناك مشاهير الأكراد مثل كريم خان زند، وبديع الزمان سعيد النورسي، والزهاوي، وإبراهيم هنانو، وعصمت إينونو، وضياء كوك ألب، وجنبلاط، والشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، وفاضل رسول، والشيخ علي القرداغي، وبرهم صالح وقادة سياسيين وعسكريين منذ تأسيس الدولة العراقية والتركية وإلى يومنا الراهن.
وكيف إذاً يتفق وصف الغباء المعنون بالإستكراد، مع ما قدمه هذا الشعب من شخصيات مهمة على مرّ التأريخ؟!

قد يستغرب الجميع أن كلمة الإستكراد التي خرجت من عند المصريين أولاً، كانت في بداية الأمر مديحاً ولقباً يُطلق للمجاملة على غير الأكراد، تقديراً لهم ومبالغة في إحترامهم.
فالأكراد الذين حكموا مصر والدول المجاورة لها أيام السلطان صلاح الدين الأيوبي، إشتهروا بالعدل والمعاملة الحسنة مع الناس. على أن الحكام والقادة قبلهم كانوا على نقيض من ذلك برفع الضرائب على العامة، وضربهم وتعذيبهم، وتوددهم للإفرنجة الذين لم يلقوا من عامة المسلمين سوى الكراهية والرفض.
الأكراد إذْ لم يتساهلوا في مواجهة الصليبيين وإذاقتهم الخسران والهزائم، لانت وتواضعت نفوسهم لعامة الناس في مصر وغيرها من الأمصار.


واقترنت الناس العدل والأخلاق الحسنة بالعنوان الكُردي، نظراً لكون الحكام والقادة الكبار في الدولة أكرادا. فأسد الدين شيركو، وصلاح الدين الأيوبي، وقاضي القضاة، والقاضي الفاضل، وقادة الديوان والجيش والمؤرخون في معظمهم كانوا أكرادا.
ومن هنا فإن الناس البسطاء في مصر كانوا يجاملون الشرطة، وحراس السجون، والضباط الصغار في الجيش من المصريين بإطلاق اللقب الكُردي عليهم، لتبجيلهم وتعظيمهم عبر تشبيههم بطبقة الحكام والأشراف في الدولة.
والسبب في أغلب الأوقات من وراء التبجيل والمديح، كان من أجل تجنب الأذى من الشرطة وحراس السجون، وأحيانا في سبيل نيل الحاجات.


وحين كان الواحد يطلق لقب الكُردي على أي شخص في ذلك العهد، كان يعني بمثابة تشريف للمقام وتعظيم للشأن.
وللكلمة اليوم عند اللبنانيين والمصريين وغيرهم مفردات أخرى من قبيل: يا خواجة، يا ريّيس، يا طيب.
لكن المصريين أفرطوا في إستعمال المدح لرجالهم بالوصف الكُردي، حتى كان السارق، والمحتال، والزاني، ومن إرتكبوا جرائم مختلفة يتوسلون إلى سجّانيهم وشرطتهم أن لا يعذبوهم، بإطلاق اللقب الكُردي عليهم: أنت كُردي ولا تظلم، أنت كُردي أي أنك طيب متسامح.


لكن الشرطة وحراس السجون الذين كانوا يصرّون على إذاقة هؤلاء العذاب والضرب، كانوا يردون فوراً: تستكردني، أنا لست كردياً وأشبعك الضرب!


وهكذا بمرور الزمن تبدل المفهوم الكُردي من مديح إلى معنى قبيح. وأصبح القول أنت كُردي، حيلة لنيل مرام غير مقبول.
وحتى يتخلص المسئول أو القائم على الشأن من الإحراج كان يجيب: لا تستكردني، أنا لست كُردياً!
وهكذا وـ ربّما ـ لسوء حظ الأكراد وطالعهم، أصبح عنوانهم الذي أوحى بالمجد والمديح، إلى كلمة متداولة لدى عامة شعوب المنطقة، تحمل معنى خجلوا منه كثيراً بدل أن يفتخروا به، لتقطُع أسباب معرفة أصول الكلمة عندهم!

والفضل في هذا المقال يعود إلى المؤرخ العربي المعاصر محمد حرب، ومقاله في ملف خاص عن القضية الكُردية، في المجلة الدولية الفصلية برئاسة بطرس غالي، في عددها نهاية عام 1999 بمصر، وكذلك بالإستفادة من تحفة العجائب وطرفة الغرائب لإبن الأثير، وإبن شداد في النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية، والعماد الأصفهاني في خريدة القصر وجريدة العصر.
ومنذ تسعة أعوام وأنا أعرف هذه المسألة، لكن الكتابة فيها تأخرت بسبب الإنشغال بمسائل وقضايا أخرى ملحّة وساخنة.

علي سيريني

[email protected]