بيان: للتعبير سرعتُهُ؛ طرقُه الأقصر إلى الهدف. وللسرد ميتافيزيقيتُه التي بها يحيا النثر. قـَصٌ برقي: ليس قصة قصيرة جدا، ولا قصيدة نثر، ولا أمثولة. إنه كل هذا مجموعا: قص بلا زوائد، نثر مجرّد، وغرضية ليست مقصودة. الحكمة في مكان آخر!
قصٌّ برقي هو التدوين المفاجئ، برؤوس أقلامٍ، ما يَطرأ على شاشة الذهن من أحداث غالبا ما يضيع خيطها في الإنشاء. إنّه الرواية جنينا: بلا بداية، ووسط ونهاية.
ليس للقص البرقي شكل ثابتٌ: فهو جملة واحدة، أو عدة جُمَل. إنّه إنيَّةُ السرد؛ أي ما هو موجود في ذاته immanentisme.
وباختصار: قصٌ برقي بكل ما تحمل هاتان الكلمتان من معان انزياحية.


مطاردة

لم يستطع التوقف ليفكر في الأمر. كانوا خلفه. وليس أمامَه سوى مسافات طويلة للعبور إلى الناحية الأخرى من المضيق. كان يجلس من حين لآخر. لم تستحوذ عليه غيرُ فكرةٍ واحدة هي أن يركض. كانوا خلفه، ويدُ كلّ واحدٍ منهم على مقبض خَنجره. وعندما انتصف الليلُ، أضاءهم القمرُ إليه.


نهاية حب

السريرُ نفسُه، منضدة صغيرة مستديرة فوقها مصباح يلقي ظلا مجسما على جدران الغرفة التي أخذ لونُها يميل إلى الصفار الباهت. النافذة لم تـُفتح منذ وقت طويل. وكانت هناك زهرة تتصارع والذبول. لا احد من الجيران ساوره الإشتباه بأن الأرواح الباردة تركض في السهول.


زمن ضائع

كنا كلنا، ننفق معظم أوقاتنا في صالات السينما: بساط سحري يحلّق بنا فوق الأرض. ينزل بنا من أعلى أعالي السماء إلى أسحق نقطة في قاموس المحيطات، او من آخر كوكب مستقبلي إلى وهاد الماضي حيث نرى بأم عيننا موسى وهو يَشقّ البحرَ بعصاه، أو نيرون وهو يحرق روما، أو المسيح والمسمار يُثبّت على يديه ورجليه، فينتشر الرعدُ وتهطل الأمطارُ وتحلّ الظلمات. كان لكل منّا شريطٌ في رأسه وامثولةٌ يتعلم منها. لكن... كل هذا انتهى وكأنه لم يكن. قط.


إنسيان

شعرَ أنه سمعَ صوتا على الجانب الآخر من النهر.صعد إلى زورقه وجدّفباتجاه المنسي. وحين وصل اكتشف أن الصوت لم يعد هناك. لبث مكانه متأملا رجعَ الصدى الخارج من أعماق حنجرته، يرفعه دولابٌ تحرّكه مياه المنظر الرهيفة.


ليل القصيدة

لم يدر أن الشواطئَ تضحكُ خلف الأبواب، وأن القصيدةَ التي لم يجد لها العنوان المناسب ستبحث عنه هناك. ثمة حرب بين الكلمات في هذا الهزيع الأخير من الليل: ما من كلمة واحدة تقبل الجلوس قرب أخرى. رمى القلم جانبا، وانطرحَ فوق الذكريات. كان الإعياء قد نال منه. استغرق في نوم تتلاطمه ملايين الصور. ولما استيقظ رأى حياتَه أوراقا مُـكدّسةً في جارور.


أروي لكم الآن ما حدث

كنا في تلك الليلة، شأننا في كل الليالي السابقة، ننتظر مجهولا يروي لنا حكايةً غريبة. لم يدخل غيرُ شخص مصابٍ بحركة تشنجٍ عصبية، تهاوى على مقعد مركون في زاوية قرب الطاولة. وحين همّ بالكلام، أنطفأ المصباح الوحيد الذي كان يغمرنا بنوره. وعلى حين غرة رأينا في العتمة شبحا أبيض يدلفمن الباب ويخطو نحونا مُهمهما بإعجاب واشتهاء. تملكنا خوفٌ غامض بحيث ندّ النوم عن أجفاننا. quot;يا لها من حكاية رهيبةquot;، أخذنا نردد.. وكل واحد منا ينحني نحو الأخر كأنما يريد أن يستل أنفاسه.


خندق

quot;كم سنة انقضت؟quot;، سؤالٌ لم يستطع الجواب عنه. سقطت دمعة من عينه اليمنى، لما تبيّن، في صورة أخرجها من جيبه، وجه طفل بين ذراعي أمه! هرع الجنود إليه، من ناحية التل الأخرى... وجدوه مفتوح العينين، مبلل الوجه بالدم.


ميول مزدوجة

باكرا، أنهض من النوم. أدخل الحمّام. أفطر. أتّزِرُ أمام المرآة: هذيانٌ ينطبعُ على صفحتها، يستوقف نظري: الشارع الذي اقطعه كلَّ يوم، الكتاب الذي لم انته منه، المطبخ، السجادة، الباب، الكل ينهض مثلما أنهض كل صباح ومثلما أركض وراء وجه مجهول في نفق معلوم... وشيئا فشيئا أعثر، في مُسْتهلِ الاشتباه، على توازني.

ارتفاع

غارق في غمر الغيوم وكأن فكرة تدعوني إلى السفر. أتذكر بودلير. ثمة نوافذ تُفتح، يتسرب منها ضوء ملوّن. الطير يمرق في السماء، أراه منعكسا على زجاج النافذة. أدير ظهري، أرى شيئا لا أفهمه.خطالطائرة الأبيضيشوّه الإيقاع. كل غيمة تنقشع إلى أخرى. كل غيمة تأكل أخرى. كل مداخن النظر تمركزت في كبد الفضاء. ساعات أقضيها في الشرفة، متطلعا إلى كتل الغيم. الشكل يتصاعد، يهبط، يختفي سحابا في قرار الأبد، رمادا في قبة الفكر الزرقاء. كم أنظر إلى هذي القمم حيث يَتَوطْوَطُ العالم على مدى البصر، يَنهَد إلى قبب الظلمات.