1-4

منطق التاريخ
البحث عن الشرعية، هذا هو القوام الذي تتجلى فيه مجمل الصراعات على الصعيد الاجتماعي، شرعية تفصح عنها الممارسة المباشرة تارة، والنسق السائد في الكثير من الأحيان، ومن واقع الشد والجذب يفصح التاريخ عن إبراز للمجمل من التداخلات التي تفرضها مقومات البحث عن السلطة والمكانة داخل المنظومة الاجتماعية.بين العلم بماديته ومنطق تفاعله المباشر مع الواقع، والسردي بأخلاقياته وقيمه بوصفه الموجه والمقنن والمحدد للفعل الاجتماعي.إنها المواجهة الساعية، نحو التمكن والسيطرة على إنتاج السمات الفارقة لمضمون المعرفة. وبالقدر الذي يكون التمييز للسلطة المطلقة التي مارسها الأخلاقي على العلمي على مدار حقب التاريخ الطويلة، والتبعية التي تبدى بها العلمي لصالح فكرة الخلود السومرية، حيث كلكامش الذي نصحته الآلهة أن البقاء والاستمرار يمر عبر بوابة الإنجاز العظيم، و الشغف الفرعوني بالعمارة والتحنيط، والمثالية الصينية والصوفية الهندية والأسطورة والفلسفة الإغريقية والتنظيم القانوني الروماني، والمعرفة العلمية الواسعة التي تحصلت عليها مجمل الحضارات الإنسانية، إن كان على مستوى الهندسة والكيمياء وعلوم الرياضيات والأرقام والفلك والطب، إلا أن الموجه الروحي والأخلاقي كان يمثل الحضور الأهم والأساسي، فيما بقي العلمي يحتل مكانة التابع، وصولا إلى بروز ملامح الثورة الصناعية في أوربا، والتي مثلت كسرا للعلاقات التي قامت بين طرفي المعادلة على مدى التاريخ.
بقيت المعرفة السردية تعيش لحظات القدرة على المبادرة، باعتبار قدرتها على الانتشار وتمكنها من التأثير والتفاعل مع مختلف الأنماط والسياقات، في الوقت الذي بقيت المعرفة العلمية تعيش على الصرامة والدقة والبرهان، والتكافؤ بين طرفي العلاقة، فالعلم يستند إلى مقدمات ونتائج ثابتة، غير قابلة للتأويل والتفسير المفتوح،حيث قوام المكافئ والنظير والندية، فيما تعتاش المعرفة السردية على كم المفارقة التأويلية للثقافات المختلفة، ومن هذا قيض للسرد أن يتكيف مع مختلف السياقات التاريخية والاجتماعية والسياسية.

الهوية الناقصة
بين الكلي والشمولي، بقيت العلاقة بين السردي والعلمي تعيش حالة من المواجهة، لا سيما في أعقاب تصدر منطق الكشف العلمي الذي راحت تتميز قسماته خلال عصر الثورة العلمية والذي يقوم على مراحل؛ الأولى؛ النهضة 1440-1540، الحروب الدينية 1540-1650، الإصلاح 1650-1690.فيما بقي الركون إلى السردي يمثل الأساس الذي تقوم عليه مجمل فعاليات البحث عن الشرعية. فـ كريستوفر كولومبس مكتشف العالم الحديث لم يتورع عن تهجين الآخر، عبر سلاح الوصف( الهنود الحمر ) أم عن طريق التصفية والقتل والتدمير، أم من خلال التهجير القسري للمعاني والسياقات الثقافية. إنها سياسة الحرق والتدمير التي درج عليها ألبو كيرك القائد البرتغالي، حين توجه بأسطوله نحو الشرق. عبر محاولة توسيع مجال التداول لسردية الاستعمار، تلك التي حرصت على تقديم سياقاتها الثقافية الخاصة بها على حساب السياقات والمعاني لدى الآخر.
جاءت المعرفة العلمية لتقدم نموذجها الحداثي، الذي استند إلى تقديم دور التكنوقراط، لكن حضورها الأهم لم يكن قد استند إلى ترسيخ وتدعيم معالم النظام الاجتماعي، بقدر ما كان المسعى نحو تقديم مجال المعلومات والبحث عن الجديد في تقديم الأفكار وترسيخ معالم النسق الابتكاري، لكن هذا المضمون لم يكن ليبتعد عن حالة الصراع الداخلي، ضمن هذا النسق الجديد، حيث التنافس والإقصاء والتهميش الذي تتم ممارسته داخل المنضوين في الحقل الواحد، وإذا كانت العلاقات الراهنة تشير إلى قوة المعرفة العلمية وحضورها الأكيد على الواقع، فإن المعرفة السردية تبقى تؤدي دورها الراسخ في طريقة التوجيه وقيادة المضامين ونظام القيم.لقد جاءت الحداثة الغربية بحروب السعي للسيطرة على الأرض والثروات،فيما تقوم حروب الراهن على محاولة السيطرة على المعلومات، فمن يمسك بزمام التوجيه، لابد له أن يمسك بزمام المعلومات باعتبارها الرأسمال الجديد الذي يقود العالم.

السرد من أجل البقاء
كيف قيض لشهرزاد البقاء، بإزاء نزعة الانتقام التي عنت على شهريار، لولا تمترسها بسلاح السرد، وكيف تمكن كوبرنيكوس وبلباقة، أن يكسر النرجسية الإنسانية، حين أثبت بالدليل العلمي بأن الأرض ليست مركزا للكون، وكيف مرر رجال محاكم التفتيش وبمزاجهم، تلك الجملة التي ندت عن غاليلي، حول دوران الأرض. إنه السرد الذي يحمل سمة السيطرة على الوعي الزمني، حيث التفاعلات التي تحدثها الذات في سبيل الحصول على النتيجة المرجوة، من خلال الإقناع والقدرة على ترجيح فكرة على حساب أخرى، وإمكانية التحبيك من أجل السيطرة على الأفراد أم الجماعات، والسعي نحو الكشف عن أبعاد جديدة للنص.إنها الهوية السردية تلك التي يحددها بول ريكور باعتبار قدرة السرد على تحقيق منجزات الذات في الاندماج والتكيف والمداهنة والسيطرة على توجيه التاريخ.
[email protected]