الوهم الأوّل: العراق

ترعرعنا جميعًا، من المحيط إلى الخليج، على صورة العراق الّتي عرفناها من كتب التّاريخ العربي، ومن كتب الأدب على أصنافه، قديمه وحديثه. لا شكّ أنّ أسماء مدن مثل بغداد، البصرة والكوفة كانت تملأ عقولنا بأحلام عن ماضٍ مجيد من العلم والأدب والعمارة إلخ. ولم تكن تلك الأحلام سوى أحلام طفوليّة هي الأخرى، إذ ها هو العراق الحقيقي معروض أمامنا على الشّاشات بلا رتوش. في هذا العصر، لم يعد بالإمكان إخفاء الحقائق، فوسائل الاتّصال العصريّة كفيلة بنقل الصّوت والصّورة والكلمة عبر القارات خلال ثوان. وها هي الجرائم الطّائفيّة الّتي شاعت في أرض العراق تكشف حقيقة لا مناص من مواجهتها: هل حقًّا يوجد هذا الجسم الّذي يُطلق عليه اسم quot;الشّعب العراقيquot;؟ إنّ القتل الطّائفي والعرقي الحاصل في العراق هو أكبر شاهد على انتفاء وجود شعب واحد عراقيّ، كما نفهم من هذا المصطلح في هذا العصر. لم يكن نظام الدّكتاتور البائد سوى حجاب ساتر لكلّ هذه العورات العراقيّة. هل يوجد تفسير آخر لما يجري في العراق؟

الوهم الثّاني: لبنان
ترعرعنا جميعًا، من المحيط إلى الخليج، على صورة الحرية والتّعدّدية اللّبنانيّة. كان لبنان في أعيننا صورة لما يمكن أن تكون عليه حال البلاد العربية: صورة الانفتاح الحضاري والتّعدّد الحزبي وشيئًا ما من ديمقراطيّة معدومة في سائر البلاد العربيّة. كانت تلك بلا شكّ صورة طفوليّة هي الأخرى، إذ ها نحن مرّة أخرى وبعد أن مرّت الأيّام، بدأ يتّضح لنا أنّ الصّورة الّتي علقت بأذهاننا ما هي إلاّ صورة مشوّهة تُخفي من ورائها حقيقة أخرى. فحقيقة لبنان هي أبعد ما تكون عن تلك الصّورة السّاذجة. ليست الأحزاب اللّبنانيّة في الواقع سوى تجمّعات قبليّة وطائفيّة. أيّ أنّ النّظام اللّبناني ليس سوى مرآة لميزان طائفي إثني أورثه الاستعمار لهذه البقعة من الأرض بموافقة ورضى أهله. إذن، ها هي صورة لبنان الحقيقيّة الّتي تعبّر عن التّشرذم الطّائفي والمللي تظهر على الملأ عبر الشّاشات ووسائل الإعلام.

الوهم الثّالث: فلسطين
ترعرعنا جميعًا، من المحيط إلى الخليج، على مقولة الصّراع العربي الإسرائيلي. لم يكن الصّراع في البداية صراعًا فلسطينيًّا إسرائيليًّا، على الأقل من وجهة نظر الإعلام العربي. ولقد ازدادت هذه النّظرة شيوعًا عقب ما سمّي quot;المدّ الثّوريquot; في الوطن العربي، أو ما أطلق عليه زورًا وبهتانًا مصطلح ثورة. لم تكن تلك ثورات بالمعنى الحقيقي، وإنّما هي تمرّدات للسيطرة على السّلطة لا غير. كلّ شيء في العالم العربي كان معلّقًا على شمّاعة الصّراع. لا وقت للحرية، لا وقت للإنماء، لا وقت للتّغيير، فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة. إسرائيل كانت في تلك الأيّام، ولا زالت إلى حدّ ما، توصف في الإعلام العربي بمصطلحات مثل quot;الكيانquot;، أو دولة العصابات. وهكذا، وعلى مرّ العقود، ومثلما دأب الإعلام الرّسمي العربي على إشاعة تلك الشّعارات، فقد تحقّقت الشّعارات فعلاً: فلا حرية، ولا إنماء، ولا شيء حدث. فقط خواء في خواء. وها نحن ننظر، فلا نعرف الآن، أيّ منّا هو الكيان، وأيّ منّا هي العصابات؟

الوهم الرّابع: نظام الحكم
ترعرعنا جميعًا، من المحيط إلى الخليج، ومن خلال الدّراسة عن أنواع أنظمة الحكم عن الفرق بين النّظام الجمهوري والنّظام الملكي. غير أنّ ما تعلّمناه لم يكن ينطبق بأي حال على طبيعة الأنظمة العربيّة. فإذا حاولنا أن نضع حدودًا فاصلة بين الملكيّة والجمهوريّة في بلاد العرب لا نستطيع إلى ذلك سبيلاً، فها هي الرئاسات quot;الثّوريّةquot; الجمهوريّة تتربّع في سدّة الحكم حتّى يقضي الله أمرًا محتومًا، أو حتّى يتمّ استبدال الله برصاصة الإغتيال. وإذا قاربت هذه الزّعامات quot;الثّوريّةquot; على الموت، طفقت تبحث عن وسيلة لتوريث هذه الزّعامة إلى نسل الزّعيم القائد الرّمز الواحد الأوحد الفرد الصّمد. إذن، لا فرق بين النّظامين في ما يخصّ بلاد العرب. بل يمكن أن نقول بعد كلّ هذه العقود، إنّ الأنظمة الملكيّة العربيّة كانت أرحم بشعوبها من تلك الّتي تدّعي السّير بحسب النّظام الجمهوري أو quot;الثّوريquot;.

الوهم الخامس: العروبة
ترعرعنا جميعًا، من المحيط إلى الخليج، على فكرة الإنتماء إلى هويّة العروبة هذه كنوع من أحلام الطّفولة. وها نحن بعد أن مرّت الأيّام بنا، بدأنا نكتشف أنّ هذا الحلم لم يكن سوى من نوع أضغاث الأحلام الّتي تفتك بعقول الأنام. فخلال العقود الأخيرة تكشّفت عورات هذا الحلم على الملأ، وخلصنا إلى قناعة لا مناص من مواجهتها إنْ كنّا حقًّا نرغب في تخطّي كلّ عثرات الزّمان هذه. فالهويّة العربيّة هي هويّة حضاريّة ليس إلاّ. ليست الهويّة هذه هويّة سياسيّة، وخير دليل على ذلك هو ذلك الإطار المسمّى quot;جامعة الدّول العربيّةquot;، الّتي يصلح أن يُطلق عليها quot;ملتقى الكتاتيب العربيّةquot;.
العروبة إذن، هي هويّة لغويّة. وحتّى هذه هي حقيقة جزئيّة، إذ أنّها تقتصر على العربيّة الفصحى،الّتي تقتصر على االكتاب والصحيفة فقط، أمّا ما سوى ذلك فالتّجزئة هي سيّدة المقام. ومن هذا المنطلق، فإنّ العروبة أشبه ما تكون بالهويّة الأنكلوساكسونيّة، أو هويّة المتكلّمين بالإسبانيّة، ليس إلاّ. أمّا ما سوى ذلك فكلّ يغنّي على ليلاه.
إذن، وبعد كلّ هذا، ماذا أقول؟

رَمَانِي الدَّهْرُ فِي زَمَنٍ حَزِينِ
بِهِ ازْدَهَمَتْ شِمَالِي فِي يَمِينِي
*
وَرَاحَ العَقْلُ يَبْحَثُ عَنْ خَلاصٍ
فَلَمْ تُسْعِفْهُ أَسْئِلَةُ اليَقِينِ
*
سِوَى مَا كانَ مِنْ وَهْمٍ، شَبَبْنَا
عَلَى عَتَباتِهِ، دُونَ الجُنُونِ
*
بَحَثْتُ عَنِ المُخَبّأِ فِي المَرَايَا
فَلَمْ أَعْثُرْ عَلَى حُلُمٍ يَقِينِي
*
صُرُوفَ الشّكِّ، حَيْثُ نَظَرْتُ حَوْلِي
وَرَاحَ الفَأْرُ يَلْعَبُ فِي البُطُونِ
*
لِكُلِّ مُسَافِرٍ فِي الأَرْضِ شَأْنٌ
وَرَوْمُ الشَّأْنِ يَبْدأُ بِالظُْنُونِ

*
هذه بعض الأوهام، وبوسع القارئ أن يضيف إليها من عنده الكثير. أليس كذلك؟

Salman.masalha at gmail dot com