من مفكرة سفير عربي في اليابان
لقد احتفلت اليابان في المدينة الثقافية التاريخية كيوتو، بتوزيع جوائز كيوتو العالمية للعلوم والآداب، في الشهر الماضي. وقد حصلت الفنانة الألمانية بينا بوش على الجائزة الأدبية في الفنون. كما حصل أستاذ جامعة كال تك الأمريكية، هيرو كناموري، على جائزة العلوم الطبيعية الأساسية. أما جائزة العلوم التكنولوجية فقد كانت من نصيب الدكتور الياباني هيرو اينوكوشي أستاذ العلوم الكيماوية بجامعة طوكيو. وقد أنشاء السيد كوزو ايناموري مؤسسة ايناموري عام 1985، لتكون مسئولة عن الاختيار لهذه الجائزة خيرة علماء العالم، الذين ساهموا في تطوير العلوم الطبيعية والتكنولوجية والأدبية لخدمة البشرية.
وقد صرح السيد كوزو ايناموري في كلمته في حفل العشاء الذي نظمته المؤسسة، وعلى شرف الأميرة اليابانية تكمادا، قائلاquot; تعتمد جائزة كيوتو على الفلسفة التي أؤمن بها، وهي بأنه لن نطمئن على مستقبل البشرية إلا من خلال خلق التوازن اللازم بين تطور العلوم المادية والعلوم الروحية. وأعتقد بأنه يجب أن نخلق التوازن في الإنسان بين الذكاء الذهني والعاطفة والإرادة. فالحضارة التي تهتم بالذكاء الذهني فقط، وتبخس قيمة العاطفة والإرادة الإنسانية، هي حضارة آفلة.quot;
كما أكد في كلمته، quot;فقد تقدمت العلوم الطبيعية والتكنولوجية بشكل مدهش في القرن العشرين. ومع بداية القرن الواحد والعشرين ستكون مسؤوليتنا الأساسية أن نرفع العلوم الروحية لنفس المستوى الذي وصلت إليه العلوم الطبيعية والتكنولوجية، لنستطيع التعامل مع هذه الاختراعات بحكمة. وقد اختارت اللجنة ثلاثة من خيرة علماء العالم الذين خلقوا التوازن بين الذكاء الذهني والعاطفة وقوة الإرادة، والذين ستقدم فلسفتهم وأرائهم العالمية للإنسانية اقتراحات فاضلة، لترفع من قدر أذهاننا وتشرفها.quot;
وقد عشق الدكتور هيرو كناموري، الحائز على جائزة كيوتو للعلوم الطبيعية الأساسية، علوم الفيزيائية منذ صغره. وقد تركزت أبحاثه الأمريكية حول الزلازل الأرضية. فدرس كيفية التعرف على الإعراض المبكرة لموجات الزلازل الأرضية للعمل على حماية الأرواح البشرية. وقد علق في كلمته فقال، ldquo;لقد كنت محضوضا لكي أحقق ما كنت أحب عمله. ونصيحتي للجيل القادم، أعملوا ما أنتم مبدعون في القيام به، ولا تعطوا الفرصة لحب المال والشهرة لكي تحددا مجرى حياتكم.quot;
كما تحدثت السيدة بنا بوش، الحائزة على جائزة كيوتو للعلوم الروحية، عن ذكريات طفولتها مع الحرب، وحياتها مع والديها بمطعم صغير في أحدى ضواحي العاصمة الألمانية. كما تحدثت على تجربتها الفنية في مدينة نيويورك والتحديات التي واجهتا، وكيف صعدت لعالم المجد والشهرة. فقالت، quot; في كل خطوة أخطيها كانت أمامي تحديات وعوائق علي تجاوزها. كما مرت أيام من الفشل وفقد الأمل لأصل لما إنا فيه اليوم كفنانة مشهورة في الكويوغرافي. وليس لدي نصيحة للجيل القادم، بل يجب عليهم أن يحسوا بتجربتهم الفنية بعواطفهم ويتفاعلوا معها.quot;
وقد تحدث الدكتور الياباني هيرو اينكوشي، الحائز على جائزة كيوتو للعلوم التكنولوجية، عن تجربته بعد انتهاء الحرب، وكم كانت الحياة صعبة، وخاصة بعدم توفر أية أجهزة للأبحاث الكيماوية، بل وبعدم توفر حتى الطعام. فقد كان يقوم بإجراء أبحاثه بأجهزة بدائية. ولكن بالصبر والإصرار أستطاع أن يكمل أبحاثه، ويكتشف أهمية انتقال الشحنات الكهربائية والالكترونات في المواد العضوية. مما أدى اكتشافه لتطورات تكنولوجية هامة في تشكيل مواد جديدة مهمة في مختلف مجالات الصناعة التكنولوجية. فقد أستطاع الباحثون بفضل أبحاثه اكتشاف مواد جديدة وصل عددها لحوالي مائتي ألف لعام 1970، وأستمر هذا العدد في التزايد حتى أرتفع اليوم لحوالي ألمائتي مليون مادة.
وقد جمع هؤلاء العلماء الثلاثة خبرة معاناة الحرب، وكيفية التعامل مع تحديات الفقر، مع قلة الدخل وصعوبة الدراسة وإجراء الأبحاث. وقد كانت المدارس والجامعات خاوية من أساتذتها الذين انشغلوا بالحرب. كما أجمع هولا بأن عطف وحب واحترام وثقة أولياء أمورهم بهم كان السبب الأساسي لنجاحهم. كما أكدوا بأن عدم التدخل أولياء الأمور في قراراتهم الحياتية، وإعطائهم الحرية الكاملة للتعامل مع تجاربهم الحياتية باستقلالية، كان سببا هاما لنجاحاتهم. والجدير بالذكر بأن تجمع شخصية هولا الثلاثة صفات البساطة والتواضع والهدوء والراحة النفسية.
تلاحظ عزيزي القارئ كيف أستطاع هؤلاء الثلاثة من المبدعين أن يستغلوا تحديات الحرب كفرصة لتعلم والإصرار لبناء مستقبل بلدانهم من جديد. وكيف أن تربيتهم المنزلية بعطف الوالدين، والوثوق بهم، وتجنب التدخل في حياتهم، خلق الثقة بأنفسهم وشخصيتهم، وكان سببا أساسيا لنجاحهم الشخصي والمجتمعي.
ولنحاول عزيزي أن نتفهم الفلسفة لشخصية للسيد كوزو ايناموري مؤسس هذه الجائزة و الموازية لجائزة نوبل، والذي أكد في افتتاحية الحفل عن أهمية التوازن بين العلوم المادية والروحية. فقد أنبهر العالم في القرن العشرين باكتشافاته في العلوم الفيزيائية والكيماوية الطبيعية. وأدت هذه التطورات لنجاحاته في تطوير الصناعة، وإدخال التكنولوجية لزيادة راحة الإنسان وإنتاجيته. كما أثرت هذه التطورات على فلسفة العلوم الأدبية والاجتماعية، فربطتها بالمفاهيم المادية التكنولوجية. وقد ترافقت إدخال هذه الفلسفة المادية بالعلوم الأدبية والاجتماعية بماسي الأنانية السياسية والدبلوماسية الواقعية. فضاعت الكثير من نجاحات التكنولوجية في معانات الشعوب في تلوث البيئة والقضاء على مواردها الطبيعية، بالإضافة للحروب المتكررة والمدمرة والتي أدت لقتل الملايين من الجنس البشري، وضياع اقتصاد العالم في أجهزة الدمار، بالإضافة لنشر الفقر والأمراض. كما أدت لزيادة الهوة بين الغناء والفقر، وأنتشر الإجرام والإرهاب. فهل يحتاج العالم لفلسفة جديدة تجمع بين المادة والروح لينقد البشرية ويسعدها، وبذلك نتفهم فلسفة جائزة كيوتو العالمية لخلق التوازن بين العلوم المادية والروحية.
ولنحاول عزيزي القارئ أن نتدارس معا مفهوم التوازن بين العلوم المادية والعلوم الروحية. فالجدير بالذكر بأن تعريف العلوم الروحية قد يكون صعبا ولكن من السهل فهم هدف هذه العلوم. فهدف هذه العلوم الروحية هو خلق التوازن الإنساني بين الواقع المادي المرتبط بحاجيات الإنسان المادية الفيزيولوجية، والانا الإنسانية العليا المرتبطة بسعادته من خلال السلوك الإنساني المرتبط بالقيم والأخلاقيات، والذي يخلق البيئة المجتمعية للمشاركة الإنسانية بالعمل المشترك المتناغم البعيد عن الأنانية الفردية، والذي يترافق بالطمأنينة والراحة النفسية، والتي تكمل صحته الشاملة والمكونة من الصحة الجسمية والذهنية ولنفسية والعاطفية والروحية. وهذا التوازن بين المادة والروح سترجع للبشرية إنسانيتها وسعادتها، وتبعدها عن الطمع والجشع المادي، وتقرب الإنسان لأخيه الإنسان ليعملا معا في تطوير العالم لخدمة البشرية وإسعادها، ويبعدها عن أنانية الحرب والدمار.
والسؤال لعزيزي القارئ هل من الضرورة أن نبداء بتطوير التعليم في مجتمعاتنا العربية، ليشمل تعليم متوازن يجمع بين العلوم الأدبية والروحية، قبل أن تأفل حضارتنا العربية بالأحقاد الطائفية والإرهاب والحروب؟
سفير مملكة البحرين في اليابان
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية