تظلّ لنا نحن أبناء مخيمات قطاع غزة ذكريات مصرية لا تنمحي من الذاكرة، أيا كانت نسبة الأسى والحزن في تلك الذكريات ، فقد عشنا منذ نكبة عام 1948 وحتى هزيمة عام 1967 أي عشرون عاما تحت ما كان يسمى ( إدارة الحاكم العسكري المصري لقطاع غزة )، ولا أحد من جيلي لا يتذكر اللواء يوسف العجرودي الذي كان أول حاكم عسكري مصري للقطاع، وفي زمنه صدرت ما عرفت بمنحة الأربعين جنيها التي كانت تمنح للطلبة المتفوقين في امتحان الثانوية العامة، وقد استفدت من هذه المنحة عام 1961 وكان المبلغ كافيا لكافة مصاريفي في السنة الجامعية الواحدة، واعتمادا عليه أنهيت ( الليسانس ) عام 1965 ، وبعد ذلك غادرت للعمل في الأردن والكويت ثم العودة للقاهرة لإنهاء درجة ( الماجستير ) ثم العودة للعمل في الكويت ثم الإسكندرية لإنهاء درجة ( الدكتوراة ) عام 1979. منذ ذلك العام عدت إلى مصر مرة واحدة عام 1991 بعد طردي من دمشق في تموز من عام 1990 ، ومنذ عام 2003 تتكرر زياراتي للقاهرة سنويا وأكثر من مرة في بعض السنوات للزيارة أو للمشاركة في مؤتمرات وعقد لقاءات حول كتب أصدرها.
استعدت شريط هذه الذكريات في لقاء صحفي مع أعضاء وصحفيي حزب ( شباب مصر ) في مقر الحزب بميدان الجمهورية ( عابدين ) أثناء زيارتي للقاهرة الأيام القليلة الماضية، تلك الزيارة التي امتدت ثلاثة أسابيع، تخللتها لقاءات عديدة حول كتاب ( أحداث الحادي عشر من سبتمبر كما يراها كتاب و مفكرون عرب ) الذي قمت بإعداده لحوالي عشرة من مشاهير الكتاب والمفكرين العرب وكتبت مقدمته. والحزب الذي يترأسه الصحفي والكاتب أحمد عبد الهادي يعتبر من أحدث الأحزاب المصرية ، إذ بدأ عمله ونشاطه الحزبي في يوليو من عام 2005 أي قبل عامين تقريبا، ويعتبر نفسه الإطار الذي يجمع شباب وشابات مصر في نشاط حزبي ليبرالي معتدل بدلا من تركهم للجماعات السلفية التي تستخدم الإسلام غطاءا ذكيا لغسل العقول والقلوب، ثم توجيهها لأغراض غالبا ليست وطنية بقدر ما هي حزبية خاصة في ظل هذا المدّ السلفي الذي يكاد يلتهم كل شيء في مصر. وضمن هذا السياق كانت قبل أسابيع قليلة حملة الحزب ضد ترشيح سبعة عشر اسما من جماعة الإخوان المسلمين لانتخابات مجلس الشورى لنشرهم أسماءهم وبرامجهم على صفحات مجلات الجماعة في حين أنها جماعة محظورة ، وقد تبنى نفس الدعوة الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم كما نشرت جريدة الأهرام. هذا الحزب أيا كان حجم تأييدك أو خلافك معه إلا أنه يبقى ظاهرة جديدة في ساحة الحراك السياسي المصري، فكل أعضاء الحزب من الشباب والشابات وكذلك رئيس الحزب على خلاف ما تعودنا عليه في (عواجيز المعارضة ) حسب وصف جريدة الحزب. هناك من ينتقد أداء الحزب خاصة في بعض المدونات في شبكة الانترنت، وهناك من منتقديه من يتوقع أن يكون الجميع في صفهم ، فقد وصلتني أثناء وجودي في القاهرة رسالة على إيميلي الخاص من شخص ( يرحب بوجودي في القاهرة إلا أنه يعتب على وجودي في مقر الحزب لأن هذا يعني أنني أتعامل مع خصومهم )، وهذا في حد ذاته ضيق نظر لا مثيل له ، فهل هناك حزب أو تنظيم في العالم عليه إجماع وبدون خصوم، وفي هكذا حالة هل يستطيع الكاتب والإعلامي أن يرضي الجميع؟. نتيجة حواراتي المستفيضة مع هؤلاء الشباب والشابات وكمراقب غير مصري ، أعتبر أن مجرد زجّ هؤلاء الشباب والشابات في المعترك السياسي والحزبي ظاهرة إيجابية ، خاصة تصعيدهم لهذا الحراك بترشيح الشاب ( وائل القطامي ) لانتخابات مجلس الشورى عن دائرة السيدة زينب، وإن كانت فرص نجاحه معدومة فالخطوة في حد ذاتها إيجابية للغاية.
انا والأقباط ومؤتمراتهم
في اللقاء مع شباب وشابات مصر، سألني أحدهم عن حضوري لمؤتمر الأقليات الأخير في زيوريخ ( فبراير 2007 )، وكانت مفاجأة الحضور أنني أعلنت لهم أن هذا هو المؤتمر الثالث الذي أحضره بدعوة من تنظيم ( الأقباط متحدون )، ولمّا كنت أشتم نبرة الغمز في السؤال، كان لا بد من توضيح الحقائق التالية من وجهة نظري :
اولا: كل من يشارك في أي لقاء أو مؤتمر ليس مسؤولا عن سياسة وخلفية الجهة الداعية، فالمشارك مسؤول عما يقوله في المؤتمر تماما كما أن الكاتب ليس مسؤولا عن سياسة وارتباطات الصحيفة التي يكتب فيها فمسؤوليته فقط عما يكتبه،و قدّمت مثالا عندما كنت مقيما في دمشق وأكتب عمودا إسبوعيا في صحيفة ( تشرين ) في زمن رئاسة المرحوم يوسف مقدسي لتحريرها، فكان بعض الأصدقاء يعاتبني لأنني أكتب في ( جريدة حزب البعث السوري )، فكان جوابي دوما: لست مسؤولا عن سياسة الجريدة والنظام الذي يصدرها، حاسبوني على ما أكتبه خاصة إن كان فيه نفاقا أو مدحا للنظام الذي لا نختلف على سوء أفعاله وممارساته، والدليل على ما أقول هو مشاركة الدكتور جهاد عودة أستاذ العلوم السياسية بجامعة حلوان، وعضو لجنة السياسات بالحزب الوطني الحاكم في أكثر من مؤتمر لتنظيم الأقباط متحدون.
ثانيا: كنت وما زلت لست مسؤولا عن دعوة اليهودي المتطرف ( مردخاي نسيم ) للمؤتمر ألأخير، ورغم ذلك فقد كان إيجابيا أن يقدم في المؤتمر تلك الأكاذيب والافتراءات، كي أردّ عليه مفندا كل ما قال ليعرف أن الحضور لا يوافقون على ما يقدمه بل مارس أكثر من مشارك رفضه بالانسحاب احتجاجا ثم كان الرأي بشطب أكاذيبه من وثائق المؤتمر.
ثالثا: لا يخلو أي تنظيم أو مؤتمر من السلبيات أو بعض التصرفات الخاطئة لبعض المشاركين، إلا أن هذه السلبيات والأخطاء ينبغي أن لا تطغى على الإيجابيات والهدف العام للمؤتمر الذي حتما هدفه تحقيق العدالة والمساواة لكل المصريين، لأنه ليس من المنطقي أو الأخلاقي اتهام ما يزيد عن ستين مشاركا من كافة الأطياف الدينية والسياسية والعديد من الأقطار أنهم خونة يريدون الشرّ بأوطانهم.
مصر أم الدنيا...إلى أين؟
مصر مشغولة سياسيا واجتماعيا وحزبيا بالعديد من القضايا إلا أن أهمها حسب ملاحظتي قضيتان:
الأولى : مستقبل النظام الحاكم
يتردد في الشارع المصري بقوة مسالة وراثة ( جمال مبارك ) لوالده الرئيس ( محمد حسني مبارك ) رغم النفي المتكرر لهذه المسألة من طرف ( جمال ) شخصيا، إلا أن الثقافة الشعبية تحاول أن تؤطر كل صغيرة وكبيرة لخدمة ( الإشاعة الشعبية )، فقد اعتبروا زواج جمال قبل أسابيع مجرد إكمال لديكور التوريث خاصة في ظل عدم وجود نائب للرئيس، ويطرحون للتذكير والمقارنة الحالة السورية التي تمّ فيها تغيير الدستور على مقاس ( بشار ) ليخلف والده الرئيس (حافظ الأسد ). من جانبي كمراقب للشأن المصري وسبق أن كتبت صراحة ضد التمديد الخامس لرئاسة الرئيس حسني مبارك، ومن المطالبين بتحديد فترتين لرئاسة أي رئيس كما هو في الدول الأوربية والولايات المتحدة الأمريكية، أرى أنه لا توجد نية لدى النظام والحزب الوطني الديمقراطي الحاكم لتوريث جمال مبارك، إلا أنه من ناحية حق المواطن في الممارسة السياسية ضمن الدستور واحترامه الكامل، أرى أنه من حق جمال مبارك إذا أراد أن يترشح في سباق الرئاسة المصري، وإن نجح كرئيس جديد من خلال انتخابات ديمقراطية نزيهة شفافة بعيدة عن أية ألاعيب وتزويرات فهذا حقه، تماما كما دعمنا وصول حركة حماس للمجلس التشريعي ورئاسة الحكومة الفلسطينية من خلال انتخابات شهد الأوربيون والأمريكيون والإسرائيليون بنزاهتها رغم مقاطعتهم للحكومة التي جاءت بها تلك الانتخابات.
الثانية: مستقبل الإخوان المسلمين
من المعروف أن حركة الإخوان المسلمين رغم مرور ثمانين عاما على تأسيسها، إلا أنها ما زالت جماعة محظورة أي غير قانونية منذ أن أعلن رئيس الوزراء المصري ( محمود فهمي النقراشي ) في الثامن من ديسمبر لعام 1948 حلّ الجماعة ومصادرة أموالها واعتقال معظم أعضائها ، و أعقب ذلك اغتيال مؤسس الجماعة ومرشدها الأول ( حسن البنّا ) في الثاني عشر من فبراير لعام 1949 ، وثبت أن القاتل كان يركب السيارة الرسمية للأميرالاي محمود عبد المجيد المدير العام للمباحث الجنائية بوزارة الداخلية في زمن الملك فاروق. ورغم هذا الحظر ووجود الجماعة غير القانوني إلا أنها كسبت ثمانية وثمانين عضوا في مجلس الشعب الحالي، إذ خاضوا الانتخابات بصفتهم الشخصية كمستقلين رغم أن الكل بما فيهم أجهزة الحكومة تعرف انتماءهم للجماعة.
و تشهد مصر منذ شهور حملة واسعة ضد الجماعة وما زالت مستمرة خاصة ضد مصادر تمويلها المالية التي تقدر بمئات الملايين عبر أشخاص وشركات تابعة للجماعة، وخطورة هذه الجماعة في طريقة تسييسها لمبادىء الدين الإسلامي الذي يجعل العديد من قيادتها يشعرون وكأنهم فوق الأمة والشعب ، كما عند مدرسة ( الطزطزة ) الشهيرة و (الضرب بالأحذية ) عند المرشد السابع للجماعة محمد مهدي عاكف، الذي يفضّل مسلما من اندونيسيا لحكم مصر إن اتبع شروط وتوجيهات جماعته كما صرّح في وقت سابق. الثقافة الشعبية المتخلفة التي أشاعتها هذه الجماعة وتيارها المتأسلم تهدد مستقبل مصر فعلا، فمن كتب التداوي بالأعشاب إلى فتاوي غير منطقية ولا إسلامية لن تكون فتاوي إرضاع الكبير وبول الرسول آخرها، إلى إشاعة جو (دروشة ) لم تشهد مصر مثيلا له في القرن الماضي ، مما يجعلني متأكد أن وصول هذه الجماعة للسلطة ( لا قدّر الله ) سيجعلنا أمام منظومة أكثر تخلفا من ( طالبان ) أفغانستان ، ويكفي التذكير بالممارسات التي تشهدها الساحة الفلسطينية فقط بعد وصول حماس للسلطة وهي نتاج حركة الإخوان المسلمين الفلسطينية المرتبطة وراثيا بأمها المصرية، فلماذا الآن فقط مهاجمة المدارس المسيحية ومقاهي الانترنت وخطف الصحفيين الأجانب وتهديد السيدات غير المحجبات مسلمات أم مسيحيات؟.
ومن تطبيقات هذه الثقافة المتخلفة التي تستعمل الدين الإسلامي محركا وغطاءا ، يمكن أن نفهم الاعتداءات المتكررة على الأقباط التي لن تكون اعتداءات ( العيّاط ) الأخيرة آخرها، إذ من المهم رصد أن غالبية تلك الاعتداءات تتم بعد صلاة الجمعة، وتحركها إشاعة بسيطة من كلمتين هي في الغالب: الأقباط سيبنون كنيسة!. من هنا وحفاظا على مصر ودورها التنويري في المنطقة من المهم العمل بكل الوسائل لتحجيم الثقافة التكفيرية المتخلفة لهذه الجماعة، التي أدت إلى قتل العديد من المفكرين المصريين مثل فرج فودة وهروب البعض مثل نصر حامد أبو زيد وسكوت سيد القمني. لو كنت مصريا ووضعت بين خيارين: نظام حسني مبارك أم نظام الإخوان المصريين ؟ لصوتّ عاليا لنظام حسني مبارك رغم كل انتقاداتي له، لأن أي نظام مدني يمكن إصلاحه وتطويره إذا تضافرت الجهود ووجدت الإرادة الشعبية المنظّمة، أما النظام الذي يحكم كوكيل لله في الأرض فأساسه ( التكفير وليس التفكير ) و ( التحريم هو الأساس )، ولن يبقي في حياة المواطن حلالا سوى ( الجلابية واللحية الطويلة )...وقلبي على ( مصر أم الدنيا ) أن لا تصبح ( أم جماعة الإخوان المسلمين ).....وللحديث بقية!.
[email protected]