تعتبر قضية إجلاء بني النضير من المفردات المهمة و الخطيرة في تاريخ السيرة النبوية، والأسباب كثيرة بطبيعة الحال، منها كونها تتصل بالعدو التقليدي للإسلام والمسلمين في الجزيرة العربية، ومنها لان المصادر التاريخية تصور يهود بني قريضة بالشريحة اليهودية المتفوقة غيرها من الفرق أو الجماعات اليهودية بالقوة والمنعة والموقع الاجتماعي، فهم كما ينقل عن النبي مثل بني المغيرة في قريش /الواقدي ص 375 /، كما تصورهم مصادرنا التاريخية والتراجمية بالغنى وا لأنفة وسعة الرزق، ويقولون إنهم كانوا أكثر حضورا من بني قينقاع وقريضة . ومن هنا، ولهذه الاسباب يستغرب القا رئ كيف يكون هناك اختلاف في توريخ هذه القضية رغم أهميتها ودورها، وموقعها في تاريخ الاسلام ومصيره في الجزيرة العربية، ومن الغريب أن يصدر هذا الاختلاف في قضية بالغة الاهمية على مستويات عالية من الرواة الأوائل ممّن يُعتمد عليهم إعتمادا كبيرا في الرواية مثل عروة بن الزبير الزهري وابن اسحق وغيرهما من أساطين مصادرنا في السيرة والمغازي . فقد جاء في كتاب المغازي للبخاري باب حديث بني النضير [ (قال الزهري عن عروة) كانت على رأس شتة أشهر من وقعة بدر قبل أحد، وجعله ابن إسحق بعد بئر معونة وأحد، وقد وافق ابن إسحق جل أهل المغازي كما قال الحافظ في الفتح ] / فتح الباري 7 ص 330 . وقت
الروايات التي تتحدث عن قضية بني النضير قليلة جدا، ولكن الأختلاف فيها كثير جدا، وفي ضوء هذا من حقنا أن نتساءل عن قيمة الرواية الشفهية في حدث مهم، حيث الروايات الشحيحة والاختلافات والمفارقات الجوهرية!!
الروايات عندما تكون شحيحة والاختلاف كبير نكون أمام مشكلة، وتتعقد مشكلة التاريخ، أي كتابة التاريخ عندما يكون ذلك في نطاق حدث يعتبر مهم وجوهوي وخطير . كان هناك اختلاف في توقيت القضية، وأسبابها، ومجرياتها، وبعض نتائجها، فيما كانت الروايات المتعرض للحدث أصلا قليلة، فما هي القيمة الحقيقية للشفاهي إذن؟

كلمة حول المصادر
تتعرّض مصادر السيرة والتاريخ لهذا الحادثة بتفاوت، أقصد على مستوى السرد، ومن الطبيعي أن تكون مصادر السيرة والمغازي والتراجم مثل سيرة ابن هشام والواقدي وطبقات بن سعد أهم من مصادر التاريخ الاسلامي العالم، بما في ذلك الطبري .
بعض كتاب السيرة يتطرق لحادثة ما، ثم يسرد عشرات المصادر كإحالات على هذا الحدث، بصرف النظر عن موقف الكاتب من الحدث بالذات، ولكن فيما لو رجعنا إلى هذا الكم الهائل من الإحالات لوجدناها تنتهي عند مصدر أو مصدرين أو ثلاث! وهذا في تصوري تعقيد .والغريب أن بعضهم يقوم بعملية نقد للمصادر المتقدمة على ضوء المصادر التالية وبحقب زمنية ربما طويلة نسبيا! فهو مثلا يصحح خبر ابن هشام برواية عن ابن الاثير في الكا مل، أو يصحح خبر الطبري بخبر أخر يرد في كتاب (تاريخ الخميس)، وهناك ما هو أدهى وأمر، كثيرا ما يصحح تاريخا مسندا برواية غير مسندة، كأن يصحح رواية ابن إسحق المسندة برواية (أعلام الورى) لمصنفه، وهو كتاب مراسيل بامتياز . لا يعني هذا أن رواية ابن هشام معصومة، ولا يجوز الاقتر اب منها، و لكن كونها مسندة هي أو لى با لتعامل الإيجابي معها من رواية صاحب (إعلام الورى) غير المسندة بالمرّة، حتى إذا كان سند ابن إسحق ضعيفا .

إن تصحيح المتقدم بالاعتماد على المتأخر شي خطير، ويحتاج إلى دقة وعناية زائدة، خاصة إذا كان المتأخر غير مسند، أو قد نُقِل إلينا وجادة، أو إذا كان أصله تالفا، ومرّ بعدة محاولة نسخ وتهذيب وتشذيب لا ندري ما هي معاييرها ولا دقة عاملها .
مصادر قضية بني النضير كثيرة، وكثيرة جدا، فنحن يمكن أن نراجعها في سيرة ابن هشام، ومغازي الواقدي وطبقات بن سعد وتاريخ الطبري، ومغازي الذهبي، وتاريخ الخميس، وتاريخ اليعقوبي، وأنساب الأشراف، والمحبّر، والمنمّق والمسعودي، وتاريخ وفاء الوفاء، والعبر لإبن خلدون، وتاريخ المنتظم لإبن الجوزي، وصفوة الصفوة، والمبتدا والخبر، وأسد الغابة، والإصابة في معرفة الصحابة، وإعلام الورى، والبحار، والصحاح، والمسانيد، والسنن، وغيرها ما شاء الله من المصادر والاسفار والموسوعات، ولكن بعض هذه المصادر تفتقر إلى السند تماما، كما هي رواية اليعقوبي والبلاذري في أنساب الإشراف، كما أن بعضها تقتصر على سند ناقص، كما هو في سيرة ابن إسحق نفسها كما سنرى، وبعض هذه المصادر هي تكرار لسابقتها، أو اختصارا لها تبعا لتلمذة اللاحق للسابق كما هو في مجمل طبقات بن سعد تبعا لشيخه الواقدي، وبعض هذه المصادر متأخر زمنيا، مثل الكامل والبداية والنهاية وغيرهما من المصادر التاريخية، وبعض هذه المصادر مختصر جدا، كما نقرا في المحبر عن بني النضير بضعة كلمات (ثم عزوة بني النضير في سنة أربع، خرج إليهم يوم الثلاثاء لأثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، فحاصرهم ثلاثة وعشرين يوما حتى أجلاهم، ورجع يوم الخميس من شهر ربيع الأول) ص 113 . كما أن بعض المصادر لا يعدو كونه جامعا للروايات والسرود الواردة في مصادر سابقة، وخير من يمثل ذلك مغازي الذهبي الذي هو جزء من تأريخه الجامع لسابقه أو الجامع للكثير من سابقه، والرجل معروف كونه رجاليا أكثر من كونه مؤرخا (ت 748) .
الذي أريد أن أخلص إليه من كل هذا، أن رجوع بعض مؤلفي السيرة إلى مصادر كثيرة لا يعني بالضرورة إنه يرجع إلى مصادر متعددة الينابيع، فهي قد تتشابه بالمسانيد، وقد يكون بعضها قد أخذ من بعض، وقد تكون خالية من الإسناد بالكامل!!

مصادر حادثة بني النضير
في تصوري إن أهم المصادر التي يمكن أن نرجع إليها في معالجة حادثة بني النضير وكثير من حوادث وأمور وقضايا السيرة النبوية هي سيرة ابن إسحق، ومغازي الواقدي، وطبقات بن سعد، وأنساب الاشراف، والطبري من المؤرخين بالدرجة الأولى، ثم تلي الباقيات، ولا ننسى ما ورد في الصحاح ولكن بشرط عدم الأخذ بالقول الذي يرى أن كل ما فيها صحصح، وإلاّ لا نستطيع أن نؤسس تاريخا حقيقيا .
تعرض ابن إسحق للحادثة في رواية عن يزيد بن رومان، وفي رواية حَدَّثه فيها عبد الله بن أبي بكر مُحَدَّثَا، وفي رواية حدّثه فيها بعض(أل يامين) ... والحصيلة النهائية لهذا الا ستعراض، إن رواية ابن إسحق مرسلة، فإن يزيد بن رومان من تابعي التابعين، توفي سنة ثلاثين ومائة للهجرة . وعبد الله بن أبي بكر حُدِّث، فهناك واسطة مجهولة، ثم لا ندري من هم هؤلاء بعض (أل يا مين) وأل يامين يهودي أسلم بعد إجلاء بني النضير .
تعرّض الواقدي للحدث في رواية مسهبة تعادل سردية ابن هشام كثيرا، وفيما يستعرض رجاله في الرواية ينهي السند بقوله (في رجالٍ ممّن لم أُسمِّهم) ص 363، ثم في رواية سندها (حدّثني يحي بن عبد العزيز قال: كانت القبة ...) ص 371، وهي رواية مرسلة، وفي رواية سندها (أبو بكر بن أبي سبرة، عن رُبيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، عن جدّه، قال: لقد مرّ ...)، والسند مخدوش بـ (رُبيح)، فهو (ليس بمعروف ... وقال الترمذي في العلل الكبير عن البخاري: ربيح منكر الحديث) تهذيب التهذيب 3 رقم 460 . وعبد الرحمن بن سعيد الخدري ليّنه ابن سعد / مغني الذهبي رقم 3571 . على أن المصدر القريب للواقدي في هذه الرواية هو (ابو بكر بن أبي سبرة) يعد من أسوأ الرواة في تاريخ الرواية الإسلامية السنية، فهو بقول عبد الله بن أحمد عن أبيه ليس بشي، وكان يضع الحديث ويكذب، وبقول ابن معين ليس حديثه بشي، وقال ابن المديني كان ضعيفا، وبقول مرّة كان منكر الحديث، وبقول البخاري ضعيف، وبقول النسائي متروك / تهذيب التهذيب 12 رقم 138 . فما الذي بقى من الرواية؟ وفي رواية أخرى يتحدث الواقدي عن سلاحهم الذي قبض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بسند (حدّثني أبو بكر بن عبد الله، عن المسور بن رفاعة، قال: وقبض ...) ص 377، ولي خمس ملاحظات على المسور بن رفاعة، وهي: ــ
الاولى: إ نه قرظي، فإ ن اسمه الكامل هو: المسور بن رفاعة بن أبي مالك القرظي .
الثانية: يروي عن القرظيين .
الثالثة: تابعي توفى سنة 138 .
الرابعة: لم يتضح مصدره في رواية الواقدي عنه .
الخامسة: لم يوثّقه غير ابن حبان، وفي توثيقاته نظر وتحفُّظ كما يقول الرجاليون . تهذيب التهذيب 10 رقم 286 .

يتعرض ايضا في رواية أ خرى بسند (حدّثني موسى بن عمر الحارثي، عن أبي عُفير، قال: إنما كان يُنفق على أهله من بني النّضير ...) ص 378 . والرواية تتحدث عن توزيع الغنائم، ولم أجد ترجمة لموسى بن عمر الحارثي فيما عندي من مصادر، كذك رواية عن معمر عن الزهري، عن خارجة بن زيد، عن أم العلاء، يتحدث فيها عن توزيع الغنائم .
الطبري تناول الحدث، مستنداً إلى رواية ابن إسحق مفصلا، ورواية الواقدي الرئيسية مختصرا، وفي رواية يتحدث عن مدة حصارهم من قبل النبي، بسند (حدّثني محمد بن سعد، حدَّثني أبي، قال: حدَّثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ يعني بني النضير ــ خمسة عشر يوما ...) 3 ص 153 .
نطالع أكثر من روا ية في البخاري وصحيح مسلم عن حادثة بني النضير، وهي روايات لا تسرد الحدث بقدر ما هي اشارات ومعلومات متجزّئة، نتعرض لها أثناء حديثنا المفصّل إن شاء الله تعالى .
وإذا راجعنا جيدا المسانيد والمتون لوجدنا أن أهم المتون في الحدث مرسلة، أقصد متون السرد، في سيرة ابن إسحق والواقدي وطبقات بن سعد، وفي لقاء اخر نفصل أكثر .