.... ولذلك فإن أهم ما في زيارة البابا بنديكت السادس عشر لأمريكا، برأينا، هو انها كشفت عن الفيلسوف الألماني الكامن تحت جلد رجل اللاهوت المسيحي، الذي أثار منذ اعتلائه الكرسي البابوي لسدة الفاتيكان عام 2005، بتصريحاته المتتالية وبعض أفعاله المتفرقة، ردود أفعال غاضبة في العالمين العربي والاسلامي. فقد نقل مراسل رويترز عن البابا تنويهه بحقيقة أن أمريكا لا دين للدولة فيها، قائلا: إنها دولة علمانية ترحب بكافة الأديان والعقائد التي تتواءم في نموذج تعايش إيجابي يمكن لأوروبا أن تتعلم منه الكثير.
ففي الدولة العلمانية، لا يستحق من الأديان صفة quot;العاقلquot; الا الدين الذي يتخلى بسبب تعقله الذاتي عن الفرض القسري لما يؤمن به من قناعات، وعن الاجبار القهري للضمير الذي يمارس تجاه المنتمين اليه، وبالدرجة الأولى عن استخدامهم للعنف والإرهاب.
تلك الفكرة، التي صاغها البابا بنديكت ( أو الكاردينال راتزنجر سابقا) ورفيق دربه وبلدياته quot; يورجن هابرماس quot;، شيخ فلاسفة العالم، في مناظرة شهيرة عقب الحادي عشر من سبتمبر 2001، تدين بوجودها لتأمل ثلاثي الاضلاع يقوم به المؤمنون، متأملين موقفهم في مجتمع كوكبي تعددي.
فعلي الوعي الديني أن يعالج أولا:اللقاء المختلف معرفيا مع مذاهب أخري وأديان أخري. ويجب عليه ثانيا: أن يقبل سلطة العلوم التي تمتلك في مجتمع اليوم حق احتكار معرفة العالم. ويجب عليه أخيرا: أن يتقبل المقدمات المنطقية الخاصة بالدولة المدنية الليبرالية الديموقراطية الدستورية، وهي مقدمات تنبثق من أخلاق غير دينية.
ومن دون هذا quot;الدفع التأمليquot;، سوف تفجر الأديان التوحيدية طاقة هدامة في المجتمعات التي تنهش فيها أحماض الحداثة، ويجري تحديثها بلا رحمة. ومعني quot; الدفع التأملي quot;: التأمل والتفكر والتدبر والنقد المزدوج وهو من خصائص المجتمعات الحديثة في الغرب.
وهو ما يعني الأعتراف بأن العلمانية، ليست ضد الدين، ولا تستطيع أن تلغي الدين، لكنها تستطيع أن تنظم العلاقة بين الأديان والمعتقدات المختلفة اليوم.
وإذا كانت العلمانية تفصل السياسة عن الدين، فهي لا تتناقض مع الدين وحق المواطنين في ممارسة عقائدهم بمنتهى الحرية، بينما تكَفر الدولة الدينية فصل السياسة عن الدين، والتكفير هو سلاحها القوي لإدانة كل معارض أو مختلف، لأن المعارضة في الدولة الدينية ممنوعة باعتبارها مخالفة لكلام الله. في حين أن المعارضة واجبة وضرورية في الدولة العلمانية الديمقراطية الليبرالية الدستورية،التي تؤمن بالتعددية كحالة صحية.
أضف إلي ذلك أن الدولة الدينية ترفض الديموقراطية لأن الشعب ليس مصدر السلطات وإنما الشرع الديني، وبذلك ليس للشعب دور في الحكم. وبالتالي لا وجود للمواطنة في ظل الدولة الدينية، لأن العقيدة، أية عقيدة كانت، لا تؤمن بحق جميع المواطنين على قدم المساواة طالما أن القانون الديني يميز بين العقائد. ومن هنا تبرز أهمية حرية العقيدة في الدولة المدنية، التي هي علمانية بالضرورة، حيث تسمح بممارسة المواطنين لعقائدهم بحرية وبدون تمييز وبنفس الشروط علي أساس حق الجميع في المواطنة بالتساوي.
ولأن الدولة الدينية تتمتع بالسطوة الدينية والسياسية بربط الدين بالسياسة، يصبح الدستور سلاحا لضرب الشعب، بينما الدولة الديمقراطية العلمانية الليبرالية الدستورية تجعل الشعب صانع الدستور ليحميه من الظلم، ويحمي حقوقه وواجباته.
والفرق بين رجل الدين في الدولة المدنية، ونظيره في الدولة الدينية، هو أن الأخير يستطيع ان يكفر الرأي المعارض والمختلف معه، لأن السلطة التي يستمدها quot; فوق الحرية quot; أو قل ان هذه السلطة هي التي تحدد quot; مساحة الحرية quot; وضوابطها، وهذا يتماشي تماما مع المساحة ذاتها التي تريدها السلطة السياسية المتماهية معها.
أستاذ الفلسفة جامعة عين شمس
[email protected]