يشبه الفيلسوف الأمريكي المعاصر quot;ستيفن تولمينquot; - Stephen Toulmin حركة الفكر الإنساني بعد القرن السابع عشر، بالحرف اليوناني quot;أوميجاquot; (W) حيث يقول في كتابه cosmopolis quot;إن المذاهب الأساسية التي تأسس عليها الفكر الإنساني وما تبعها من ممارسات وأساليب، بدءًا من القرن السابع عشر، أعقبها منحنى يشبه حرف أوميجا (W). والآن، وبعد ثلاثمائة سنة، يبدو أن الأمر يدعونا إلى العودة إلى الوراء من جديد، حيث أن ما حدث طيلة هذه السنوات كان فصل العلوم عن الإفادة منها في مختلف نواحي الحياة، وأن أفكار ديكارت ومطامحه الفلسفية جرت البشرية إلى الوراءquot;.
والواقع أن كلام quot;تولمينquot; لا ينبغي أن يقرأ بعين واحدة، لأن اهتمام الفكر المعاصر بـ quot;ديكارتquot; يدل على أهميته، ومدى التأثير العميق لفلسفته. إنه ذلك الاسم الذي اقترن غالبًا بالفلسفة والعلم معًا في العصر الحديث. وحسب quot;تشومسكيquot; في كتابه quot;العلم الديكارتيquot;: فإن أفكار ديكارت هي التي طبقها في نظريته عن quot;النحو التحويلي والتوليديquot;، وكانت ملهمًا لأعماله اللاحقة. وفي المقابل فإن العالم والطبيب الإيطالي quot;انطونيو داماسيوquot; Antonio Damasio ، كشف في كتابه المعنون بـ quot;خطأ ديكارتquot; عام 1994، عن الدور الذي تلعبه الانفعالات في التفكير المنطقي، وهو ما أغفله ديكارت.
إن المنهج العلمي الحديث، الذي يقوم على الملاحظة والتجربة والوصف والتحليل الرياضي المنطقي، يدين بالكثير لـ quot;جاليليوquot; و quot;بيكونquot; وquot;ديكارتquot;، إذ لم يقرأ كتاب الطبيعة إلا بفضل هؤلاء. كان كل من quot;جاليليوquot; و quot;بيكونquot; الخلاصة المبكرة للعالم المتمرس كما نعرفه اليوم، أما quot;ديكارتquot; فهو أول فيلسوف تطبيقي في العصر الحديث، رأى أنه يمكن اختزال العلوم كلها في الرياضيات، خاصة في مجال الهندسة - والتحليل الهندسي.
بيد أن أهمية quot;ديكارتquot; القصوى تكمن في أنه طرح السؤال الكبير: ما الذي نعرفه.. وكيف نعرف؟ وهو سؤال المعرفة كلها، ولعل مقولته: quot;أنا أفكر إذًا أنا موجودquot; هي أكثر المقولات شهرة، إذ أنها ما زالت تتردد حتى اليوم.
وظهر التأثير البالغ لـ quot;ديكارتquot; في تقدم العلم الحديث، مع quot;نيوتنquot; على وجه الخصوص، وفي الفيزياء أساسًا إذ قادت رؤاه المحاولات المتعددة لتطوير الفيزياء والرياضيات، ويكفـي أن نعرف أن الخصائص والسمات المميزة لـ quot;الامتدادquot; و quot;الكتلةquot; وquot;الحجمquot; و quot;السرعةquot; و quot;القوةquot; و quot;القصور الذاتي quot; hellip;وكلها مفردات لغة الفيزياء، مستمدة من ديكارت، أضف إلى ذلك أن تطور الفيزياء أدى بدوره إلى تطوير الرياضيات واللغة، وأصبحت quot;الدقةquot; و quot;التحديدquot; - إن لم تكن الصرامة -هي لغة العلم ومنهجه.
لكن ديكارت قال أيضًا بـ quot;الثنائيةquot; Dualism بين (العقل - الجسم)، ومن ثم ظهرت مشكلة أساسية وهي أن quot;العقلquot; Mind المجرد، يستقر في quot;المخquot; (brain - body) وهو كائن عضوي، بينما الرياضيات تتعامل مع المجردات والتصورات العقلية، ومن ثم أصبح هناك لغز أساسي تولد من هذه الثنائية التي طبعت رؤيتنا للعالم وللإنسان وللأشياء، ويمكن صياغته كالتالي: كيف تستطيع أفكارنا المجردة، ومقاصدنا ومشاعرنا أن تسير أجسامنا الطبيعية، وتوجه أفعالنا وسلوكنا؟(34)
إن quot;الثنائيةquot; Dualism هي ذلك الاسم الذي عبر عنه الانشطار الحاد والفصل التعسفي بين:الروح - الجسد، الذات - الموضوع، العالم الباطني - العالم الخارجي، وقد ظلت تفعل فعلها زمنًا طويلاً قبل أن تتقدم العلوم الجديدة للفكر واللغة والرياضيات والاتصالات والبيولوجيا وعلم النفس وعلم الاجتماع وغيرها من العلوم. بل أصبح اليوم أي quot;باحث، أو أية نظرية علمية، لا تأخذ بعين الاعتبار quot;خطأquot; العلم الديكارتي تصبح موضع اتهام، ناهيك عن السمعة السيئة التي تلاحقها.
بيد أن الخطأ الأكبر لهذه الثنائية الديكارتية تمثل في توجيه البحث العلمي نحو التقسيم - Parcellisation، تقسيم كل مشكلة إلى عدد مساو من الأقسام أو الأجزاء، ونحو المردودية ، بحيث أصبحنا سادة الطبيعة ومالكين لها، كما أنه أوجد شقة في المعرفة والثقافة، وفي داخل كل فرد منا، فقد انقسمت المعرفة إلى ما لا نهاية، إلى مناهج مختلفة ومتعددة ومستقلة إلى حد كبير، ليس بوسع أي فرد أن يسيطر على انتشارها، بينما يتضاءل باطراد احتمال أن يحيط أي مختص بكلية واحدة منها، إذ كيف لفرد واحد، مهما بلغت سعة إطلاعه، أن يحيط بكافة المعارف المتاحة، على الرغم من اتساعها وتنوعها وكثرتها، لا بل وتناقضها في كثير من الأحيان؟
هذا الوضع أدى إلى قطيعة عميقة بين واقع وجود العلم وبين فكرة العلم، بوصفه الشوط الأعلى للمعرفة البشرية، كما بسطتها الفلسفة منذ بداياتها. فقد اعترف اينشتين في مذكراته بأنه: لما حصلت الثورة الكوانتية فكأن الأرض انشقت تحت قدميه، ولم يعد يجد متكئًا يقف عليه، لأن عقله الديكارتي لم يسعفه في تمثل هذه الثورة. واكتشف quot;كابراquot; وهو يتتبع أسباب الخلاف بين اينشتين ونيلزبور، رغم أنهما ساهما في الثورة الفيزيائية معًا، إن اينشتين استطاع أن يتجاوز نيوتن في مقاربته للكون، لكنه بقى سجينًا للعقل الديكارتي، في حين أن quot;نيلزبورquot; استطاع أن يتجاوز الاثنين معًا، لأن الأول بقى حبيس النظرة العلمية الغربية، في حين أن الثاني انفتح على الفلسفة الصينية التي تجمع بين المتناقضات، والتي منحته القدرة على مقاربة هذه الحقيقة التي تبشر بها الفيزياء الكوانتية.
إن الحقيقة أو الواقع محجوب، ونظرتنا أو مقاربتنا العلمية تزيح طرفًا من الحجاب عن جزء من هذه الحقيقة. فالذي ندرسه هو حقيقة ظاهراتية، وليس حقيقة بحد ذاتها. لذلك نجد إيليا بريجوجين الحائز على جائزة نوبل يقول: quot;إن الطبيعة تجيبنا حسب السؤال الذي نطرحه (بمعنى أن حجم الجواب بحجم السؤال)، مشيرًا إلى أنه لا يوجد شيء أبدعه الإنسان، كالعلم مثلاً، في وسعه أن يحتل مكانة الإنصات الشعري والتحاور مع الطبيعة.
هكذا بدا أن المشروع الفلسفي للغرب، الذي تأسس كمشروع يملك الإجابة على كل الأسئلة انطلاقًا من معطيات أساسية محددة، كما في الرياضيات انطلاقًا من بعض المسلمات أو من الفيزياء انطلاقًا من بعض القوانين النهائية.. هذا المشروع تحطم نهائيًا.
على أن ما يهمنا في هذا الصدد أمرين، الأول هو أن الثورة العلمية أثبتت أن الواقع لا يوجد بحد ذاته، وبأن الكون ليس آلة وبدلاً من النظر إلى الشيء في ذاته، لا بد أن نلتفت إلى شبكة العلاقات التي تربط الأشياء بعضها ببعض. فالشيء لا يوجد بحد ذاته، وإنما يوجد في علاقة، والعلم مطالب بأن ينظر إلى هذه العلاقة من الآن فصاعدًا، لذلك أسرع العلماء إلى إضفاء النسبية على نظرياتهم، حيث أن النظريات مجرد تخمينات لمقاربة حقيقة ما.
الأمر الثاني هو أنه لا توجد في العالم أسباب ونتائج وفق الصورة التقليدية للعالم، على العكس، يتجسد العالم، حسـب الرؤية الجديدة، في حال من مجمل الأحوال، ولكل حالة احتمال محدد؛ أن أي فعل كوني، هو بمثابة تجربة، تستتبع عددًا محددًا من النتائج، ولا يقع الوعي الإنساني إلا على نتيجة واحدة منها حصرًا، فالعقل الإنساني نشأ وارتقى على مصادرة [السبب - النتيجة] تلك المصادرة التي لا تيسر للعقل إلا أن يتعامل مع نتيجة واحدة للتجربة في لحظة معينة، حيث ينتقي العقل عادة الأقل احتمالاً، دون الالتفات إلى النتائج الأخرى.

أستاذ الفلسفة جامعة عين شمس
[email protected]