(3-4)

نحن نعلم من علم الأنثروبولوجيا أن مصدر الإنسان ليس القرد، ولكن القرود بأنواعها من الأورانج أوتان والشمبانزي والغوريلا تجتمع في فرع خاص بها، لتلتقي مع فرع الإنسانيات (الهومونيد) فيما يشبه الفرعان المستقلان ليشكلا غصناً جديدا في شجرة الخليقة، لينبثق الغصنان بدورهما من كائن أقدم من الاثنين هو (مفترس الحشرات) الذي ربما وجد قبل عشرة ملايين من السنين، ومن هذا الكائن انبثقت أنواع شتى منه فصائل منوعة للقرود بجانب فرع مستقل للإنسانيات الذي أعطى ما لا يقل عن 11 نوعاً فيما كشف عنه علم الانثروبولوجيا حتى الآن. وهي نقلة نوعية استمرت أكثر من ستة ملايين من السنين وأنجبت أشكالاً مختلفة من إنسان (جاوة) و(الكرومانون) و(الروبوست) و(افارينيسس) و(اردبيثيكوس راميدوس) ولعل أقدمهم هو إنسان (الملينيوم) الذي عاش قبل أكثر من ستة ملايين من السنين. وفي نهاية السلسة وقبل 150 ألف سنة جاء إنسان نياندرتال. وفي نهاية النهاية من الاشتقاق جاء نوعنا المسمى العاقل العاقل (الهومو سابينز سابينز) الذي استقر شكله بين أربعين ومائتي ألف سنة ولعله المقصود به آدم الذي نطق. وعلم الإنسان ما لم يعلم وكان فضل الله عليك عظيما.
ومن هذه المقارنة بين شجرة الخليقة وشجرة الأفكار والملل والنحل نعرف أن أحدنا لا يزيد عن ثمرة من شجرة عملاقة. وهو يعلمنا التواضع والتسامح وتقبل الآخرين.
والسؤال المعكوس هو عندما يواجه الطفل أمه كما روى لي أحدهم فيسألها عن نوعين من الدعاء تعلمهما من المدرسة. لماذا كان الدعاء دعائين؟ يكون جواب الأم: الصيغة الأولى هي للمذهب الحنفي والثاني للشافعي ونحن على مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة. ولكن الطفل يبدأ رحلة العودة تدريجياً فيتخيل أن الأم الثانية ستقول بدورها لطفلها عن الدعاء الثاني أنه على مذهب (الأمام الأعظم) الشافعي. وبذا ينطلق التفكير على نحو مسلسل انشطاري. لماذا اختلف الحنفي عن الشافعي؟ وما معنى وجود أكثر من أربعة مذاهب في الدين الواحد؟ وما معنى اختلاف الشيعي عن السني؟ بنفس الوقت الذي تحكم نفس الجدلية الفرع الآخر المتشعب من شجرة الاختلاف. فكما صدرت فروع مثل المالكي والحنبلي في المذهب السني انشقت فروع لا نهاية لها من المذهب الشيعي بدء من فروق بسيطة كما يحدث في أول صدور فروع الانشقاق من الغصن الكبير فيبرز المذهب الزيدي والإمامي القريبان من السنة ليصل إلى بعض الفرق التي تصل إلى حد تأليه الحاكم بأمر الله وعلي. وبينهما طيف واسع من العقائد تعرض لذكرها ابن خلدون في مقدمته بالتفصيل فذكر فرقا كثيرة مثل الكيسانية والإسماعيلية والفاطمية والواقفية والهاشمية... الخ. والعلويون والدروز هما أيضا انشقاقات من الغصن الشيعي. فإذا صعدنا في شجرة الخلاف الفكري اجتمع الغصن الشيعي والسني إلى دين واحد. ولكن الشجرة الإنسانية لا تكف عن التفرع فنرى الخلاف المذهبي ليس ضمن الدين الواحد مثل الشيعي والسني والخارجي واليزيدي (وهو غير الزيدي ويعبدون الشيطان ويسمونه طاووسا وأنه مستخلف في حكم الأرض لمدة عشرة آلاف سنة ويقدسون ابن معاوية يزيد ومنه اشتق اسمهم ومعظمهم يعيش في جبل سنجار الممتد بين العراق وسوريا) بل نرى تدرجات الاختلاف تحت الشيعي مثل الزيدي والإمامي والاسماعيلي والعلوي والدرزي، وعند نقطة تفرع الأديان نرى المسلم والمسيحي. وفي الفرع الكبير عند المسيحي نرى الأغصان تتكاثر بنفس القانون العضوي فتبرز فرق لا نهاية لها مثل الأرثوذكس والكاثوليك والمارون والأقباط والبروتستانت والأرمن والكلدان والمورمون وشهود يهوه والمعمدانيون. وينطبق هذا في أغصان الأديان فنرى البوذية والهندوسية، ومن كل فرع أغصان شتى فنرى من البوذية أتباع لاما وبوذية زن، ويسري نفس القانون على اليهودية. ولكن شجرة الإنسانية تفاجئنا بتنوعات أكبر حجما من أعظم شجرة تين في الصيف لنرى ليس أصحاب الأديان والمذاهب في الأديان والفرق في المذهب والجماعات في الفرقة. بل نرى من شجرة التفرع الكبيرة انشقاق فرع من يؤمن ومن يلحد. من يؤمن بدين ومن يعبد النار أو الأجداد ومن يعتقد بالماركسية فيكفر بكل الأديان، ويعتقد أن الدين أفيون الشعوب. أو يعتقد بالقومية والنازية فيرى أنها ديانة جديدة. أو يعلن موت الإله كما فعل الفيلسوف فريدريك نيتشه قبل أن يصاب بالجنون. ولكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم. وهنا نصل إلى الجذع الكبير الذي تنشق منه كل الفروع. وكان الإنسان أكثر شيء جدلا.
لفهم هذه الجدلية يجب استيعاب ثلاث حقائق:
(1)(الحقيقة الأولى) الكون مبني على التعددية.
(2) الحقيقة الثانية: إن الكون خلق بالأصل مختلفا منوعا.
(3) الحقيقة الثالثة: إن هذه الجدلية والاختلاف تمشي في اتجاهين التفاعل أو التدمير...
وبالحق انزلناه وبالحق نزل..