(أدناه ترجمة كاتب هذه السطور لمداخلته في بينالي الشعر العالمي الذي عُقِد في مدينة لييج ببلجيكا، وهو يُعقد كلّ سنتيْن مرة)

وصف شاعر ياباني بقصيدة قصيرة مؤثرة، موكبَ تشييعِ فراشة. مكانُ التشييع لا يخلو من غرابة. على الماء.
الفراشة، وكأنّها في quot;نرفاناquot; أو في أعمقِ غيبوبةٍ، طافيةٌ بسلامٍ على أمواج بحيرةٍ مظلمةٍ يضيئها قمرٌ ناعم ذو بياضٍ مترف.
ألوان الفراشة تتنفّس بآزدهاء وحيوية. الموكب يسير برهبةٍ وخشوع جرّاء سكينة الليل. سكينةُ الليل وجومٌ منخطف.
هكذا يصوّر الشاعر بحذق، جمالَ الموت و هارمونيّتَه، وفي الوقت نفسه يجعلنا، وإنْ لفترةٍ قصيرة، ننسى موتَ الفراشة المأساوي.
هلْ لي أيضاً أن أقتبس ما قاله الكاتب البريطاني الشهير جون رَسْكِنْ عن تدهور مدينة البندقية:
quot;أصبح نورُ البندقية نورَ جثمانquot;

في المثلين أعلاه لا يشكّل الموت نهايةً حتميّةً. بل امتدادٌ بصورةٍ ما. تحوّلٌ وصيرورةٌ إن شئتَ. هل هذا حقّاً ما نعتقده بأنّ الموت امتداد طبيعيّ للحياة، أمْ أننا، جرّاء خوفنا من مواجهة الرأي الديني المخيف القائل: quot;من التراب وإلى الترابquot; نتشبّث بأيّة صيغةٍ من البعث Resurrection، أو تناسخ الأرواح of souls Transmigration، أو الولادة الجديدة Rebirth؟ مِثْلُ هذه المعتقدات (أو ربّما الأفضل تسميتها (wishful thinking) نافعةٌ للاطمئنان على شعورٍ باللاّ عدم الكلّي أو الانمساح التام من الوجود. شعورٍ بهدفٍ ما، من وراء وجودنا. وإلاّ فقد تُفَسّر الحياة على أنّها عبثيّة وخالية من أيّ معنىً محتملٍ أو ممكن.
تدلّنا التدوينات على أنّ مصطلحاتٍ كالبعث وتناسخ الأرواح وما إليهما، quot;كانت مقبولة لدى فلاسفة مثل أفلاطون وفيثاغورس،وشعراء مثل شيللي وتنيسون و وردزورثْ، وآمن بها كثيرون في الشرق كما في الغرب).(1)ما من أحدٍ يعرف على وجه الدقّة، كيف؟ أو متى؟ أو أين ظهرت هذه الأفكار؟ إلاّ أنّ السومريين جنوبيَّ العراق يخبروننا بأنّ الأعمال الشريرة التي تصيب المدن إنما هي أعمالُ ثأرٍ يقوم بها الأموات إذا قصّر ذووهم من الأحياء عن تقديم النذور اللازمة لهم بانتظام. بمعنىً آخر، الأموات السومريون ليسوا أمواتاً بالكامل. إذ بإمكانهم أن يخرجوا من قبورهم متى ما شعروا بأنّهم مُهْمَلون، فيعيثون فساداً بممتلكات أهليهم.
المفهوم من تأريخ السومريين أنّ مآسي الجنس البشري نجمت حينما قامت السماء باستعباد الأرض بعد انفصالهما عن بعض. أصبحت الأرض عندئذٍ ميداناً لحروب الآلهة وأنصافها المتشاكسة المتنافسة.
الشئ بالشئ يُذكر، يتفق نقاد المسرح على أنّ أبطال شيكبير لا يعكسون ولا يمثّلون أنفسَهم. إنّهم ليسوا هم. مجرّد أوعية لقُوى خفيّة. دُمىً لا أقلّ. لا أكثر. أو مجرّد وسائط لنقل الأفكار، كالأسلاك تنقل الشحنات الكهربائية ولا تُولّدها.
بالإضافة إلى ذلك، تتخذ الأشباح في مسرحيات شيكسبير، صيغاً فعّالة تغيّر مجرى الأحداث، وهي على نوعين: موضوعي وذاتي. النوع الأوّل يراه الجميع. أمّا النوع الثاني فلا يراه إلاّ شخص واحد. مثلاً؛ شبح والد هاملت يراه النظّارة. بينما هو في مخدع الملكة لا يراه إلا هاملت. quot;الملكة لم ترَهُ أبداًquot;. لذا quot;فالشبح الأول حقيقي لأنه عام، بينما الثاني متخيّل لأنّه خاصquot;(2)
من المحتمل أنّ المفكرين الإغريق كانوا من الأوائل الذين سنّوا العلاقة بين الإنسان كجِرْمٍ صغير وبين الكون كعالمٍ كبير. (ابن عربي على وجه الخصوص تأثّر بهذا التصوّر). الإنسان- حسب معتقداتهم- يؤثر في الكون، إلا أنّ الكون لا يؤثر في الإنسان. النجم الذي يولد تحته الإنسان هو الوحيد القادر على التلاعب بمصير الإنسان. لنا إذنْ أن نتصوّر عِظَمَ إحباطات وآلام الملوك الشيكسبيريين لا سيّما وهم يحاولون باستماتةٍ، التمردَ على أقدارهم أي على نجومهم.
قد يكون من المفيد عند هذا الحدّ أن نذكرَ ملحمة كلكامش. فبعد وفاة البطل الرعوي أنكيدو، تصوّر كلكامش أنّه هو كذلك معرَّض للموت. وحتى يخلّد كيانه، قام بمغامرات البحار السبعة للقاء quot;اوتونافشتمquot; وهو quot;الإنسان الوحيد المعروف باكتشافه لسرّ الحياة..إنّ الملحمة بكاملها عبارة عن قصّة رجل واحد يفتش عن المجد والحياة السرمديةquot;.
معظم الأديان الرئيسة تقريباً تؤمن بالحياة أو البعث بعد الموت، إلاّ أنها غامضة، بدرجةٍ أو أخرى، بشأن تناسخ الأرواح. بالإضافة إلى ذلك فإن المومياءات المصرية شاهدة على فكرة البعث.
على أية حال، يبدو أنّ بعض الطوائف الصوفية ممن آمنتْ بالحلول لم تمتلك الصبر الكافي لانتظار يوم الحشر، للتمتع بثمار مجاهداتهم وبالحور العين تحديداً، فراحوا يتخيلون quot;اتصالاً وانفصالاًquot;، فأصبحت المرأة في نظرهم معبودة لأنّ الذات الإلهية تبطّنتها.
أمّا بوذا الذي quot;ينكر دوامَ تناسخِ الأرواحquot; فقد طوّر معرفة في الإدراك السبقي Retro-cognition مكّنته من التعرّف على حيواته الماضية. يقول بوذا: quot; إنّ حيواتي السابقة هي كما يلي: أوّلاً حياة واحدة، ومن ثَمّ حياتان، ومن ثمّ ثلاث حيوات، أربع، خمس، عشر، عشرون، إلى خمسين حياة، ومن ثمّ مائة، ألف، مائة ألف، وهكذا دواليكquot;(3)
هذه الحيوات المُسَلَّم بها في البوذية، أصبحت منذ بدايات القرن العشرين، موضع شكٍّ، ربّما لأوّل مرّة، بالنسبة لبعض الشعراء العرب الذين راحوا يمتحنون معنى وجودهم، مدفوعين بقلقٍ، هو في جملته وجودي، لدرجة أنهم استلفوا حتى الموت الميتافيزيقي من الرومانسيين الأوروبيين.
الموت مخلِّص إذن. (يخطر على البال هنا قول المتنبي: quot;كفى بكَ داءً أن ترى الموتَ شافياquot;، ولكننا نحن هنا نحاول أن نمتحن الحيرة من الوجود، لا اليأس منه.
كتب الشاعر اللبناني إيليا أبو ماضي أشهر قصيدة في الحيرة، في اللغة العربية: أي quot;الطلاسمquot;:
quot; جئتُ لا أعلمُ من أين ولكنّي أتيتُ
ولقد أبصرتُ قُدّامي طريقاً فمشيتُ
وسأبقى ماشياً إنْ شئتُ هذا أم أبيتُ
كيف جئتُ كيف أبصرتُ طريقي
لستُ أدري

وطريقي ما طريقي أطويلٌ أم قصيرْ
أأنا السائرُ في الدربِ أم الدربُ يسير
hellip;أم كلانا واقفٌ والدهر يجري
لستُ أدري
هكذا بحيلتين فنّيتين تمكّن أبو ماضي من تكبير حجم الحيرة: الأولى حينما جعلها حيرةَ فردٍ واحد، وما من أحدٍ يطمئنه، أو يواسيه. أي جعله مثلَ غريقٍ يعاني لوحده. لا أحد يستغيث به، ولا ضفّة تشجعه على المواصلة الحثيثة.
الثانية هي هذه اللازمة المخيفة في نهاية كلِّ مقطع: quot;لست أدريquot; وكأنها ختم شمعيّ أحمرُ على محتويات خطرة.
أمّا الشاعر التونسي أبو القاسم الشابّي، فقد كان في أوائل عشريناته حينما كتب قصيدة: quot;في ظلّ وادي الموتquot;:

quot;نحن نمشي وحولنا هذه الأكوانُ
تمشي لكنْ لأيّةِ غايهْ؟
وهذا الربيعُ ينفخُ نايهْ
نحن نتلو روايةَ الكون للموت
ولكنْ ماذا ختامُ الروايهْ؟
هكذا قلتُ للحياةِ فقالت:
سلْ ضميرَ الوجود كيف البدايهْquot;
بجملة: quot;نحن نمشيquot;، السردية الأقرب إلى البرودة، يكون الشاعر قد انتبه دون سواه إلى شئٍ لم يتحددْ بعد، ولكنه مع ذلك يثير الفضول. وبكلمة: quot;حولناquot; وسّع الشاعر من مساحة الصورة ليتوسّع معها فضول القارئ. وبكلمة: quot; الأكوانquot; بامتداد ألِفها وجمعها المكسّر وموسيقاها جعلنا الشاعر ضؤلاء بالنسبة إلى الأكوان، أيْ وضع حجمنا نحن مقابل حجم الأكوان. ومما يزيد في الحيرة أنها تمشي وكأنْ ليس لديها وقت للإجابة ولا حتّى نصف الشافية. من هنا تأخذ جملة: quot;لكنْ لأية غايهْquot;، أهمية استثنائية. أمّا في البيت الثاني:
نحن نشدو مع العصافير للشمس
وهذا الربيع ينفخ نايهْ
فتكرار quot;نحنquot; وكذلك في البيت التالي:quot; نحن نتلوquot;، وكأنّ الشاعر يؤكّد على تغيّراتنا في الموقع فقط من ناحية، وعلى ثبات حيرتنا في الوقت نفسه.
مرّة أخرى نرى صِغر العصافير بالمقارنة إلى سعة انتشار الشمس. الشمس أيضاً تعطي بعداً عالياً للصورة بينما تعطي جملة:quot;ينفخ نايهْquot; بعداً امتدادياً أفقياً.
اعتبر الشابي، الحياةَ مسرحيةً (كانت تسمى وقتها رواية) بتأثير غير مباشر من مسرحية مكبث، وجعل خاتمتها الموت، ولا عجب. لكن مع ذلك، ما ختام الرواية بعد الموت؟
الشاعر يسأل الرياح عن جواب، على الرغم من أنها غير مستقرة، وهي غيرُها في كلّ لحظة. تزداد الحيرةُ أكثرَ لأنّ الرياح بالجمع وكأنّها مشتتة وهي بالإضافة إلى ذلك، ممعنة في السير ولا يمكن لها أن تتوقف. تحيله بدورها إلى شئ أكثرَ غموضاً ألا وهو:quot;ضمير الوجودquot;. الغموض الآخر يتولّد من:quot; كيف البدايةquot;، أيْ لا بدّ لراوية القصيدة أن يهتديَ أوّلاً إلى البداية، قبل أن ينشغل بالنهاية.
(المقطع الذي تأثر به الشابي هو ما قاله مكبث في المشهد الخامس-الفصل الخامس
وهو، في نظر بعض النقاد، من أفضل ما كُتِبَ من شعر باللغة الإنكليزية):
quot;يزحف غدٌ وغدٌ وغد
بهذه الخطى البطيئة من يومٍ إلى يوم
إلى آخر لحظةٍ مكتوبةٍ للحياة
وكلُّ أيّامنا الماضية أنارتْ للحمقى
الطريقَ إلى الموت المعفّر.
انطفئي، إنطفئي، أيّتها الشمعة* القصيرة الأجل
ما الحياة الاّ ظلٌّ سائر** ممثّل يثير الشفقة
يؤدّي ساعته على المسرح بتبجّحٍ واهتياج
وبعدئذٍ لا يُسمع منه شئ
الحياة حكاية يرويها ممثّل أخرق
مشحونة بالصخب والنـزق ولا تعني شيّاquot;
(* سفر أيوب-18 quot;النور يظلم في خيمته وسراجه فوقه يظلمquot;
**سفر أيوب-8 quot;لأننا نحن من أمس ولا نعلم لأنّ أيّامنا على الأرض ظلّquot;)
هذا هو اللغز الأكبر بالضبط وهو الطامّة لا ريب. من أين؟ إلى أين؟ هل نحن نشبه الأبطال الشيكسبيريين. مجرد دُمى؟ ما الأرواح التي تسيّرنا؟ ما الأرواح التي تسكننا؟ مع ذلك سنبقى نسير شئنا ذلك أم أبينا. لا بدّ لفصول الدراما من الاستمرار.كم هي غريبة درامانا يا تُرى.حتى لأمواتنا أدوار في هذه المسرحية. مدفونون ويترصّدوننا. كأننا أشجار لا بدّ لها من جذور. هل أمواتنا جذورنا؟ لِمَ لا؟ ونحن كالأسلاك ننقل الشحنات الكهربائية ولا نولّدها.
لا نعرف إن كانت المومياءات المصرية في حالة انتشاءٍ منخطفِ الأنفاس، أمْ أنّها تحلم بالبعث من جديد. مهما يكنْ من أمر؛ لقد مضى على أحلامها وقت طويل. مضى على نومها وقت طويل جدّاً. مع ذلك hellip;أشـْ إشـْ إشْ.. لماذا العجلة في إيقاظها؟ دعْها تعيش أوهامها.
لندن-

1-The Buddha and his teachings، P.222
2-Ibid.233.
3.Hugh Kenner،Ulysses، P،119