استحلوا دماء أطفال مدينة العامل لبهجتهم بالماء
لقد اختلطت ببغداد الأشلاء والدماء، فما بات يُفرق بين الذبائح، فإلى أي كائن حي يصل البارود والسيف يصل! إنه تدمير شامل، ومقاضاة لهذا الشعب، وتلك المدينة لأنها أُذهلت واندهشت فرحاً لسقوط أعتعى إمبراطوريات الرعب والفزع، فأخذت تعيد أنفاسها وتصالح مجرى نهرها الذي يبث الحياة فيها منذ الأزل، حتى قال العراقي القديم في دعائه: "أيه ذا النهر الذي أنتج كل شيء، لقد نشرت الآلهة الخصب على جنباتك حين شقتك". ومثلما اختلطت أشلاء ودماء الأطفال والشباب والعجائز اختلطت علينا مشارب القتلة، فهم الإسلاميون المتطرفون وهم البعثيون الفاشيون، كل يعمل لمجده الدموي، فهذا يريد إمبراطورية يرفع في أجوائها الآذان والسيف معاً، وذاك يريد عودة مجد قومي لم يبق "لنا صحب نناجيهم سوى أشباح موتانا"، والاثنان يتسابقان على أكذوبة تحرير القدس من الفلوجة. مجزرة جديدة استهدفت هذه المرة الأطفال فقط، أطفال جاءوا يشاركون الكبار فرحهم في التغلب على عطشهم، وهم مجاورون دجلة الخير، فكانت المذبحة وهدم المشروع معاً، ومشروع جلب الماء بمثابة صلاة استسقاء، وأي مقاومة تحمل كل هذا الحقد وتمنع العطشى من صلاة استسقاء، ألم يستسق الناس بالنبي محمد؟ حتى ناشده الشاعر بالقول:
أتيناك والعذراء يدمى لبانها
وقد شغلت أم البنين عن الطفل
وليس لنا إلا إليك فرارنا
وأين فرار الناس إلا إلى الرسل
ألم تُسن صلاة الاستسقاء السنة السادسة من الهجرة، بعد أن"لحق الناس من الضر والجدب"(مروج الذهب)؟ وكان العرب يستسقون قبل الإسلام بإيقاد النيران بأغصان شجر السَلّع، وتعليقها بأذناب البقر، ثم الصعود بها إلى الجبال الوعرة، فالماء مثل الثواب لا يأتي إلا على قدر المشقة. وعندها أنشد الشاعر البصري الوليد بن هشام القحدمي (كتاب الحيوان):
لا درَّ درُّ رجالٍ خاب سعيهم
يستمطرون لدى الأزمان بالعشرِ
أجاعلٌ أنت بيقوراً مسَلّعةً
ذريعةً لك بين الله والمطرِ
فلماذا تزرعون البارود الحارق وتذبحون أطفالاً جاءوا يستسقون الماء، استسقاءً ليس فيه مخالفة إسلام ولا عروبة كما بينا؟
إلا أن قتل الأطفال والذبح مع العطش كانت سنُّةً أقدم من هؤلاء بكثير، بدأها فريق الأزارقة من الخوارج، وأبو حامد الغزالي، وقتلة عثمان بن عفان والحسين بن علي. فالخليفة الثالث حوصر مدة أربعين يوماً، وأول ما فكر محاصروه، وهم صحابة وأبناء صحابة لا يهود ولا نصارى، منعه من الماء. ويبدو العطش في الشعر الحسيني، ومجالس العزاء مادة أساسية في عرض المأساة، فالسقاة يتنقلون بين الناس بقِرب الماء البارد، وهم يصيحون: "يا حسين يا عطشان، لعنت أمة حرمتك الماء، أشرب ماء وألعن يزيد، ماء سبيل". فأي هول عذاب يتركه العطش في الضمير، وأي خدش يتركه في العدل الإلهي قتل أطفال يمدون أياديهم لملامسة الماء، وهو يتأملون مشروع سقاية بمدينة مغبرة عطشاً!
لقد ربطت الذاكرة الشيعية بين حرمان الإمام الحسين الماء وبين اسم آل أمية، حتى باتت الذاكرة لا تفرق بين العطش وبين الأمويين، وكلمة أمية تقترب كثيراً إلى تصغير كلمة الماء إلى (أُمية) في اللهجة العراقية الجنوبية. يبدو المشهد أكثر حماسة عندما يُصادف عاشورا حر الصيف المعروف بالعراق بالباحورة، فقارئ المنبر الحسيني يردد عبارة الحسين، كي يبقى العطش حياً في طقوس عاشوراء:"شيعتي مهما شربتم عذب ماء فذكروني". كانت قسوة الأعداء أن يذكروا الحسين بعطشه وبرودة الماء، فقال له الشمر بن ذي الجوشن: "والله لا ترده أو ترد النار"، وقال له رجل آخر: "ألا ترى إلى الفرات يا حسين! كأنه بطون الحيات، والله لا تذوقه أو تموت عطعشاً، فقال الحسين: أللهم أمته عطشاً"(الأصفهاني، مقاتل الطالبيين)، فقيل ظل الرجل يطلب الماء ولم يرتو حتى مات عطشاَ! ألم يذكرنا مشهد عثمان وهو يذبح عطشاناً، ومشهد الحسين وهو يطلب الماء لطفله الرضيع بأطفال مدينة العامل الفقيرة، وهو يستسقون الماء ويذبحون على لمعانه، قبل أن يجسوا برودته؟ مَنْ هو الشمر بن ذي الجوشن، أهو السلطة العراقية التي تفتتح مشروع مياه أم قتلة الأطفال بالنيران والعطش؟
من الخلافات الكبيرة بشأن الأطفال في إسقاط ذنوب آبائهم عليهم ما حدث من انشقاق داخل معسكر الخوارج، فقد حرم نافع بن أزرق قتل الأطفال، أو ما عُرفوا في الروايات التاريخية بالذراري (نسبة إلى الذرية)، لكنه عاد وقرر قتلهم بعد سماعه لرأي أحد مستشاريه الذي قال له: "إن لم آتك بهذا من كتاب الله فاقتلني"، يعني الآية (26-27) من سورة نوح: "ربِّ لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً، إنك إن تذرهم يُضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً". بعدها جنح نجدة بن عامر وجماعة معه عن الأزارقة بعد إقرار قتل القعد (معتزلة الحرب لرأي أو لضعف) والأطفال. أعلن ذلك في كتاب حرره إلى نافع بن الأزرق يناشده التراجع عن هذا القرار، ويذكره بمزاياه وأخلاقه قبل ذلك.
أما حجة الإسلام والمسلمين أبو حامد الغزالي فيفتي ضد أبناء مَنْ عرفهم بالباطنيين من الإسماعيليين بالعرض على السيف. لقد ورد في كتابه "فضائح الباطنية" (يُعرف أيضاً بالمستظهري، نسبة إلى الخليفة المستظهر العباسي) ما نصه: "عرضنا الإسلام عليهم، فأن قبلوا قُبل إسلامهم، وردت السيوف عن رقابهم إلى قِربها، وإن أصروا على كفرهم متبعين فيه آباءهم مددنا سيوف الحق إلى رقابهم، وسلكنا بهم مسلك المرتدين". ربما لهذا الحكم علاقة برواية شعبة بن الحجاج الأزدي (ت 160هـ عاش العصرين الأموي والعباسي، وأحد مؤسسي السلفية من أهل الحديث) عن عبد الملك بن عمير عن عطية القرظي (ولم يشتهر القرظي إلا بما روى عنه عبد الملك ابن عمير)، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أن يُقتل من بني قريظة كان مَنْ أنبت منهم، وكنت غلاماً، فوجدوني لم أنبت، فخلو سبيلي"(سيرة ابن هشام، الاستيعاب في معرفة الأصحاب)، فمثل ابن الحجاج يتسابق على تأكيد مثل هذه الرواية ويعف عن غيرها. وله علاقة بشق من حكم المذهب الشافعي في الأطفال، والغزالي كان شافعياً. لكن في أبناء المرتدين نجد لأحمد بن حنبل الذي ظهر على خلاف ما نُقل عنه في أحكام عديدة متسامحاً في هذه القضية قياساً بما ذهب إليه الشافعي والغزالي في ما بعد. أورد النيسابوري في مسائل ابن حنبل:" ليس على ولده وأهله (المرتد) شيء، ولكن ما ولد له وهو بين أيديهم (الكفار) يسترقون (يستعبدون)، ويردون إلى الجزية"، تظهر فتوى الاستعباد متسامحة إذا قيست بالذبح، فنحن أمام بلوة الحُمس، وهم سلفية قريش قبل الإسلام، الذين سنُّوا ظاهرة التشدد في الدين!
لعل تشدد الغزالي في فتواه ضد مرتدين، يعدهم غيره من الفقهاء مسلمين، يرجع إلى كونها فتوى سياسية؛ وهذه واحدة من مضرة مزج الدين بالسياسة والتحزب، فكتابه "فضائح الباطنية" كان قد ألفه بأمر من الخليفة العباسي أحمد المستظهر ضد عدو سياسي مثل الدولة الفاطمية، والإسماعيليين من جماعة حسن الصَّباح، وما تبقى من الحركة القرمطية، وبطبيعة الحال لم يكن الأمر بعيداً عن تحريض سلجوقي وعباسي معاً، فعمليات الاغتيال التي نفذتها هذه الجماعة استهدفت بالأساس وزراء وموظفي السلاجقة. يعترف الغزالي بهذا التكليف بالقول: "حتى خرجت الأوامر الشريفة المقدسة النبوية المستظهرية بالإشارة إلى الخادم في تصنيف كتاب الرد على الباطنية" (فضائح الباطنية).
وأكثر من تسامح الحنابلة تجاه الطفولة قياساً بالذين قرروا قتلهم أبدى الفقيه الحنفي قاضي القضاة أبو يوسف (ت182هـ) تسامحاً كبيراً في ردة الأولاد بقوله: "لا تصح ردته (الصبي) لأن الردة تضره، وإنما يعتبر معرفته وعقله فيما ينفعه لا فيما يضره"(مطلوب، أبو يوسف حياته وراؤه الفقهية). أفتى أبو يوسف في ولد الولد، أي ما يتبع الأبناء من الأجداد: "لا يُجبر (على الإسلام) لأن هذا الولد ما كان مسلماً بنفسه، وإنما ثبت حكم الإسلام في حقه تبعاً، فهو والمولود في دار الحرب بعد ردتهما سواء".
ونتابع من موسوعة الفقه الإسلامي (صادرة عن المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بمصر) أحكام المذاهب الإسلامية المختلفة في أولاد المرتدين. يربط المذهب الحنفي بين الولد والدار، فليس مرتداً مَنْ كان أبواه ارتدا عن الإسلام في دار الإسلام، وإن لحق بهما إلى دار الحرب أو الكفر فيجبر على الإسلام، ويكتفي بحبسه عند الرفض ولا يجوز قتله. كذلك لا يقر المذهب المالكي تبعية الولد لأبيه في الردة، فإن قتل الأب كمرتد ظل الولد مسلماً، وفي الحالتين إن ولد قبل ردة أبيه (شخص المذهب المالكي الأب فقط)، أو بعدها فحكمه الجبر على الإسلام ولا يجوز قتله. ويقر المذهب الحنبلي إسلام الولد الذي يولد قبل ردة أبويه فلا يُسترق ولا يطالب بتأكيد إيمانه، أما مَنْ ولد بعد ردة أبويه فهو كافر بكفرهما ويكتفي باسترقاقه ولا يقتل.
يخالف المذهب الشافعي أغلب المذاهب الفقهية في الحكم بقتل الولد بعد بلوغه إن أصر على الكفر، وهناك من الشافعية مَنْ لا يُجيز القتل، فأبو حامد الغزالي أخذ بالرأي الأول، وربما لهذا الحكم صلة بالحديث الذي رواه عطية القرظي عن ما قام به الرسول عندما أعفى غير البالغين فقط. يثبت المذهب الشيعي الزيدي إسلام الولد الذي علق برحم والدته قبل ردة أبيه، ويحكم بالكفر على مَنْ علق برحم أمه بعد الردة، وفي حال غموض تعيين وقت علوق الجنين يحكم بإسلام الولد، وأولاد المرتدين بشكل عام كفرة يجري عليهم الاسترقاق لا القتل.
أما المذهب الشيعي الإمامي فيقر إسلام الولد، وإن ولد بعد ردة الأبوين، فأن بلغ وهو مسلم فلا قضية، وإن أرتد فحكمه أن يُستتاب وإلا ُقتل كمرتد دون النظر بتبعيته لأبويه. يختلف الأمر بالنسبة لحدوث الحمل إن كان قبل ارتداد الأم فيولد الولد مسلماً، وإن كان بعد ارتدادها فحكمه مثل حكمها، وربما استند تأكيد المذهب الإمامي على ارتباط حكم الولد بحالة إيمان الأم على ما ورد في خطبة للإمام علي بن أبي طالب يقول فيها: "لا تكونوا من أبناء الدنيا فأن كل ولد سيُلحق بأمه يوم القيامة".
تحدث المتكلمون بما لا يباح لغيرهم، وأكثر ما شغل هؤلاء في كلامهم هو الموقف من الطفولة في العالم الآخر، هل يدخلون الجنة ويصبحون الولدان المخلدون أم يصبحون وقوداً للنار، أو يخدمون مالكاً في إدارة جهنم! وما يتعلق من أفعالهم بإثبات القدر أو نفيه. أورد الأشعري في "مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين" آراء كلامية عديدة بشأن الأطفال، فمن المعتزلة مَنْ قال بعدم عذاب الأطفال في الآخرة لأنهم غير مسؤولين عن أفعالهم، فهي كما أسلفنا مقيدة بإيجاب الخلقة. ومَنْ ذهب إلى القول بعذاب الأطفال وتعويضهم عن آلامهم، لأن عدم التعويض عن الألم يُعد ظلماً، والله تعالى موصوف بالعدل ومنزه عن الظلم.
وينفرد إبراهيم النّظام المعتزلي بالقول بالمساواة بين الأطفال كافة في الآخرة، رغم اختلاف فضل الآباء في الدنيا، فحسب رواية عبد القاهر البغدادي في ا"لفرق بين الفرق" يساوي النظام بين إبراهيم ابن النبي محمد(ص) والأطفال الآخرين بالمنزلة في الجنة، ويعلق البغدادي ساخطاً على النّظام بقوله: "فحجر على رب العالمين أن يتفضل على أولاد الأنبياء بزيادة نعمة"(الفرق بين الفرق). لقد تطابق الإباضية مع رأي المعتزلة فقالوا: جميع الأطفال يدخلون الجنة، كذلك يرى المتكلم الشيعي هشام بن الحكم بتحريم النار على الأطفال، ولا يجوز تعذيبهم(مقالات الإسلاميين). وقال بعض الإباضية بجواز تعذيب الأطفال عن طريق الإيجاب لا الانتقام، ويدخلون الجنة تفضيلاً. أي ليست عقوبة عليهم، ولا يتعلق العذاب بأعمالهم وإنما بما لحقهم من آبائهم.
قال الأشاعرة برواية عبد القاهر البغدادي بقدرة الله على تعذيب الأطفال، وإن حدث ذلك فهو من العدل لا من الجور كما ذهب إلى ذلك المعتزلة وهشام بن الحكم. بينما يذهب متكلمو الخوارج، ومنهم الأزارقة والثعالبة، إلى أبعد من هذا بكثير، عندما قالوا بعذاب الأطفال في النار بحكم آبائهم المشركين، بينما يتمتع أطفال المؤمنين بالجنة، ويستندوا في هذا الرأي إلى الآية القرآنية وتفسيرها على المعنى العام: "والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم".
اقتضت مذبحة الأطفال بمدنية العامل البغدادية بسيوف المقاومة الإسلامية والعربية بأرض العراق تقصي أحوال الطفولة في مشارب الفقهاء والمفسرين، وهم أتباع مَنْ أفتى بقتلهم بذنب ابتهاجهم بمشروع مياه، لأن قتل العطش بغياب حكم إسلامي وبعثي كفر وإلحاد!! لا نبتغي من هذا غير فضح العقول التي اختلفت وتجادلت حول بداهة براءة الطفولة، ولا نبتغي منه غير الوقوف على عنف وعصبية لقوم ذبحوا خليفتهم الملقب بذي النورين لزواجه من ابنتي نبيهم بعد حرمانه من الماء، وذبحوا ابن ابنة نبيهم الملقب بسيد شباب الجنة بعد التلذذ بحرمانه من الماء، وعندما طلب الماء لولده الرضيع عبد الله قطع نبل حرملة بن كاهل الأسدي نزاع القوم، وهم يتنازعون حول سقاية الرضيع، فذبح الطفل من الوريد إلى الوريد، ومازال هناك مَنْ يظن أن الشَفَق الظاهر في الأفق ما هو إلا بقية هذا الدم. لقد تشاكل وتشابه الأمر علينا، بعد عودة حرملة بن كاهل من جديد، مثلما تشاكل وتشابه على أبي حامد الغزالي، فتأرجح بين عذوبة التصوف وقسوة مزج الدين والفقه بالسياسة، فهام على وجهه في البرية، ومات بمرض الغنط، وقد أعرب عن شعوره بالتشاكل بين المواقف باستشهاده:
رق الزجاج فراقت الخمر
فتشابها فتشاكل الأمر
فكـأنما خمر بلا كأس
وكأنما كأس بلا خمر
مَن ينظر وجه المرأة، التي ظهرت صورتها في جريدة "الشرق الأوسط" في اليوم التالي من المذبحة، وهي نافشة الشعر، صابغة وجهها بالدم، لا يتأخر عن لعنة كل مَنْ أفتى بالقتل، وكل مَنْ حث على القتل، وكل مَنْ لا يستنكر مذبحة الطفولة من الأزهر وقم والزيتونة. فعار على حد عبارة علي بن الجهم "أن يزول التجمل".















التعليقات