تشير كتب الاستشراق إلى أن المفكرين والأدباء الغربيين في عصر التنوير في أوروبا وفرنسا خاصة حين أرادوا التصدي للمفاهيم الدينية المتحجرة والظلامية، في بلدانهم ونقد المسيحية كدين كان قد أصبح عندهم مسوحاً وصولجاناً بيد الكهان والساسة في آن واحد، وعقبة في طريق العلم والفلسفة، ولم يعد علاقة حميمية وضرورية بين الإنسان وربه فإنهم لم يجرأوا على ذلك مباشرة، فاختاروا الهجوم على الإسلام، واتخذوه موضوعاً لكتاباتهم، وتناولوه بالنقد والتحليل لتسفيهه والسخرية منه على طريقة إياك أعني واسمعي يا جارة !فقد ألف فولتير مسرحية بعنوان (محمد نبي التعصب) صور فيها نبي الإسلام على أنه رجل استغل دهاءه وفطنته في التغرير بالناس البسطاء مدعياً أن الله اصطفاه لهدايتهم بينما كان هدفه إشباع شهواته للنساء والسلطة ونيل القداسة المطلقة والأبدية بعد موته محققاً على حد زعمهم لقبيلته وصحراء الجزيرة حجاً يجلب لها الموقع القوي والتجارة المزدهرة والمال الوفير! ساخراً من الإسلام الذي هو في رأيه يشكل سوراً يسجن الناس وراءه بعيداً عن العلم والحضارة والتقدم وقد ضلع معه في هكذا نقد كثير من مفكري عصره مثل فولتير وجان جاك روسو ومونتسكيو وبيير بايل، صابين الكثير من صور وعبارات السخرية على الرسول، والإسلام، والمسلمين كل ذلك من أجل صنع قناعهم النقدي غير الجريء وغير الإنساني، ولم يكن هدفهم من هذا التحامل والكراهية سوى نقد نبيهم المسيح والمسيحية وسلطة الكنسية المتحالفة مع سلطة الإقطاع! كانوا بذلك يصيبون هدفين: الأول أنهم يخترقون هيبة الدين المسيحي ويمرغون رموزه وشعاراته وأفكاره في الوحل، والثاني أنهم يأججون ويدعمون كراهية أخذت تتأصل في نفوس الناس هناك نتيجة للوجود الإسلامي القديم في أوربا، وللحروب الصليبية، والغزو والسيطرة العثمانية وممارساتها الوحشية في بعض البلدان المسيحية!
وكما هو معروف استطاع الفكر الأوربي بعد سنوات طويلة زاخرة بتضحيات جسيمة أن يتخلص من سطوة الكنيسة، ويواجه الدين بنقده العلمي والفلسفي، ويفجر ثوراته المعرفية، ويقيم حضارته وسطوته الجديدة على أساسهما المادي المتين والحاسم، ولم يعد يمارس النقد المقنع إلا في مجالات محدودة ربما استخبارية أو سياسية خاصة، والغربيون اليوم يستطيعون انتقاد المسيحية والبابا والفاتيكان في بحوثهم ونصوصهم الشعرية والروائية وحتى في أفلام فضائحية دون تحسب لشيء، وحين ينتقدون اليوم الإسلام أو المسلمين أو رموزهم الدينية فهم يقصدونها حقاً، كما أن قناعهم الذي صنعوه من الرموز الإسلامية مازال قائماً وصار يبني عليه المزيد من العداء للإسلام دون أن يعرف الكثير من الكتاب والفنانين الغربيين الأسس التي قام عليه هذا التراث من الكراهية.
ولكن المفارقة الأخرى أو الصورة الجديدة التي تقتضي التأمل هي أن نجد بعض المفكرين أو المبدعين العرب اليوم يكررون ما حدث في أوربا قبل أكثر من مائتي سنة، ممارسين نقدهم وملاحظاتهم عن الدين ورموزه، أو سطوته وتحالفاته مع سلطة الإقطاع أو الغرب عبر نقد المسيحية واللاهوتية والكهنوتية الغربية، وفي أحس الأحوال اللاهوت بصورته المطلقة وصار تناول الشخصيات المقدسة المسيحية بديلاً وقناعاً للشخصيات المقدسة الإسلامية، وبينما ينتج عن ذلك تكريس لعداء ديني، وإحياء لضغائن قديمة بين البشر، فإنه يخلق أيضاً التباساً معرفياً وارتباكاً نقدياً مضللاً.فهكذا نقد لا يؤثر كثيراً في فكر ديني متصلب جداً على الأرض وفي التاريخ، كما قد لا يكون من المجدي محاولة النيل منه حتى لو كان ذلك بالتلميح أو التورية.بينما يمكن التأثير فيه والعمل على إجلاء مكنوناته وجوهره بالحوار الصريح معه، ومع أئمته المتنورين والمنفتحين، أو المستعدين للانفتاح على روح العصر وهمومه وعقده ومعضلاته التي لا تحل دون تضافر عظيم بين قوى المادة والعلم والروح بكل طاقاتها وتجليتها العلمية والفكرية والدينية والفنية، والعمل بنفس الوقت على تحديث المجتمعات على طريق التطور العلمي والاقتصادي والاجتماعي. لقد وجد هؤلاء المبدعون أو النقاد أنفسهم غير قادرين على الحراك الفكري داخل دينهم أو الحوار معه بموضوعية وعلمية وشجاعة عاجزين عن التواصل مع تراثهم النقدي القديم، حيث كان قبل مئات السنين باب الاجتهاد الديني مفتوحاً إلى حد ما، وباب النقد من خارجه مشرعاً لمدى لا بأس به، والذي بزغت في ظلاله أفكار المعتزلة وإخوان الصفا والمتصوفة وغيرهم من الفرق والأئمة الذين أطلقوا الآراء النقدية والنظريات الجريئة حول الدين، والقرآن والسنة النبوية، وانتشرت النزعة العلمية والفلسفية في نقد الظواهر وتألق الفكر العربي الإسلامي انعكاساً لتطور الحياة المادية والاقتصادية وإلى مستويات غير مسبوقة في الحياة العربية !
ولم يكن عجز المبدعين والنقاد المعاصرين عن التواصل مع هذه الينابيع الثرة في تاريخهم الحضاري لقصور في مواهبهم أو ملكاتهم الفكرية، بل نتيجة لما وصل إليه وضع المجتمعات العربية والإسلامية، ومؤسساتها الثقافية، من تخلف وجمود، كرس طويلاً من قبل المستعمرين وحلفائهم المحليين أدعياء القومية والإسلام!
ومن المؤسف أن العقود الأخيرة اتسمت بانغلاق أكثر وتعصب أشد من لدن بعض المراكز والشخصيات الدينية، وظهر ما يسمى بالإسلام السياسي، الذي استبعد في خطابه كل قيم التسامح والنظرة الرحبة والتفهم لطبيعة النفس البشرية التي تحلى بها الكثير من المجتهدين المسلمين، وصار يشهر بوجوه محاوريه ونقاده السكاكين والرشاشات بدلاً من الجدل والحوارات العميقة الممتعة والمفيدة.
لقد كان الكتاب والأدباء العرب في العشرينات والثلاثينيات من القرن المنصرم يمتلكون حرية أكبر في تشخيص الظاهرة الدينية الأصيلة والطارئة ونقدها، وما جاء في كتاب طه حسين (الشعر لجاهلي ) أو مؤلفات علي عبد الرازق أو حتى كتابات خالد محمد خالد الأولى وغيرهم كثيرون والتي ظهرت أوائل ذلك القرن لو كانت نشرت في العقدين الأخيرين منه لجعلتهم يلقون نفس مصير فرج فودة وحسين مروة ومهدي عامل ونجيب محفوظ!
ترى من هو المسئول عن هذا الشلل والخوف من التقرب من الدين لمناقشته ( حيث هناك القول المعروف لا حياء في الدين ( علماً أن الحياء والخجل هما فرعان من الخوف كما يقول فرويد ) فالكثير من المناقشات أضحت محرمه رغم أنها لا تمس جوهر الدين أو أصوله أو طبيعته والمصالح التي يمثلها ؟من الواضح أن هناك تحصينات أخرى قامت في الساحة أمام النقد تتمثل ببعض رجال الدين وبيوتاتهم الفاحشة الثراء، وارتباطاتهم بمراكز المال الكبرى من شركات وبنوك وسلاطين، وشعاراتهم الخبيثة، ثم المتراس الجديد المتمثل بالدين السياسي الذي لا يمت لروحانية الدين بصلة بقدر ما يعود لمصالح طبقات وشرائح فكرية ثبت أنها ذات امتداد خارجي أفلتت من فلكه لتناقض جديد في المصالح، وهي بقدر ما تبدو معادية له مستعدة للتحالف معه في ألاعيب شتى من تبادل الأقنعة والتمثيل والخداع !
ليس كل التعرضات النقدية تريد نسف الدين، فهناك توجهات نقدية معتدلة وهادئة وتعتقد بضرورة التطور التدريجي والطويل الأمد للفكر الإنساني وهي إذ تهدف لتخليص العقل من الاستلاب الأسطوري والخرافي، وبنائه على أسس علمية وإنسانية فإنها ما تزال ترى أن ثمة دوراً روحياً تربوياً وأخلاقياً يمكن أن ينهض به الدين إلى جانب التنوير الذي يهدف لتشييد القاعدة المادية العلمية للحياة، وهي بهذا الصدد تعمل على تخليص الدين مما يلحق به من شوائب المحرفين والمزيفين ويبعده عن جوهره كنية حسنة عظيمة من أجل صلاح الإنسان وخيره وسعادته !
وبينما احتل الإسلام الصدارة، واصبح الدين السائد في المنطقة إلا إنه لم يغلق باب الاجتهاد في داخله أو يضق صدره بالنقد الخارجي إلا في الفترات التي تكون فيها الطبقات أو الفئات السائدة والمتبرقعة بالدين قد وصلت درجة من الاستحواذ والاستغلال والتوتر بحيث تشعر أن مصالحها أضحت مهددة من الطبقات المضطهدة وبشكل جدي، فتتسلح بالمزيد من المحرمات والتحجر حفاظاً على أركان سلطتها، وللمزيد من الضغط على الطبقات الصاعدة لكي لا تتخذ لها فكراً جديداً ومتحرراً من الخزعبلات والخرافات قد يساعدها على تسنم السلطة وبناء حياة جديدة.المتخندقون وراء الإسلام السياسي مازالوا متمسكين بمصالحهم المادية والاستغلالية يلقون كل من يطرح مفاهيم النقد الموضوعي والحوار البناء في حضن الإمبريالية والصهيونية ويعتبرونهم مؤجرين لهدم الإسلام، بينما أن الإمبريالية والصهيونية لا تريد لأعدائها من العرب والمسلمين مصيراً أفضل من التخبط بضلالات رهيبة باسم الدين، وأن يظلوا متحجرين في ظلام العصور السحيقة دائرين كالسدم العدمية خارج التاريخ، وخارج الكون !
لقد بلغ الغباء حداً بمحمد عبد الوهاب الإمام الذي اهتدت "منظمة القاعدة "بخطبه ومواعظه وكراريسه والرافض كلياً ليس للنقد وحسب بل ولأبسط مفاهيم العلم أن قال ( الفكر والكفر شيء واحد لأن اسميهما مكونان من نفس الحروف ) وبالطبع ليس غريباً أن من يحشوا ذهنه بمثل هذه التفاهات، خاصة من الشبان المتأججة غرائزهم أن يجدوا فتوى تبيح لهم الكفاح بتوجيه وأموال ( الكفار ) ضد فكر جديد يدخل أفغانستان، ثم بعد أن يؤدي مهمته ويقطع ( الكفار) عنه تمويله ورعايته يكتشف فجأة أن ( الكفار ) هم أيضاً أصحاب (فكر) مكون من نفس حروف (الكفر)فينطلق من كهوفه المظلمة لمواجهة حضارته بأعمال إرهابية مدمرة، أما القضايا الأخرى، كدور الغرب في مظالم وفقر الأغلبية وانتشار المرض وعدم المساواة والاستغلال في العالم الأدنى فهي شئون دنيوية يمكن مناقشتها والمساومة عليها بسهولة!
وبينما من شروط وأسس النقد الوضوح والموضوعية والجرأة والشفافية، ما يزال النقاد يتحرجون من خوض نقد موضوعي يفضح التوجهات العدوانية لدعاة الدين، ويحرف الموضوع من طبيعته المعرفية المشروعة إلى غاياته السياسية الضيقة، ويفضلون ممارسة نقدهم وملاحظاتهم عبر الأقنعة. في الطرف المقابل يمارس الكتاب والدعاة المتمترسون وراء الدين السياسي نقدهم وتجريحهم وتحريضهم على القتل والتكفير من الصحف الملونة والقنوات الفضائية ومن المنائر والمنابر علانية ودون أقنعة!
إن الأديان الثلاث التي انطلقت من الشرق لتغطي الغرب و جانباً هائلاً من العالم هي بقدر ما حملت من شحنة سماوية، فهي أيضاً طافحة بهموم أرضية ومشكلات إنسانية لم تزل موضع تنازع وتطور وارتداد تارة وتقدم تارة أخرى!
ومن البين أن أحداث 11 سبتمر لم تحدث هزة فقط في الأسس والمفاهيم السياسية على مستوى العالم بل إنها ستحدث هزة أعمق في مجالات الرؤى والأفكار والثقافات والنظم الفكرية والمعرفية، فبعد أن مس الإرهاب المنطلق من مراكز الانغلاق الفكري وتسيس الدين قوى حضارية كانت إلى عهد قريب حليفة لها بل حاضنة وجودها، وجد النقاد والكتاب والشعراء في البلدان العربية والإسلامية ضحايا جدد يقعون صرعى معهم في ساحة المعركة، وبيد ذات القوى التي اضطهدتهم وأبقتهم تحت التهديد (محتمية بأقنعتها البالية والمفضوحة معتقدة أنها تمتلك الحقيقة المطلقة التي لا تقبل النقد أو التعديل )!لقد نشأ الآن تطلع مشروع لتحالف حضاري على مستوى العالم يقف بوجه هؤلاء الحراس لكل ماهو عتيق وبالٍ وعدمي وبوجه التخلف الذي أنجبهم، والعمل وعلى نطاق واسع لتبديد التفسير الخرافي للأشياء، ودحض النزعة التدميرية التي يراد فرضها على الحياة، وإشاعة النظرة العلمية والإنسانية ونشر ثمار الحضارة على أسس عادلة!
من الخطر أن تنفرد بالمعركة قوى متضررة حقاً وتبدو منفعلة أكثر مما هي مكتنزة بالوعي والعقل الناقد (مع إنها مسلحة بتكنولوجيا هائلة ليتها استغلت ولو بنصف طاقتها للمعرفة والكشف الموضوعي). وبدلاً من تعزيز النظرة النقدية الحضارية وتحقيق تضامن واسع لتعرية الأفكار الظلامية والعدمية، يجري إطلاق التعميمات وخلط الدين بالسياسة أيضاً.ترى هل عاد الغرب وأمريكا لارتداء الأقنعة في النقد مرة أخرى؟، حين يتحدثون عن محاربة الإرهاب والفكر الظلامي الذي يترعرع فيه، ينبغي عليهم الحذر من العمل على محو المكونات الأصيلة لهوية هذه المنطقة وتغطيتها بنفايات الفكر الغربي وحضارته ، وليس بالجوانب الصحية والمشرقة للفكر الإنساني الذي ساهم في صنعه المفكرون من مختلف الأديان وصولاً إلى اقتسام حضاري مشروع هو حق للبشرية جمعاء !( لا أحد يتحدث عن اقتسام الثروات ) يبدو أن الأقنعة قد تعبت كثيراً في دورتها حول العالم ولمئات السنين في تراشق النقد الغامض والملتبس، وآن لها أن تستريح في زوايا المتاحف ليبزغ محلها الوجه الإنساني ليقول الحقائق كما هي ويطلق عملية تفاعلها وتبادلها لكي يعم نور الحقيقة والخير والهناء عالمنا كله !