Tanzt die Orange

البرتقالة، حين اصطفاها علي البغدادي من بين الفواكه، وأسالها أغنية شعبية، ربما لم يخطر بباله أن يعارض قصيدة ريلكه "أرقصوا البرتقالة" Tanzt die Orange، ولكنهما على ما يبدو، تواطآ جماليا بشأنها، أي " البرتقالة " كرمزية مفتوحة، لتوليد الفرح والسعادة، عبر جملة من الإشارات الحسية، أو هذا ما حاول غاستون باشلار التأكيد عليه إزاء شاعرية الوعود التي تحملها ثمرة الفاكهة عموما فيما يسميه " حديقة الشاعر " فتفاحة الخطيئة، وبرتقالة السعادة، والوردة أيضا، موضوعات لا تنضب. ألم يستمذق بول ايلوار الحياة من خلالها، ويعلن بخطفته السريالية أن " العالم برتقالة زرقاء"؟
إذا "البرتقالة ليست الفاكهة الوحيدة" كما يشير عنوان الرواية الشهيرة لجينات ونترسون، فهكذا هي الفواكه والأزهار، حسب الإعتقاد أو التحليل الباشلاري مداخل لكينونة الحالم، لدرجة أن فرانسيس جامس، قال بعدم استطاعته تلقي الأحاسيس إلا إذا رافقتها وسائط متصورة لزهرة أو ثمرة، فيما يشبه العودة بالإدراك البشري إلى جنوّية الفاكهة الملذوذة أو الملعونة التي أختبرت بموجبها حسية أبوينا آدم وحواء، أو ربما تمكيث ذلك الشعور بشكل سادي أحيانا، كما تأكد عبر الأسلاف من خلال حكاية زليخة مثلا والتقطيع الشهوي لأيدي أرستقراطيات المجتمع الفرعوني الفضولية على ايقاع اللهفة المدسوسة في فتنة برتقالة مستعارة أو متوهمة.
وقد يكون هذا التمثيل الحسي للفكرة هو ما أراده علاء سعد بأغنيته، ذائعة الصيت " البرتقالة " فالتأمل الظاهراتي لباشلار في " شاعرية أحلام اليقظة " يعني إلى حد مدهش طقس البهجة المتأتية من التشكيل النغمي والبصري لأغنية تراها الانتلجنسيا العربية عنوانا لزمن وثقافة الإحتلال، فالنشوة المتساقطة من أجساد " البرتقالات " البضة والممتلئة بشكل صادم، التي لم تمسها مستوجبات الحداثة، أسقطت وبالضربة الحسية القاضية دعاوى وشعار " الماجدات " تماما كما هزمت " العجرمة " كل محاولات الثيوقراطيين لتعميم " الحزبلة " في لبنان بـ " آه ونص ". كم هي الأحزاب والعقائد هشة أمام الرقص.
كل شيء ضمن هذا الكرنفال اللوني ينتصر في نهاية الكوبليهات للبرتقالي، فدال اللون يشير بحسية فارطة إلى مدلول الرغبة، وعليه يراد لكل معطيات ذلك الزار الطربي أن يتدّور في نطاقات حركية، ويتكوّر في مشتهيات حسية، فالفتيات المنبثات في جنبات المشهد بتكويرات أنثوية مستفزة، المتمايلات بانتشاء مصعّد ضمن مدارات خارجية كاملة الاستدارة أيضا، يحلن إلى حسية الفضاء المولدي، حيث التأكيد الشهوي على دائرية ( الثمرة/المرأة ) بما تبثه من اشارات أنثوية ولذة مضاعفة تغوي الحواس بتأملها، فهي لذة تتشيأ، وتحبس الأنفاس في أنغام مهيّجة تكاد أن تتقولب في مادة ملموسة.
وعندما يثير النجاح الجماهيري للأغنية حفيظة النخب العربية، فهذا لا يعني الإنفصام بين الشعبي كبنية تحتية، والطليعي كبنية فوقية وحسب، كما حدث في حقبة " الشعبلة " بل يفتح السؤال على جوهر المعنى الهيجلي للفن بما هو تعبير حسي عن الفكرة، فما تدلقه الأغنية من نعومة أنثوية على الحواس، بكل مركباتها البنيوية يكاد أن يتحول إلى طعوم أو مذاقات لثمرة البرتقالة، وذلك الإصطفاء الفني يموضعها في منطقة ملتبسة ما بين الحسي والغرائزي، وهي بؤرة ملغومة فكريا وجماليا، وتشبه إلى حد كبير البرزخ الغائم بين الايروتيكية والبورنوغرافية.
وذلك بالتحديد هو ما فضح دراية أولئك بالمعنى الأونطولوجي للأشياء، فسوء الطوية، أو الخبيئة النفسية، كما يسميها فرويد هو الذي أصاب الوازع الأخلاقي العربي بشيء من الإرتباك، فهذا الكائن مسكون بنزعة تعقيمية متأصلة، رغم أن " البرتقالة " تعمل منذ الأزل كمرجعية حسية، فقد سجل يونغ رهابات جنسية متعلقة بالفواكه المستديرة، وتمت المماثلة الشكلية والحسية بنائيا بين مختلف أنواع الثمرات وأعضاء الكائن البشري المثيرة للتخرصات الجنسية، حتى أن أندرية جيد، بكل نزعاته المثلية تفنن في الحديث عن " دوّيرة الرمانة " إفتتانا بناعم الملامس والسطوح التي تذكره بالغلمان، وما زال فيلم " البرتقالة الالكترونية " لستانلي كوبريك يشكل مصدرا للإيحاءات العنفية ضمن مكامنها الجسدية تحديدا، حتى القمر عندما يكون بدرا، يتحول عند الشعراء وبعض المهووسين جنسيا إلى برتقالة مثيرة للغرائز.
أظن أن القراءة النقدية الطهرانية هي المعنية بهذا التجاوز، فهي لا تجيد التعاطي مع أصل النص، إذ تنحاز عن قشر البرتقالة إلى متن الأنثى، ومن المنطقي أن تصادق ثقافة الطبقة الرفيعة على النخبوي وترفض بفائض من الرياء والإدعاء شعبوانية الردح الذي تستفز به هنادي وأخواتها حواس المتفرجين، فالبرتقالات المغناجات النابتات من وجع العراقي ونزقه وشهوانيته وتوقه الأزلي للرقص، وليس من بساتين بعقوبة، أكملن بغنجهن، كما يبدو، مهمة علي الوردي لتدمير " أسطورة الأدب الرفيع ".
وفق تلك الرؤية المعيارية وصفت برتقالة علاء سعد بالأغنية " الهابطة " وهذا لا يعني طردها من أفق الثقافة الشعبية وحسب، بل التنكيل القدحي بها وركلها بكل أحذية الخطاب النهضوي التحريري التنويري التثويري القومي اللاهوتي إلى ما تحت مستوى الثقافة السوقية، فهي لا تطال سونيتة أورفي مثلا، التي جعلت من " البرتقالة " مركزا للعالم، وصارت هي الدينامية التي تنقل الحركات والجنونات والغزارات، حسب غاستون باشلار، وعليه ستظل التضورات الجسدية للبرتقالة هنادي وبقية الكوكتيل الأنثوي مجرد حالة من التردي الفني، والانحطاط الانساني فهي خالية من أي ملمح شعري.
ولكن يبدو أن اللحم الرجراج تحت الفساتين البرتقالية لن يتوب عن الرقص، ففيه الكثير من الشوق للتحرر حتى من إعاقات لا يعرف لها شكلا أو سببا. إنه زمن جديد، يتم فيه ترقيص البرتقالة، وتدريبها على رياضة " الستربتيز " لتتقشر بغنج، فذلك يحدث في مكان عربي محتل، يمكن أن نسميه بمنتهى الحسيّة، واستئناسا بأغنية علاء سعد " أرض البرتقال الراقص " فهذه هي بعض مقدمات ما سيأتي من هناك، لكي لا نبتعد كثيرا عن " أرض البرتقال الحزين " كما سمى غسان كنفاني تلك العقدة الزمكانية.
ثمة حاجة ملحة هنا للتوأمة، لأن الإحتلالات تتشابه، وهو - أي الإحتلال - لا يختلف في شكل موديل الدبابة وشراسة العسكر ومدة حظر التجول أو حتى منسوب رغبته في التدمير. إنه هواء فاسد تختنق به الكائنات الرازحة تحت نيره، فهل تمتلك ( المرأة/البرتقالة ) فضاء تعيشه غير جسدها، أوسلاحا غير الرقص!؟

كاتب وناقد من السعودية
e-mail: [email protected]
www.m-alabbas.com