في نهاية مؤلفه "هذا هو الانسان" ( ترجمة علي مصباح ـ دار الجمل ) يقول الفيلسوف نيتشة: "تنطوي عبارة اللااخلاقي لديَّ على عمليتي نفي. في الاولى أنفي نموذجاً من الناس كان يعتبر الى حد الآن هو الارقى، الخيِّرون وذوو النوايا الخيِّرة واصحاب الاعمال الحسنة، ومن الناحية الثانية أنفي نوعاً من الاخلاق التي فرضت صلاحيتها ونفوذها على انها الاخلاق في ذاتها، أخلاق الانحطاط، بتعبير ملموس".

هكذا فهم نيتشة الاخلاق. وفي منظومته الفكرية والفلسفية كرس نفسه لاسقاط قيم اعتبرها تسجن الفرد وتحط من شأنه، فيما شيَّع بقدرته وطاقته الفائقة لاكتشاف الذات والاعلاء من شانها بحيث تكون قادرة على مواجهة عالم معقد يغلفه ارث ثقيل المعارف والاخلاق يعمي الانسان العادي. ليست لهذه المقدمة علاقة مباشرة بسعدي يوسف ولا بحيثيات سحب جائزة العويس منه. ولكنها، حسب ما اعتقد، تمس كلا الطرفين بعض الشيء: سعدي يوسف المتهم بالتطاول على المقدسات، وسلوك المشرفين على الجائزة الذين عادوا وحجبوها عنه لسبب اخلاقي. إن الاخلاق، وهي منظومة معقدة وبنية غير ثابتة كانت دوماً في حركة وتغير. وإذا اغفلنا جوهرها الفلسفي وجدنا في سياق تطورها، خاصة فيما وفرته البلدان الصناعية و الديمقراطيات الحديثة، تبدلا واضحاً لقيم العشيرة والقداسات الشخصية ومفاهيم الاجلال والاحترام. ومن هنا فإن " الدراما الشخصية " لدى سعدي يوسف لم تعد شخصية، وانما أصبحت قاعدة لجانب خطير من حياتنا، هي الثقافة والابداع بحيث يبرز التساؤل المنطقي عن طبيعة ومستقبل من حازوا على جائزة العويس، إن لم يبرز هذا التساؤل عن طبيعة كافة الجوائز التي تمنح ولمن ووفق أية معايير.
لم يحدث حسب علمي أن مُنِحت جائزة أدبية لكاتب ما ثمَّ سحبت منه بسبب من سلوكه السياسي أو لتصرفاته الشخصية، ولدواعي اخلاقية لا تلائم مانحي الجائزة الذين قرروا اختياره في الاول دون عشرات المبدعين الآخرين. من الواضح أن أية جائزة أدبية يُتوّج بها كاتب ما يكون قد حاز عليها لعمله الابداعي ولمنجزه الثقافي والادبي. وتأتي دائماً في ديباجة اللجنة المُحكِمة عن الكاتب الذي اختارته، شرح مبسط ولكنه أساسي، تأخذ بنظر الاعتبارمواصفات وخصائص نتاج المبدع وتميِّزه عن الآخرين. أما اللجنة المانحة، كما هو معروف، تتكون من ادباء ونقاد وخبراء في تقييم النصوص، وليست بالتأكيد لجنة تعتمد على منظومة من البنود الاخلاقية أو السلوكية تقيس بها أولاً صفات الشخص ومن ثمَّ تنظر الى مكانته في الابداع والخلق. وليس من المعقول أن ترصد الكاتب الذي توجته بالجائزة طوال عمره لكي تقاصصه حينما يحيد عن الاخلاق الحميدة فتسحب منه الجائزة.
لقد منحت جائزة العويس في العام 1990 ( أي قبل 14 عاماً ) للشاعر سعدي يوسف. ولا شك أن سعدي يوسف، بالمقاييس العادية، شاعر له أهمية استثنائية في الحياة الشعرية العربية. وحسناً ما فعلت اللجنة المانحة باختياره للجائزة. لقد ساهم سعدي بتطوير القصيدة العربية الحديثة مضموناً ولغةً : نقلها الى حد بعيد من البهرجة الخطابية والبلاغة التقليدية العامة الى شخصانية، منحها هويته وأحاطها برؤيته الخاصة، مهما كانت تلك الرؤية ضيقة حسبما اعتقد. وهو بالتالي، في معظم قصائده، جعل الشعر بحق في متناول المثقفين والمتعلمين من غير أن يمتثل الى لغةٍ إشكالية فضفاضة قابلة للتأويل، لغة فخمة معتمدة على صور من الاسطورة وعلى ديباجة أغراض الشعر العربي التي مازالت موجودة بمثابة جنين ميت في معظم الشعر العربي الحديت. وهو بقدر ما جسَّد في قصائده المشاغل و الهموم والاشراقات العادية للفرد العادي اقتنص ما هو موجود في الحياة اليومية ولكنه غائبٌ في موضوعات الشعر، وهو بذلك أثَّر في لغة الشعر وفي مضامينه مبتعداً عن الدرامية المعلنة التي تطبع معظم الشعر العربي الحديث حتى الآن.
أعتقد بأن سلوك أي كاتب أو فنان في حياته اليومية العادية وفي مواقفه من القضايا السياسية، وشراسته في النقد، وفق هواه، لا تقلل من اهمية نصوصه الابداعية. وربما تكون هذه الحزمة من التناقض والتضاد مادة لدراسة بنية الكاتب لكشف جوهر تلك التناقضات واضاءة هويته الشخصية المتسمة ربما بالازدواجية، وهي على الارجح صفة انسانية، بل وبالأخص صفة الكثير من الناس في مجتمعات لم تتطور تطوراً تراتبياً تحدد فيها الأنا وعرف الآخر كما عرف العالم الذي يعيش فيه. تلك الصفة " الشخصانية " التي بدأت في أوربا منذ عصر النهضة، فارتبطت القناعات الفكرية والايديولوجية بالسلوك اليومي.
هناك كتاب ومبدعون في العالم ـ ليس مقارنة مع سعدي يوسف ـ متجانسون في مواقفهم الشخصية والسلوكية مع قناعاتهم الفكرية، وتمثل نصوصهم الابداعية جزءا من شخصيتهم. هؤلاء يشيّعون لأفكارهم، وغالبا ما يواجهون نقدا قاسياً من بعض الاطراف التي تخالفهم الرأي والموقف. ثمة كتاب مثليون على سبيل المثال، ولصوص، وشتامون، يواجهون انتقادات وتعارضات وحملات تقاد ضدهم، ولكنها لا تقلل من دورهم في الثقافة والابداع ولا تحط من شأن انجازاتهم الفكرية.
لم يبقِ الفيلسوف نيتشة شيئاً المانياً لم يشتمه، واستنكر أن يكون ألمانياً، فيما لم يقبل أن يكون القيصر حودياً له كما صرح. وقد أهان المسيحية والبابا في جانب اساسي من طروحاتة الفكرية، ألاّ أن الفكر العالمي والتراث الالماني مازال يفتخر ويعلي من شأن نيتشة. وكان من المفروض، احتكاماً للاخلاق التي نتمسك بها وهي متغيرة بالتأكيد، أن تحجب كتب جاك كيرواك وتيموثي ليري وفيليب روث ورامبو وألن غينزبرغ وأندريه جيد.وجان جينيه........... وعشرات غيرهم لأنهم مدمنو مخدرات وأفاقون ومثليون ويجدفون بحق الرؤساء والمقدسات والشعب. أليس من الطرافة أن تسحب جائزة نوبل من مَنْ يتحدث بسوء عن ملك السويد !
أما بصدد سعدي يوسف فإن الهجوم الذي يتعرض له من أطراف عديدة ليس هجوماً يمس انجازه الشعري، بل يمس مواقفه السياسية وشراسة لغته الطاعنة ولكنه يأخذ في أحايين الجانب الابداعي بجريرة الاخلاق. ومن المؤسف، حتى بضمن تقييم الاخلاق العادية، أن يتيح سعدي المجال للاخرين كي يوجهوا اليه الطعون الشخصية ويكتبوا عنه المقالات الفجة، بل الشخصية احيانا، ضد سلوكه وحياته. وأعتقد بأن المسألة التي يغالي بها سعدي يوسف لاتتعدى في عمقها عن اعلان موقف من الاحتلال الامريكي للعراق، كما يراه، وعن مَنْ يسميهم عملاء الاحتلال، من اصدقائه ومعارفه القدماء، وهو يصفهم بصفات لا علاقة لها بالرصانة الفكرية. وربما يمتثل سعدي الى العواطف الشعبية بعد أن أعياه جدل الأفكار لفداحة ما يحس به من الخسارة والألم. وأعتقد بأن اعلان الموقف لا يقتضي الاستمرار في بذخ لغة جارحة وخشنة بقدر ما يقتضي، من زاوية الكفاح ضد الاحتلال، الاعلان عن برنامج لتحرير بلاده، أو التسلل إليها ببندقية يقتل بها الامريكان ومن يساندهم، كما يفعل البعض من هم في العراق.
إنني أُراقب منذ فترة، وبأسف شديد، هذا الطفو الغفل والانشغال الجانبي البعيد عن هموم المبدع الثقافي لدى سعدي يوسف بحيث أصبح الامر، في الكتابة وفي الكتابة المضادة، بمثابة مبارزة من القرون الوسطي، بل غدت فكاهة سوداء يتندر بها الناس، فكاهة تطلق كألعاب نارية بوجه عالم يقتضي أن يكون هموم المثقف فيه أعمق من كل ذلك. ولكن يبقى سعدي يوسف الشاعر الاكثر قدرة في الوقت الراهن في عالم الثقافة الشعرية. ومن الموسف حقاً أن يقود كلامه عن زايد بن سلطان آل نهيان الى اتخاذ الاجراء الغريب الذي لم يسبق له مثيل. فضلاً عن كثير من كتاب الاعمدة الذين اعلنوا الولاء والحب للراحل ليساهموا في عرس الذم وتجريح الشاعر ويمهدوا الطريق لاسقاط تاجه الثقافي الذي توجته جائزة العويس.
والواقع لم تمنح لجنة التحكيم جائزة العويس لسعدي يوسف على حسن سلوكه ودماثة أخلاقه لتحجبه عنه بعد 14 عاماً لأنه أساء الأدب، بل منحته الجائزة، كشأن كل الجوائز التي تمنح " لابداع المبدع واهمية هذا الابداع وجدارة استحقاقه " كما جاء في الديباجة التي نشرت بعد حجب الجائزة عنه. ولا اعتقد بأن اللجنة المتكونة من مفكرين وادباء ونقاد، تلك التي منحته الجائزة، قد اجتمعت وحددت سلوكيات جديدة صارمة على صعيد الاخلاق وربطتها بقيمة الابداع لتجد أن سعدي يوسف لم يعد يستحقها. كان من المعقول أن تنشر اللجنة المحكمة التي اختارته قبل 14 عاما مطالعتها الحديثة وتبين اسباب سحب الجائزة عنه.

من الخرافة ربط الابداع بالمسلك الشخصي، وبالهوى السياسي، وبمزاج يضَعُ محرمات على سلوك المبدعين تقاس بها هذه المسألة، لا تلك المسألة، خاصة إذا ما مست مشاعر مجموعة من الناس. ولتكن تلك المجموعة على حق ولها قداساتها، ولتكن موكلة من قبل " الشعب " إلاّ أنها بهذه المقاييس غير مؤهلة لأن تكون سلطة ثقافية ولا هي مؤهلة لتقييم الادباء والمثقفين والشعراء.
ماذا كانت في الواقع جريمة سعدي يوسف؟. إنه تحدث بسوء عن الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان فـ "أثار غضبنا وجرح مشاعرنا لتعرضه لمؤسس دولتنا وباني نهضتنا وازدهارها" كما جاء في بيان الحجب وبعبارات اخرى في الأدبيات التي هاجمت سعدي وتحدثت هي الاخرى بسوء مست شخصه. وهذه القداسة في البلدان العربية، بغض النظر عن التفاصيل، مكوّن عام لكثير من الرؤساء الذين يجتمع حولهم من يضفون عليهم صفات استثنائية وقداسة خاصة في انجازاتهم وحروبهم واعلاء شأن شعوبهم وأمتهم... الخ.
والواقع أن سعدي يوسف دأب على التعرض بالسوء لأُناس كثيرين ولاحزاب وقوى وافراد، ودخل معارك كلامية عرضته الى طعون شخصية بما لا يليق بشاعر همه ابداعي بالدرجة الاولى. وأنا أشعر بالاسف حقاً لهذا القتال الفائض الذي يهدر كرامة الانسان، وهو لايملك غيرها، أعني قوته وزخمه وروحه الداخلية الصلبة التي يواجه بها العالم غير المنصف ويستمر في مغامرة الكشف معمقاً ثراءه الابداعي، لا متشبثاً بما هو آني وزائل لا يمس جوهر الابداع في شيء. ولكن مع ذلك تبدو المسألة ـ سحب الجائزة عن سعدي يوسف ـ خطيرة. وهي بادرة عربية، عربية فقط وبامتياز : أن تمنح الجوائز، وأن تحجب الجوائز، من منطلق أمزجة وحدود وقداسات لا شأن لها بالابداع، إنما هو إهانة للثقافة.

وماذا سيفعل غداً محمود درويش وأدونيس وغيرهما ممن توجوا بجائزة العويس لكي يبقوا محتفظين بها فيحسبوا كلماتهم ويقيسوا مواقفهم وفق مقتضيات أصحاب الجائزة، وهم لا يجرأون الحديث ضد القداسات التي تزيد وتنقص وفق مزاج الظرف ومحدلة الزمن.