رحم الله المبدع الكبير غائب طعمة فرحان، صاحب نص الرواية الذائعة الصيت، والخالدة في نفوس العراقيين "النخلة والجيران". والذي قيض له أن يغرس شخصياتأعماله في حشاش القلوب حتى صار الواحد منا يتذكر؛ تماضر، سنية خاتون، صاحب البيسكلجي، محمود بن العورة، فيما يبقى المبدع الكبير خليل شوقي، عملاقا في هذا العمل. ما انفك العراقيون يتذكرون بمحبة، تلك الجملة المرحة؛ (إف الدنيا حر، من هاي الشعب العراقي ما يخاف من نار جهنم). تلك الجملة قيلت على المسرح،فاهتزت أركانه ضحكا عراقيا صميما نابعا من الروح، لا مزايدات ولا مهاترات ولا تأويلات ولا تكفيرات مجانية.ترى هل كانت الدنيا غير هذه الدنيا؟ أم أن الزمن كان في لحظة أحرى، مختلفة عما نحن فيه من اقتتال ومنازعة وخصومة، تعصى على الحل.
لطالما استظل العراقيون بالنخلة، حتى ألفتهم وألفوها، نخلة واحدة تعني الخير الوارف والبركة والحميمية والأصالة والنبل والصدق بالمشاعر.نخلة تعني هوية العراقي وانتماؤه، وهي الجديرة أن تتوسط العلم العراقي المقترح، والذي احتار فيه المصممون وراحوا يتصورون ويصورن . نخلة هي الصميم والحشاش من هذه الروح التي عانت من العطش والخواء والتقتيل والترهيب والنبذ والإلغاء، الى الحد الذي صار الفرد العراقي، يتحسس ماتبقى له من أعضاء عندما يستيقظ في الصباح.نخلة كانت الترياق لكل سموم الإرهاب التي برعت في بثها ماكنة القمع الصدامي. فهي الرؤوم والحنون وقلب الوالدة الرؤوم التي يتفيأ تحتها الجميع، من دون الملابسات التي تنزع نحوها الطائفيات والإقليميات والإنتماءات الفرعية والعرقية.
نخلة تعني الشاي أبو الهيل في العصاري العراقية الصيفية، وكعك أبو الدهن والسمسم، حيث اللقاء العائلي الدافيء، والذي جعله الطاغية حلما بعيد المنال على أربعة ملايين عراقي، لم يقترفوا ذنبا سوى ذنب التفكير، والذي أريد لهذا المجال أن يمحى من العقول والأفئدة والنفوس. وواحد وعشرين مليون مواطن، تم ارتهانهم تت جبروت وهيلمان رجال الأمن الخاص والحرس الخاص والجيش الخاص والقائد الخاص والمكان الخاص، حتى هرب هذا الخاص موليا الأدبار بعد ظهور أول دبابة على جسر الجمهورية، وتحت سمع وأنظار العالم، وبالألوان الطبيعية والبث المباشر. نخلة تعني الإنتماء لهذا العراق الذي تعرض للتمزيق والتآمر والترهيب والإضطراب والتقتيل والظلامية والبوار القابع في العقول المريضة.
هاهم الجميع يتنادون ويتساءلون عن مصير هذا العراق، والى أين يذهب به أبناؤه والآخرون.فيما تبقى النخلة سامقة شاهقة، تدور مع الزمان والأطوار والتبدلات، برغم التحولات والتغيرات، فكم جاء عليها وكم مرَ من الأجناس والأقوام والأحزاب والأيديولوجيات والجماعات والفرق والحكومات والملوك والرؤساء، لكنها الأبقى والأنقى والأشد وطنية وعنفوانا، من كل هذا الذي مر عليها.لأنها المتماهية مع تراب الرافدين راضعة من نبعه العزيز، ملتحفة برده وقيظه وحتى عجاجه.ويبقى سؤال الى أين المسير شاخصا وثابتا في هذا الجسد المسجى والذي غدا عرضة لإعتداءات وتحليلات وتقمصات بغاث الأرض(( الغث والسمين))، الذي يفهم والذي لا يفهم يحاول أن أن يجد له مساحة في المسألة العراقية، ليبدأ التحليل والتفسير والشرح والتقميش وو ضع الهوامش، فيما تبقى الصباحات العراقية غارقة في وحول الدم، التي يبرع في تصنيعها الإرهابيون الى الحد الذي باتت فيه مفردات من نوع المقاومة والرفض والنقاش الحر للقضايا تعاني الإلتباس والوهن، من فرط ماتدخل فيها الأدعياء والمطبلون والمزمرون والمنافقون.
ألا يانخلة العراق المباركة، أيتها المسيجة بالمحبة الخالصة والمشاعر النبيلة، ها نحن ننتخي بك، ببركتك على أقل تقدير، بعد أن تداخلت الرؤى وغابت التصورات السليمة والصحيحة بين العباد الذين أمسوا مابين؛ حواسم لا رجاء لهم سوى النهب والسلب، أو منتفعون يحاولون مراقبة الحدث وتوزيعات مراكز القوى،أو محبطون يعانون من الظلم والإبعاد والإقصاء والتهميش، الى الحد الذي غدت فيه مطالبة المواطن العادي أن يعلن إنتماؤه الى هذا الحزب أو ذاك، من أجل الحصول على وظيفة في الحكومة العراقية المؤقتة!وهذا تتبدى محنة المواطن الذي لا حول له ولا قوة، وسط هذا الزحام من القوى السياسية التي زحفت وقيض لها أن ترتهن مقدرات العراق السياسية والإجتماعية والإقتصادية، بل وحتى (الإقتصادجية على وزن عصابجية) والتي يحلو للمواطن العراقي أن يفرغ فيها مكنون الحنق والغيظ الكامن في حشاش الروح.
لا يتردد العراقيون اليوم من الإشارة الصريحة والواضحة الى أن دكتاتورية الحزب الواحد، قد خلفت لنا دكتاتورية التعددية الحزبية، حتى ليكون السؤال، عن مدى الخطل الفاضح الذي يعتور هذه الجملة، الى الحد الذي لم يتوان مثقف عربي من رفع عقيرته بسؤال إستنكاري حول (دكتاتورية التعددية الحزبية) مشيرا الى كم التناقض الذي تحتويه. لكن هذا هو الواقع في العراق الممزق، والذي غدا نهبا لتهويمات التكفيريين والمؤدلجين والظلاميين والهاربين من مواجهة المحتلين، بالإضافة الى (لسلابة والنهابة)، ليتبدى المشهد في أعتى سورياليته! حتى لينطبق عليه المثل المزدوج، الذي أنتجته قرائح السكارى في حديقة الأمة البغدادية؛ (اليدري يدري، والمايدري حنطته تأكل شعيره) وتعال إفهم.

تورنتو