"الجا" و"العَجَل" ومابينهما "اللَعَد"
بعد مداولات ومناقشات طويلة قيض لمجمع اللغة العربية، واهتدى الى تعريف مفردة "السندويش" الإفرنجية ب؛ "الشاطر والمشطور والكامخ فيما بينهما"،حتى ذهب هذا التعريف المعقد والمضطرب مثلا يتداوله العرب، حول التعقيد والتقعير الذي يضر بالمعاني، ويحيل البسيط والمفهوم الى عقدة عسيرة على الحل.وما بين الشاطر والمشطور يتضاعف الأسى العراقي ويتركب حتى يكون من الصعب الوقوف على بعض الملامح الواضحة فيه.فالأمر لا يتوقف عند نطاق الوعي بالمفاهيم والمصطلحات، أو تحديد الصالح والطالح، أو حالة التعدد والخلاف والإنقسام المرير الذي يطيش بكل شيء، في هذا العراق الذي يقف اليوم على كف عفريت، بل يتخطاه الى حالة النزف الداخلي، والتي تدمي وتغطي المساحة الأعم والأشمل من الذات العراقية.وإذا كان العقلاء والحكماء والطيبين وأصحاب النوايا الحسنة، يدأبون ويعملون ويتنادون ويجتهدون نحو تعميق مفاهيم الوحدة الوطنية، والحث نحو إنفاء مساحات النفرة والفرقة. فإن الواقع الموضوعي يبقى مشيرا وبوضوح تام لا يقبل اللبس أو حتى الإختلاط، حول حالة التوزيعات العرقية والطائفية والفئوية التي تفرض بحضورها الطاغي والمؤثر على التداول الإجتماعي في العراق.\
مثلثات ودوائر
في خارطة التوزيع العرقي والطائفي للعراق، يبرز مصطلح المثلثات بإعتباره الخيار الكثر تداولا وشيوعا، حيث المثلث العربي الجنوبي الشيعي، ورديفه السني، والثالث الكردي. ومن هذا الإحتكام الإصطلاحي المستمد من كتب الهندسة المدرسية، يكون الثبات والإلحاح على مقتربات الدرس والملاحظة للظاهرة العراقية ومحاولة الخوض فيها درسا وتمحيصا. إلا أن محددا علاماتيا لاسيما على صعيد اللغة والمنطوق المتداول، بقي بعيدا عن وسائل وأدوات المراقبة والملاحظة.فمن جنوب قضاء المحمودية تحديدا وصولا الى أقصى الفاو، يكون الإنتشار للفعل المساعد في اللهجة الشعبية العراقية وهو (( الجا)) بالجيم الأعجمية، والتي تفرض طريقة الكتابة فيها وضع ثلاث نقاط في أسفل الحرف بدل النقطة الواحدة. حتى كان مطرب وملحن الخمسينات عباس جميل يترنم بها قائلا؛ (( ما ني صحت بويه إحاه جا وين أهلنه))، فيما صاحت المطربة وحيدة خليل (( يمه أحاه)) من دون تردد، ومابين اليمة والبوية، تتبدى للعيان بعض ملامح التداول الإجتماعي والقيم الشائعة، التي تتيح للمرأة الإنتخاء بالأم، فيما يكون من العار والشنار أن يقوم بهذا رجل.
بقيت هذه (( الجا)) بمثابة العلامة الفاصلة التي يمكن أن تحدد مصير صاحبها، لاسيما على صعيد مدى القرب والبعد من الحكومة، باعتبار النفوذ والقوة والسلطة والعزة والمنعة، أو حتى طريقة ولوج المجتمعات ومحاولة الإقتراب من الأوساط الموصوفة بالراقية، أو حتى نظرة رضا وقبول من فتاة جميلة. ٍبل أن البعض تم رفض طلب زواج، لأنه ينطق(( بالجا)) فقط وليس اعتراضا على أصوله أو مذهبه، او حتى منصبه الوظيفي أو الأدبي. ومن هذا راح الأغلب من مهاجري الجنوب يعمدون الى تحاشيها، والتطلع الى استخدام البديل الحضري والمتمثل ب ((اللَعَد))، إلا أن سوء الاستخدام والإرباك كان يودي بالبعض الى الخلط الفاضح، ليكون النطق بجملة (( جا لَعَد ليش)) بمزيج لفظي قوامه الريفية والحضرية، ومنذ موجة الهجرة الأولى الى الحاضرة والتي برزت في أعقاب الأزمة الإقتصادية العالمية (( 1929- 1933))بقيت الآمال والعقول والرغبات شاخصة نحو هذه (( اللَعَد)) المغناج الطلية الجميلة الشائقة، بكل ما فيها من أبهة الحاضرة ودلال المدينة وعنفوان الأفضلية.لتبقى حظوظ (( الجا)) مرهونة بالتداول المنزلي وبين الأحباب وأصحاب الأصول والمرجعيات الواحدة.ومن هذا الواقع راح العراقي يعيش الازدواجية المركبة على صعيد اللغة، الاولى ممثلة بإشكالية العامي والفصيح، أما الثانية فتتمثل بإشكالية اللهجة الريفية والحضرية.حتى ليتنادى البعض في حالات الراحة والثقة المتبادلة بين الأصدقاء، ليقول من دون تردد؛ (( حقا أشعر بالراحة، كأنني أتحدث في بيتنا!!!!)).
العمام والخوال
في بداية الثمانينات من القرن الماضي، واشتعال الحرب العراقية _ الإيرانية، برزت ظاهرة تسرب الإصطلاح البدوي (( عَجَل)) في المحيط الإجتماعي العراقي، وبإشراف ومباركة الرئيس المخلوع.وراح يتم ترسيخ هذا المصطلح في الذهنية العراقية، من خلال الأحاديث التلفزيونية الطويلة، والتي تستغرق الساعات والساعات. ليبدأ الزحف التداولي، والتمييز العلاماتي على صعيد اللهجة الدارجة، في إقصاء ملفت وغريب للهجة الحضرية وتكريم وإطراء مبالغ فيه لقيم البداوة وثقافتها، واعتبارها المرجع الرئيس للرجولة الحقة. من جانب آخر برزت التوابع والزوابع اللفظية الملحقة بهذه العجل، من نوع؛ إكضَبوا: ومعناها إمسكه.طُروا: ومعناها اشطره الى نصفين، وقاموس طويل من المفردات المتزينة بثقافة المراجل واحتقار الثقافة الأخرى، ومن هذا المعطى راح الشارع العراقي يتعاطى مع هذه الظاهرة بطريقة شديدة الإلفات، فحين يدخل المرء دائرة حكومية، أو يحاول الحصول على مغنم ومكسب ما، لا يتردد من النطق ب (( العجل)) والتي غدت بمثابة المفتاح الذي يعالج الأبواب الموصدة.
لم يصدر من ديوان الرئاسة تعميم رسمي بهذه (( العجل))، لكن الخوف الذي تم غرسه في نفس العراقي، جعلت منه يخشى ظله. ومن هذا راح المزيد من الأفاقين واللصوص والماكرين، بل وحتى الظرفاء من امتطاء هذه الموجة واللعب عليها، في سبيل الوصول الى االغايات والأهداف المطلوبة.بالمقابل تعرضت (( اللعد)) الى الذواء والضعف والهزال، حتى لم تعد تستخدم إلا في المنازل. بعد أن تسيدت الموقف قيم العشيرة والقبيلة على حساب المدينة والحاضرة والمؤسسة.
تورنتو
التعليقات