الحرب مرّت من هنا. العراق، من الآنَ فصاعدا، بلدٌ مفتوح... تعاني الثقافة فيه وضعا مأساويا... فها هو يرضخ بين اختيارين: ثقافة كانت تتحرك وفقا لبوصلة الديكتاتور، وثقافة مستغلة فوضى سقوط الديكتاتور يحضرها الذين كانوا محرومين من امتيازها التراتبي...أمس، كان هناك بوليس حقيقي لا يتردد في إلقاء أي فكر له كرامة، في الزنزانات والمقابر الجماعية، واليوم جهاز حزبوي يعمل، طابورَ خامسٍ، مبتغيا ثقافة عراقية كومبيوترية تلبي ما يُمبرمج فيها... لكن مشكلة هؤلاء لا تكمن فقط في أنهم جاءوا متأخرين.. بل أيضا في سلعتهم التي باتت عتيقة في نظر شعب انفلت ومعه انفلتت كل أنماط التفكير. هنا أمل في هذا الانفلات بالذات لدى الناس؛ انفلات ما إن يستقر الوضع الأمني والاستقرار الاقتصادي، حتى يعود أحد مكونات ثقافة عراقية نقدية. نعم يجب مواجهة الإرهابيين والطائفيين المنسدلين تحت ستار محاربة الاحتلال،أيا كانوا، لكنها مواجهة تنطوي على نشاط فكري يهدف إلى استئصال، من الذهنية العراقية وبالأخص من ذهنية مثقفي وأدباء هذه الذهنية، كل فكر شوفيني مشبع بالكراهية، وطائفي لا يرى العراق إلا وسيلة لاراقة دم الآخر. إنها حرب مفتوحة وطويلة الأمد كلنا يأمل أن يقودها القانون والنظام إلى سلامة وطنية صحية. وإلى أن يعود الوضع الاجتماعي الطبيعي إلى سيرورته الخلاقة، ليس أمام المثقف الحر، خصوصا إذا رفض المشاركة في خطط حزبوية ثقافية، سوى التأمل الداخلي، الجولان في عراق ماضيه هذا، متسائلا عن جدوى ما أنجزته ثقافة الذات العراقية خلال الخمسين سنة الأخيرة. فلا حول ولا قوة له، في ساعة المخاض هذه، سوى الكتابة. وهنا بيت قصيد العزلة العالية والانفلات من اغراءات ثقافة الفراغ: أن يكون للكتابة دورها هي لا الدور الذي كان يعطى لها من الخارج؛ أي أن تختار ذاك المرمى الممنوع لتثبت فيه بالذات سهمها.