محمد حسنين هيكل، ذلك الصحفي المثير للجدل والذي استغل علاقته بعبد الناصر ليحتكر معلومات السراي، ويلونها بعقيدة السيد ويجرعها للشعب المصري والعربي إبان فترة الهذيان والتخريف، بواقع جرعة كل يوم جمعة، واضعاً عليها علامة تجارية ثورية "بصراحة".
استمر بعد عبد الناصر ولفترة طويلة يكرر معلوماته تارة، وتارة يدعي التحليل السياسي الموضوعي مستخدماً علاقاته الدولية الواضحة والمواربة في تجميع كل المعلومات التي من شأنها أن تخدم نرجسيته المتعاظمة.
وقد ساهم صحفياً وفكرياً في الحالة الهذيانية التي منينا بها، والتي كانت هزيمة 5 حزيران 1967 تتويجاً لها. وحتى بعد أن وضعت الحرب أوزارها وفتحنا العيون على هول الفاجعة، لم يعتذر هيكل عما اقترفه في حق أمته بتضليلها، بل استمر فيما استمرأه واعتاد عليه، ويكفي دليلاً على ذلك أنه مبتدع مصطلح "النكسة" ليعتم على وجه الهزيمة المروعة. وهو الذي كتب خطاب عبد الناصر يوم 9 حزيران 1967 والذي ورد فيه "كنا ننتظر العدو من الشرق فأتى من الغرب"، كما ورد فيه "أنه لا يغني حذر من قدر" وهذا توظيف لعقلية الجبرية وأن الله قد أراد ذلك رغم كل الحذر الذي بذل من قبل القيادات السياسية والعسكرية. أي ممارسة فن الإعلام الاستعلائيالذي يرى في الشعب دهماء ورعاع، لا يجب أن تقال لهم الحقائق، وأنهم قصّر لا يدركون مصالحهم حتى في اللحظات التاريخية الأكثر مأساوية في حياتهم.
بعد ذلك اكتشف هيكل أنه لم يعد الوحيد المستأثر بحمل راية التضليل وتخدير الأمة، فإن رايات الإسلامويين أصبحت أكثر علواً على جبال الأوهام العربية، وصراخهم غدا يصم آذان من بقي حريصاً على سماع صوته. فقرر منذ فترة اعتزال الكتابة بحجة بلوغه سن الثمانين، وفرحنا كثيراً لذلك، ورشحناه لدخول موسوعة جينيس للأرقام القياسية، كأطول عمر من أي بوق في تاريخ العرب.

غير أنه غيّر رأيه وقرر أن يواصل مسيرته التي شب وشاب عليها، وهذه المرة ليس بالكتابة ولكن بالثرثرة على شاشة فضائية الجزيرة وهي قناة التضليل الإعلامي بامتياز.
وفي أول حلقة ظهر علينا هيكل ليس كمن يريد أن يقدم شهادة على العصر، أو يريد أن يناقش مشكلاً، أو يعطي رأياً في أمر مما يستوجب ديالوجاً فيه رأي ورأي آخر، أو كخبير في علم يستدعي وجود صحفي يذكي حواره بالأسئلة. ولكن جاءنا كأستاذ للأساتذة لا يشاركه على الشاشة أي وجه آخر، إنه برز علينا وكأنه ضابط قام بانقلاب ناجح لتوه وجاء ليلقي البيان الأول على الأمة.
وبدأ هيكل يتكلم ويلقي دروسه في السياسة والأخلاق والتاريخ والفن العسكري والاقتصادي، يفسر الأحداث ويؤول الوقائع، وكأنه مالك للحقيقة المطلقة : فعندما يتكلم هيكل ليس على الأمة إلا أن تجلس على مقاعد الإصغاء.
وباعتباري واحداً من أفراد هذه الأمة المشاغبين، أريد فقط أن أشير إلى نقطتين مما تفضل به علينا هيكل من خلال هذه الإطلالة التلفزيونية.
أولاً : في الحلقة الأولى والتي استمرت زهاء الساعة، فإن موضوع حديثه ينصب على شيء واحد وهو كيف تكرّم على قناة الجزيرة وشرّفها بقول ما يريد قوله من خلالها، فقد كان حسب قوله يتخير بين القنوات التلفزيونية عن قناة لا تلحق الدنس السياسي بطهارة أفكاره. وقد بقي في حيرة من أمره، حتى أنقذه رئيس الولايات المتحدة الأمريكية جورج بوش عندما رفض أن تكون قناة الجزيرة ممثلة في مجموعة وسائل الإعلام التي اختارها لمؤتمر صحفي، فعند ذلك فقط حزم هيكل أمره، وقرر أن يصطفي قناة الجزيرة لحديثه نكاية بجورج بوش، وكأن القناة التلفزيونية أصغر من أن تتسع لزعيمين بحجم جورج بوش ومحمد حسنين هيكل.
وفي هذه المرة اقترب هيكل القومي الناصري من غلاة الإسلامويين باعتماده رأي ابن تيمية:"اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أهل الجحيم"، وهو الكتاب الذي أوجب فيه على المسلمين أن يخالفوا "أهل الجحيم" –ويقصد اليهود والنصارى- مخالفة ضدية في جميع أقوالهم وأفعالهم. وهنا تبرز اللاعقلانية في فكر هيكل الذي يرى أن ما يفعله عدوه يجب أن يعزف عنه، وأن ما ينكره عدوه يجب أن يحتضنه، حتى وإن كان ذلك لا يخدم مصالحه ومضاداً لقضاياه، ويبقى هيكل حبيس رد الفعل العكس اللاواقعي، مدللا على بؤس الثقافة العربية، وتردي نخبها اللاواعية.
الشيء الذي فات هيكل هو أن قناة الجزيرة مملوكة لدولة قطر، هذه الدولة الصغيرة التي تحاول بشتى السبل لعب دور أكبر من حجمها وتوظف أعراف القبيلة في السياسة، مستعملة دهاء شيخ القبيلة ليس في حنكته السياسية وإنما في سياسة الضحك على الذقون.
فهذه الدولة أقامت توازناتها في المنطقة على ثلاثة محاور :
1.الشيخ القرضاوي في مواجهة بعض التيارات الأصولية السلفية، وذلك كمن يستجير من الرمضاء بالنار، هذا الشيخ الذي قال في مؤتمر من مؤتمراته الأخيرة إن سبب الفوضى والتخبط في العالم الإسلامي ناتج عن عدم تطبيق حد الردة على العلمانيين، أي أن هذا الشيخ يوصي بقتل نصف المسلمين حتى ينصر الله نصفهم الآخر.
2.أعطت قطر أكبر قاعدة للأمريكيين في المنطقة على أرضها، حتى تشعر بالاطمئنان تحت مظلتها، وتثبث للسادة أن بمقدورها إعطاءهم ما لا يستطيع أحد أن يجازف بمنحهم إياه من جيرانها.
3.إطلاق قناة الجزيرة للتهييج حتى تمتص نقمة الغاضبين من أبناء العرب، لمعرفتها أن العرب يهتمون بالأقوال لا بالأفعال.
وقع هيكل في نفس الفخ الذي وقع فيه أكثر العرب، فبدلاً من أن يكفر عن سلوكه القديم، ويتحدث إلى العرب بشكل عقلاني، ما كان منه إلا أن تماهى مع هذه الفضائية التي أثارت فيه شهية الحنين للماضي، لأن الجزيرة ما هي إلا امتداد لصوت العرب أيام احمد سعيد ومحمد عروق زملاء هيكل القدامى. وبدلاً من أن يكشف زيف الأوهام للناس دخل في جوقة قناة الجزيرة يرتل تهاويم لا تزيد العرب إلا بؤساً على بؤسهم.
ثانياً : في حلقة يوم 19 أغسطس قال هيكل ما معناه أن ضرب مقر هيئة الأمم المتحدة والصليب الأحمر في بغداد لم بفهم أول الأمر، ولكنه بعد النظر بتروّ في هذه الأحداث أدرك أنه عمل استراتيجي ذكي، القصد منه تجريد الولايات المتحدة الأمريكية في العراق من أي رداء دولي قد يشكل شرعية ما لاحتلالها. إن عقل هيكل الإستراتيجي الجبار الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه قد فسر لنا أخيراً ما وقفنا مذهولين إزاءه، ونحن نعترف أننا لم نتمكن من فك رموز هذه المذابح لولا شروح الراسخين في العلم من أمثال هيكل. فطوبى لهؤلاء القتلة الذين جردوا الولايات المتحدة من غطائها الدولي فتبدت للعالم بأسره قوة احتلال واضحة فاضحة.
ما عاد خلافنا مع هيكل خلافاً سياسياً إيديولوجياً، بل أصبح اختلافاً أخلاقياً محضاً. فإن من يدعي أن قتل موظفي الأمم المتحدة وهيئة الصليب الأحمر عمل استراتيجي يخدم أهداف فئة مقاتلة أياً كان اعتقادها أو قضيتها أو دوافعها، فإنما يبرر بشكل جلي الإرهاب ويدعو إليه، مستخفاً بالحياة البشرية وبكل المواثيق والأعراف الدولية، أي بكلمة بسيطة إن هيكل اليوم يريد أن يختم حياته كفاعل معنوي للإرهاب بعد أن بدأها كفاعل مادي للتضليل الإعلامي.