في رحلة القطار المتجه من العاصمة الهولندية أمستردام إلى العاصمة البلجيكية بروكسيل، التقيت ثلاثة شبان عرب، محترفون في ناد رياضي خليجي لكرة القدم، جاءوا إلى هولندا في إطار دورة تدريبية تحضيرا للموسم الرياضي الجديد، الذي هو على الأبواب، وقرروا استغلال المناسبة لزيارة العاصمة الأوربية في آن، خصوصا وأنها لا تبعد غير سويعات قليلة عن مكان اقامتهم، مدركين مسبقا أن لا وجود لحواجز جمركية أو أمنية قد تعيق حركتهم من دولة أوربية إلى أخرى.
سألتهم عما إذا كانوا قد استمتعوا بزيارة أمستردام، فهي مدينة فريدة من نوعها في العالم، ولعل أهم ما يميزها تلك النزعة التحررية المتوحشة التي عرفت بها منذ نشأتها..قالوا فيما يشبه الاجماع أنها "مدينة بلا أخلاق"، وأضافوا " أن لا شيء في أمستردام يعتبر "عيبا" في نظر أهلها، فكل شيء يكاد يكون مباحا..تلك هي الخلاصة التي خرج بها هؤلاء الشباب العرب الثلاثة عن العاصمة الهولندية، ومن قبلهم عرب كثر زاروا أمستردام، ولم تصدمهم غير "منطقتها الحمراء" التي تحتل القلب منها، ومقاهيها الكثيرة التي تبيع "الحشيش" و"الماريجوانا" دون حسيب أو رقابة.
تذكرت – والشباب العرب يتحدثون عن الأخلاق والعيب- حدثا سياسيا محليا هز العاصمة الهولندية قبل أسابيع قليلة، أدى إلى استقالة أحد الوزراء البارزين في حكومتها المحلية، و جرى تعويضه لاحقا ب"أحمد أبوطالب"، ذلك السياسي العربي الشاب من أصل مغربي، الذي مثل طيلة السنوات الماضية نموذجا ايجابيا يحتذى للأجيال العربية الجديدة الناشئة في الدول الغربية.
لم يكن أحمد أبوطالب هو بيت القصيد في استحضاري حدث أمستردام، رغم غبطتي الشديدة بأي نجاح يحققه أبناء الأقليات العربية في الغرب، إنما كان المقصود الدواعي التي دفعت بالوزير الهولندي السابق إلى الاستقالة..لقد اضطر هذا الوزير إلى مغادرة منصبه الرفيع بعد أن كشفت صحيفة محلية عن قصة تردده على ناد ليلي وشغفه الشديد بمعاشرة العاهرات، وهو ما اعتبر فضيحة جنسية، تحولت إلى فضيحة سياسية، فالذي يتولى منصبا عاما في دولة ديمقراطية كهولندا، يجب أن يدرك أن حياته الخاصة لم تعد ملكه، وأن عليه أن يعد أنفاسه وينتبه إلى خطواته جيدا.
ما هو متاح للمواطن العادي من "عيب" محرم على المواطن المسؤول، فالنوادي الليلية تغص بالزبناء في أمستردام، والدعارة في هولندا عموما مهنة يحميها القانون وينظمها ، غير أن الساسة والمسؤولين الهولنديين ملزمون عرفا وقانونا بأن تكون سيرتهم الذاتية خالية من العيوب والشوائب، بعيدة عن أي تهتك أو استهتار أو إدمان، وهم قبل أن يكونوا خاضعين لرقابة المؤسسات السياسية والأمنية المسؤولة، فهم خاضعون لرقابة صحافة حرة ونشيطة، لا تكف عن التنقيب في ماضي المسؤولين، ناهيك عن متابعة وقائع حاضرهم واستشراف مستقبلهم.
تذكرت أيضا حدثا وقع السنة الماضية في بروكسيل القريبة، فبعد أن فرح العرب بتعيين أول وزيرة في الحكومة الفيدرالية البلجيكية، هي السيدة تمسماني، فوجئ أبناء الأقلية العربية بخبر اضطرار الوزيرة إلى تقديم استقالتهابعد أيام قليلة من اختيارها..لقد كشفت الصحافة البلجيكية أن الوزيرة البلجيكية من أصل عربي لم تكن واضحة تماما عندما قدمت سيرتها الدراسية، فقارئ هذه السيرة يفهم منها أن السيدة تمسماني حاصلة على شهادة جامعية، في حين أن الحقيقة هي أنها تابعت دروسا جامعيا فقط، أي دون أن تختتمها بالحصول على شهادة، وهو ما اعتبرته الصحيفة نوعا من الكذب غير المقبول، فعدم الوضوح يعتبر كذبا في تقييم الصحافة الغربية للمسؤولين السياسيين والإداريين.
الحدث الثالث الذي استحضرته وأنا أمر على كلمات الشباب العربي حول كثرة عيوب امستردام وانعدام اخلاقها، إجبار البرلمان الهولندي الأمير جوهان فريسو ابن الملكة بياتريكس التخلي عن العرش بعد أن قرر الزواج بامرأة من عامة الشعب، كان لأحد معارفها السابقين علاقة بعالم الجريمة المنظمة، وتوفي قبل سنوات في حادث اغتيال مشبوه، فالراغب في تولي المناصب العامة برأي ممثلي الشعب الهولندي يجب أن يكون صاحب سجل ناصع البياض بعيد عن أي شبهة.
إقالة الوزراء وحرمان الأمراء من حقهم في تولي العرش لأسباب أخلاقية مسألة دارجة في الدول الديمقراطية الغربية، والعيب عندهم في الغالب من طبيعة سياسية..العيب أن يكذب المسؤول، والعيب أن يستغل المصلحة العامة لمصالحه الشخصية، والعيب أن يخون متولي المناصب العامة الأمانة التي ائتمنه الناخبون عليها، والعيب أن يستبد الحاكم ويتجاوز القانون ويعذب ويبطش ويزور الانتخابات، والعيب أن يجبن المواطنون ويسكتوا عن ظلم قد يرتكبه المسؤولون في حقهم، والعيب أن يصوت المواطنون بما يخالف ضميرهم وتفرز انتخاباتهم نوابا بلا كفاءة وحكاما بلا أخلاق.
العيب في الغرب أيضا، أن يغش مقاول فيقيم جسورا وعمارات وطرقا ومباني عامة آيلة للسقوط في أي لحظة، والعيب أن يستورد تاجر مواد غذائية منتهية صلاحيتها، كما العيب أن يقبل المسؤول رشوة لتعيين مواطن غير كفء في وظيفة أو يمرر مناقصة أو مزايدة دون وجه حق على حساب المال العام، مثلما العيب إلقاء القاذورات والأزبال في الطريق العام وتخريب الممتلكات العامة وتلويث الحدائق والمنتزهات والقضاء على مناطق الجمال والخضرة.
والعيب عند الغربيين إلى كل هذا، ان تتقاعس وسائل الإعلام عن واجبها في ملاحقة الحقيقة ومراقبة المؤسسات العامة والخاصة، وأن تقصر الحكومة في آداء واجباتها الدستورية والقانونية في الصحة والتشغيل والإسكان والتعليم والدفاع عن حرمة الوطن ومصالحه، وأن يخل القضاة بواجب نصرة المظلومين مهما كانت دونية مرتبتهم الاجتماعية والاقتصاص من المجرمين مهما كانت مكانتهم السياسية أو الاقتصادية.
في مقابل هذا "العيب" السياسي، ينتصب "العيب" الجنسي بالدرجة الأولى في الثقافة والوجدان العربيين، فالعيب في العالم العربي الإسلامي، تماما كما الأخلاق، محورهما الرئيسي الحياة الجنسية، والسفور وحرية العلاقة بين الرجل والمرأة وتمتع النساء بحقوق قانونية واجتماعية وسياسية وثقافية، هي عناوين الانهيار الأخلاقي والسقوط المعنوي للغرب، وللمجتمعات التي تقلده، في نظر العقل الجماعي العربي.
والاحتجاج الأخلاقي لدى الاتجاهات السياسية والفكرية ذات النزعة الدينية في العالم العربي والاسلامي، ينصب بالأساس على تحميل الحكومات مسؤولية سفور المرأة وتفشي العري وانتشار الدعارة وانفلات العلاقات الاجتماعية من الضوابط الشرعية، واعتبار ذلك أس البلاء والسبب الرئيسي في فشل تجارب التنمية والحائل دون معانقة الأمة للنهضة مجددا وأصل التخلف على كافة الأصعدة.
وفي السياق الاجتماعي العربي، لا يربى الأطفال على اعتبار الظلم عيبا والاستبداد عيبا وخيانة الأمانة عيبا وبيع الضمير عيبا وتزوير الانتخابات عيبا وتعذيب المعتقلين عيبا والعبث بالممتلكات العامة عيبا والغش في التجارة والإجارة عيبا وايلاء المصلحة الخاصة على المصلحة العامة عيبا وعدم العناية بالشؤون العامة عيبا والسكوت على الحقوق عيبا والخضوع للأوامر الظالمة والقوانين الجائرة عيبا ومسايرة الفساد عيبا واتخاذ الأعذار والمبررات للطغيان عيبا.
إن التربية الأسرية والعامة في العالم العربي والإسلامي تجعل العيب في نظر الناشئة – كما الأخلاق- مقصورة على جانب صغير يدور حول المسائل الجنسية و الحياة الخاصة، قد يكون نتاجا لتوجه ثقافي أو اجتماعي قابل للنقاش والتأويل، ونتيجة فلسفة تعلي من قيمة الحرية فوق كل قيمة وتجعل من التراضي أساسا لإقامة العلاقات الاجتماعية، وترى في ابقاء الظواهر البشرية تحت مظلة القانون مهما كانت منحرفة خير من عدم الاعتراف بوجودها جراء التصميم على انكارها.
ولئن كان التهتك والعري والدعارة وغيرها من الظواهر المتفشية في المجتمعات الغربية معيبة حقا، فإن من كبائر العيوب أن نجعل العيب مقتصرا على هذه الظواهر فحسب، وأن نختزل الفضيلة في تربية ناشئتنا على الحذر من هذه العيوب والابتعاد عنها، إذ ثمة عيوب في عالمنا العربي والإسلامي أشد وأدهى وأمر وأقسى، ومنها عيب الركون للاستبداد واعتزال الحياة العامة، وعيب الغش والتزوير وخيانة الأمانة، وعيب الاستعداد لدوس الفضيلة وإطاعة الفاسدين في مخالفة الضمير وتجاوز القوانين، وعيب الكذب على المسؤولين أو من أجلهم ومنافقتهم وعدم بيان عيوبهم، وعيب عدم احترام المواعيد والتآمر على الشرفاء والمخلصين، وعيب إطاعة الظلمة والطغاة والديكتاتوريين...
إن أكبر العيوب أن نجعل العيب مقتصرا على نصف الإنسان الأسفل، بينما العيب كل العيب صادر أولا وأخيرا عن النصف الأعلى، حيث العقل الذي هو أولى بالعناية وأبقى، وهو أصل الداء العربي ومكمن سر الدواء.


الكاتبمدير مركز دعم الديمقراطية في العالم العربي - لاهاي