لم يحفظ لنا التاريخ صورا للمعتمد بن عباد وهو أسير بين يدي قوات يوسف بن تاشفين. فقط حدثتنا بأخباره الكتب. من خلالها عرفنا أن الشاعر الذي كان يحكم إشبيلية في القرن الحادي عشر، اقتيد مع أسرته على ظهر مركب انطلق من الوادي الكبير. الحاكم الذي كانت السواقي تجري خمرا في ساحة قصره المفروش بالورود، استقر موكبه الحزين في أغمات حيث أقام مأسورا حتى مات، سنة 1095م. كانت معه زوجته اعتماد الرميكية التي قضت قبله، من المهانة والذل والكمد والحزن. مثلما كانت برفقته بناته اللائي قال عنهن قصيدته الشهيرة:
فيما مضى كنتَ بالأعياد مسرورا فساءك العيدُ في أغمات مأسورًا
ترى بناتك في الأطمارِ جائعة يغزلْن للناس لا يملكْنَ قِطميرا
برزْن نحوَك للتسليمِ خاشعةً أبصارُهنَّ حسيراتٍ مكاسيرا
يطأْنَ في الطين والأقدام حافية كأنها لم تطأْ مسكا وكافورا

في عهد أبي عبد الله الصغير أيضا، لم تكن هناك آلات تصوير. لذلك لم يحفظ لنا التاريخ صور آخر ملوك الأندلس وهو يطرد من غرناطة، ذليلا مهزوما. ماعدا رسوم فنانين مستشرقين، أمثال دولاكروا، فيها من فتنة الخيال أكثر مما فيها من مرارة الحقيقة... لحسن حظك يا أبا عبد الله المهزوم. العباسي الأخير الذي فتك به التتار وقوضوا على ظهره الخلافة العربية في بغداد، أيضا، لا أثر لصوره أسيرا وقد قتل ابناه أمامه... هؤلاء كلهم محظوظون، لأنهم جاؤوا قبل ظهور آلة التصوير. لذلك حفظ التاريخ حكاياتهم بنوع من الحياد.
صورة عزيز قوم ذل مثيرة دائما، ولا تمحي من الذاكرة بسهولة. وليس هناك ما يخلد المهانة وسوء العاقبة وخيبة المصير، أفضل من الصورة. تشهد على ذلك الوصلة الإشهارية التي قدمتها أمريكا للعالم تحت عنوان: كيف تحول رئيس دولة جبار إلى كلوشار في بضعة أشهر؟
لاشك أن الناس إذا ما نسوا جميع صور الرئيس العراقي المهزوم، لن ينسوا صورته بلحية رمادية مشعثة ونظرات بلهاء. إنه إنجاز غير مسبوق. لأول مرة تلتقط صور تذكارية لرجل في المزبلة الشهيرة : مزبلة التاريخ !
لانعرف ماذا سوف يكون مصير أبي عدي التكريتي. لكن واضح أنه محظوظ لحد الآن لأنه يقبع في زنزانة تحت سيطرة الأمريكيين. لو خرج للشارع لنهشته أيدي العراقيين وهرشته، كما تفعل بأي جرذ. لقد تألم العرب عندما شاهدوا الديكتاتور الذي كان يرعب الذباب في السماء، ذليلا بين أيدي الأمريكيين. كثير منهم شعر بالإهانة وبالتعاطف مع طاغية بغداد. ببساطة، لأنهم أحسوا بعجز مضاعف. ما رفضه ملايين العرب، كالعادة، هو رؤية وجوههم في المرآة. لم يقبلوا مشاهدة جلادهم القوي، ضعيفا على ذلك النحو، على يد غيرهم !
من دون صور، كانت الحروب أقل بشاعة وقسوة. كانت تبدو لنا كذلك، على الأقل، نحن الذين دأبنا على استهلاكها عن بعد. نحن الذين كنا نشاهدها عبر التلفزيون وفي الجرائد والإذاعات، كما لو كنا نتفرج على فيلم حرب أمريكي مثير. نتذكر الآن بكثير من النوستالجيا بداية حرب الخليج الأولى، كيف كنا ننتظر أن يلحق صدام العظيم هزيمة مدوية بجنود الحلفاء. تظاهرات حاشدة وملايين المغفلين يهتفون: يا صدام يا حبيب...دمّر دمّر تل أبيب
كان موقف معظمنا عاطفيا وسخيفا، غذته الحرب الإعلامية الأمريكية وشح المعلومات التي كانت تسقط علينا قطرة قطرة، حسب هوى السياسيين !
بسبب الصور والقنوات الفضائية التي تمطر كل بيت بوابل من الأخبار، باتت حروب اليوم مكشوفة للعيان، واضحة وشفافة حد الفظاعة. إلى درجة أن جداتنا اللائي لم يجلسن يوما على مقعد دراسي ولم يتصفحن جريدة، بتن يعرفن تفاصيل الصراع العربي الإسرائيلي أفضل مما كان يعرفه ألمع مناضل يساري أيام المد الثوري العربي. جدتي اليوم تملك معلومات لم تكن بحوزة أي من المتدخلين المحترفين في حلقية "القضية الفلسطينية" الشهيرة التي كانت تعقد سنويا في كل الجامعات والمعاهد المغربية، في إطار الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، وتدوم أسابيع وشهورا. بفضل ثورة الاتصال وتنوع مصادر الإعلام بات الجميع يعرف تفاصيل العلاقة بين تيارات منظمة التحرير وبين القوى الإسلامية، وعلاقة الليكود بالعمل وبحزب شاس وصراع شارون مع نيتانياهو، دونما حاجة لمجلة الهدف والكتب الصفراء والكوفيات...لقد مضى إلى غير رجعة ذلك الزمن الأصفر، التي كانت فيه المعلومة حكرا على حفنة صغيرة من المتسلطين. لم يكن ثمة إنترنيت ولا هاتف محمول ولا قنوات فضائية و لا صور تطوف العالم بشكل مباشر وحي.
وبسبب كل ذلك أيضا، صارت مشاهد القتل والدمار أليفة جدا. نأخذها مع الفطور ومع الغذاء ومع العشاء، وقبلهم وبعدهم، ومتى شئنا. ولعل من مازالت نفسه تطاوعه ليشاهد أخبار القنوات الفضائية، يقف هذه الأيام على الفظاعة التي وصل إليها بنو آدم. لقد عادت البشرية لتجدد الصلة بعهود بربرية سحيقة. هؤلاء جنود إسرائيليون يدمرون المنازل ولا يرحمون البشر ولا الشجر ولا الحجر، وأولئك جنود أمركيون تأثروا بأفلام البورنو والسادومازو، وقرروا تجريب ما شاهدوا على عراقيين أبرياء في معتقل أبي غريب، وهذه جماعات مسلحة تطلع علينا كل مساء بشريط جديد حيث أفراد ملثمون يحملون رشاشات ويهددون بقتل رهينة. الرهينة يكون عادة أمامهم معصوب العينين، يقفز مثل ديك مرعوب بين يدي ذابحيه. ومع صعوبة الوصول إلى العدو أصبحت بعض الجماعات تلجأ إلى خطف الأصدقاء. لا يهم أن يكونوا معي أو ضدي. لا فرق بين أمريكي ومصري وفرنسي ولبناني ونيبالي وعراقي، ولا فرق بين عسكري وصحافي وسائق شاحنة وعاملة في منظمة إنسانية... المهم أن نجد ما يكفي من رقاب للاحتفال. المهم أن يسيل الدم...
مرحبا بكم عند البرابرة الجدد… واضحكوا أيها العرب...اضحكوا لتطلع الصورة حلوة …في المزبلة!


[email protected]

انقر على ما يهمك:
عالم الأدب
الفن السابع
المسرح
شعر
قص

ملف قصيدة النثر
مكتبة إيلاف