في هذه الأزمنة، برزت علينا أنواع جديدة من أساليب النّضال الإسلاميّ ما كنّا نعرفها ولم تكن مستخدمة من قبل على مدى تاريخ الإسلام والمسلمين، أعني بها العمليّات الانتحاريّة المصبوغة بقدسيّة إيديولوجيا "الاستشهاد". وكذلك خطف الرّهائن المدنيّين العزّل من صحفيّين وعمّال وأطفال مدارس وهلمّ جرّا...
أمّا في ما يتعلّق بأسلوب النّضال الانتحاريّ، فهو عمليّة قتل عشوائيّ تثير كثيرا من التّساؤلات : لماذا كان الانتحار في الدّيانة الإسلاميّة، وعلى مرّ الأزمنة، ظاهرة سلبيّة وخطيئة كبرى، واليوم تستقبل في نطاق الإسلام السّياسيّ كظاهرة إيجابيّة تحظى بالحفاوة والتّبجيل؟ أي لماذا استقبلت في الدّيانة الإسلاميّة المعاصرة ومن قبل القائمين على شؤون المقدّس وصنّفت ضمن الوسائل الشّرعيّة للكفاح، دون أيّ نقد ودون أيّ نقاش فقهيّ أو أخلاقيّ؟ ولماذا أصبح الطّلب على الموت يفوق العروض من الحياة؟
ولماذا تتكرّر مقولة "إنّنا نحبّ الموت كما يحبّ أعداؤنا الحياة من قبل الحركات الإسلاميّة، ولماذا أضحت كلشيه كثير الحضور في الخطاب الإسلاميّ النّضاليّ؟ وهل يمكن أن تحقّق ظاهرة الانتحار بقصد القتل الجماعيّ هدفا سياسيّا جديرا بهذه الفظاعات؟ ولماذا انعدمت الدّهشة عند الجماهير لدى سماع أو مشاهدة هذه الأعمال، بل إنّ كثيرا منهم يصفّقون لها ويزكّونها؟
كلّ هذه الأسئلة لا تسأل، وإن تمرّدت على الشّفاه وطرحت، فهي التي تحظى بالدّهشة والاستنكار. لا تحظى بمشروعيّة الطّرح على مسامع هذه الأمّة وإنّما مصيرها أرفف مخزن المسكوت عنه.
إنّ البانوراما العربيّة الإسلاميّة اليوم تبدو بائسة كما لم تكن في أيّ عصر من العصور، إذ صار العربيّ يرتبط ارتباطا شرطيّا في ذهن العالم بقتل الأطفال وذبح العزّل من الصّحافيّين والعمّال والسّائقين الذين ألقى بهم عوزهم إلى إلقام أطفالم وذويهم خبزا يعجن بالعرق وينضج في تنّور العراق المستعر.
هذه الصّورة المزرية هي صورة العربيّ والمسلم وستبقى كذلك شاخصة في ذهن العالم ولفترة زمنيّة طويلة.
إنّ العرب ما عادوا يشتغلون بالسّياسة، التي هي فنّ الممكن، وفنّ التّخيّر بين السّيّء والأسوإ، وإنّما أصبحوا يمارسون جاهليّة الثّأر القبليّ بهدف إشفاء الغليل، حتّى ولو نتج عن ذلك هلاكهم وضياع أوطانهم.
إنّ شعوب العالم كلّها قد تقاتل العدوّ باسم الوطن، وباسم المصالح الموضوعيّة لمواطنيها، لأنّ مواطنيها يهدفون إلى إقامة حياة أفضل على الأرض، لذلك فهم يضحّون بحياتهم من أجل الحرّيّة ومن أجل الدّيمقراطيّة ومن أجل الرّفاهية، أي يضحّون بالحياة من أجل الحياة. أمّا العرب والمسلمون، فإنّهم يقاتلون باسم اللّه، أو بالأحرى يقتلون باسمه، لمصلحة الآخرة، وطمعا في الحوريّات والنّعيم المقيم. وليس أدلّ على ذلك من حفلات الزّفاف التي يقيمها الانتحاريّ قبل هلاكه استعدادا للدّخول بحوريّات الجنّة وبالكواعب الأتراب فور موته وقتله بشرا قد يكونون من بني جلدته ومعتقده، كما هو الحال اليوم في العراق.
إنّ أمّة تتغزّل بالموت وتعشق العدم لهي أمّة آيلة إلى الزّوال طال الزّمن أم قصر.
إنّ الإنسان الغربيّ اليوم ما عادت تتملّكه الشّفقة عند رؤية أشلاء العرب المتناثرة على أرصفة مدنهم البائسة بقدر ما تعتوره الشّفقة عند رؤية جثّة كلب مدهوس في شارع من شوارع عاصمة غربيّة، لأنّنا استرخصنا أجسادنا وبخسنا حقّ أرواحنا، واحتقرنا الحياة ومجّدنا الموت.
إنّ الغربيّين ينظرون إلى هذه الدّماء والأشلاء بنظرة الاشمئزاز، وهذا يعني أنّنا استطعنا أن نحوّل مشاعر الإنسانيّة من الشّفقة إلى الغثيان، وهذه إحدى الإنجازات العربيّة الكبرى في العصر الحديث
هنا نريد أن نطرح هذا السّؤال : هل الإسلام هو الذي أوصى معتنقيه بهذه الوصايا؟ ولكي نجيب عن هذا السّؤال، يجب أن نقول إنّه لا يوجد إسلام واحد لأنّ الإسلام يتجلّى بسلوك معتقديه، وإنّ معتقدي هذا الإسلام الدّمويّ اللاّإنسانيّ هم أتباع أولئك الذين اختطفوا الإسلام واحتكروا تفسيره وتأويله، واستعملوا الفتوى عوضا عن القانون، واستعبدوا المسلمين ببسملاتهم وعنعناتهم، من أمثال القرضاوي، والتّرابي، والغنّوشي... وهؤلاء ما هم بفقهاء الإسلام، بل هم فقهاء العدم.