*كشف كتاب " الحرب الباردة الثقافية " الدور الإمبريالى للمراكز الثقافية.
*الملحقيات أصبحت رأس الرمح فى حروب العولمة الثقافية.
*تم إختزال صورة العربى فى المخيلة الغربية فى ثلاث مفردات.
*النيل من المملكة " سياسياً " هو إستهداف لقيمتها الرمزية.


قبل عام قادتنى ظروف عمل خاص إلى جمهورية الصين الشعبية، وكانت سانحة ترافقت مع إنعقاد مؤتمر علمى وجدتنى أشارك فيه. وخلال تلك الزيارة سعدت بزيارة سـفارتنا، حيث قضيت وقتاً ممتعاً مع صديقنا الدكتور / محمد البشر سفيرنا بالصين، تخلله نقاشات مثمرة ومفيدة عن الصين والتحولات السياسية والإقتصادية والإجتماعية التى تشهدها.

ضرورة إسـتراتيجية:
لا أدرى لماذى خطر بذهنى السؤال عن من يشغل منصب الملحق الثقافى بسفارتنا ؟. إلا أن إجابة سعادة السفير بأنه لايوجد من يشغل هذا المنصب، لأنه لايوجد بسـفارتنا ملحقية ثقافية، أثارت عجبى. وزادت دهشتى عندما سألته عن السبب، فأجاب بأننا لا نملك طلبة من دولتنا بالجامعات الصينية !.
تعجبت لأن الملحقيات الثقافية لا يقتصر دورها على الإشراف والإهتمام بشؤون الطبة الذين تبتعثهم الدولة، أو يبتعثهم ذووهم للدراسة فى تلك الدولة، بقدر ما يشكل هذا واحداً من وظائفها.
بل يكاد ـ فى حال وجود عدد كبير من رعايا الدولة كدارسين ـ أن لايكون من ضمن عمل الملحقية الثقافية رعاية شؤونهم، إذ ستخصص وزارة الخارجية فى هذه الحالة، إدارة خاصة منفصلة لذلك تحت مسمى " الملحقية التعليمية " أو " البعثة التعليمية "، حسب مستوى ونوع وكم هذا التعاون التعليمى.
أما وظيفة ودور الملحقية الثقافية، فأمر مختلف تماماً.
ونستطيع أن نجد أمثلة على هذا كثيرة..
ترى كم هو عدد الطلبة الأمريكان أو الإنجليز أو الفرنسيين أو الصينيين الذين يدرسون بجامعاتنا ؟..
ورغم هذا فإن لسفارات هذه الدول ملحقيات ثقافية.
فما هو دورها ؟..
بما أننا لاندعى الإطلاع على " النوايا " الخفية لهذه الدول فى تخصيص ملحقيات ثقافية فى سفاراتها بالمملكة، أو فى أى دولة أخرى ـ خارج المنظومة الثقافية والسياسية للغرب ـ فإننا سنكتفى بما يعلنونه هم من دوافع وأهداف، وما تشهده أعيننا حين ترصيد ـ ولو على السطح ـ حركة أفراد هذه الملحقيات.
إذ تراهم يقيمون العلاقات بالجامعات ومؤسسات ومراكز الأبحاث ذات الصبغة العلمية والأكاديمية والثقافية، ويسجلون زيارات لدور الصحف، ويحاولون أن يفتحوا قنوات التواصل وإقامة العلاقات مع العاملين بهذه المؤسسات، ويشاركون فى الندوات واللقاءات التفاكرية وغيرها من هذه النشاطات.
والهدف فى كل ذلك هو الترويج لصورة معينة لبلدانهم من خلال وسائط ثقافية، وإعلامية، وبالإتصال المباشر أيضاً، وذلك لترسيخ صورة معينة عن بلدانهم وشعوبها وثقافتها، تجعل من تفهم وجهة نظرهم من كافة الأحداث أمراً ممكناً، إن لم يكن لصانعى القرار هنا، فعلى الأقل للصفوة، التى بدورها تؤثر فى الرأى العام.
ومن يقرأ كتاب " الحرب الباردة الثقافية " الذى أحدث ضجة مؤخراً ليس فى عالمنا العربى وحده، بل وفى العالم كله، يدرك مدى خطورة وفاعلية الدور الذى يمكن أن تلعبه المراكز التعليمة التى يتم ربطها بطريقة لامباشرة بسياسات الدول، التى تستخدم هذه المراكز الثقافية كأسلحة متقدمة فى حربها الأيدلوجية وكسب الجولات الفكرية.
والحال أننا فى المملكة كنموذج للدول الإسلامية والعربية ـ لانطمح، ولا نرغب، فى توظيف ملحقياتنا الثقافية هذا التوظيف الإمبريالى، ولا نريد أن نغزو أحداً ما غزواً فكرياً، ولا نفكر فى السيطرة الفكرية على الآخرين.
بل على العكس، نحن المستهدفون بالغزو والمهددون بالسيطرة. ونسعى جاهدين كى ندرأ عن مجتمعاتنا هذا الخطر. وأعتقد أن واحدة من أهم الوسائل فى ذلك هى هذه الملحقيات.

المفـردات الثـلاث:
فنحن نعيش فى عالم يتجه للعولمة الشاملة، بل هو يسبح فى محيط من العولمة التى أصبحت واقعاً الآن.
وفى ظل هذه العولمة، فإن المستهدف الأول هو الخصوصية الثقافية للدول والشعوب والمجتمعات. بمعنى أن التنميط الإقتصادى والصناعى والتجارى والإستهلاكى فى العالم الجديد لن ينجح إلا إذا تم إلغاء هذه الخصوصية.
فالعواصم فى العالم المعاصر أصبحت متشابهة، بل ومتماثلة، سواءً من حيث تخطيطها، أو شكل بناياتها وطابعها المعمارى، وفى المحلات، الشركات متعددة الجنسيات التى تملأ شوارعها، وتقدم أطعمة ومشروبات متماثلة، وفى تصميم ولغة إعلاناتها المضئية.
وفى خضم هذه العولمة التى تجرى على قدم وساق، ما الذى يعرفه الغرب الأوروأمريكى عنا ؟ ما الصورة السعودية فى مخيلة الإنسان الغربى ؟؟.
لقد تم إختزالنا فى ثلاث مفردات تشكل، من ناحية، صورتنا، ومن ناحية أخرى هى العناوين التى تدل علينا وهى: الأماكن المقدسة، والنفط، والإنسـان.
وإذا ما أخذنا كل مفـردة من هذه المفـردات، وحللنا ظلها على صورتنا فى مخـيلة ووجدان الآخر/الغربى الذى تربطنا به علاقات متشابكة: سياسياً وإقتصادياً وثقافياً وإجتماعياً، ولكنها علاقة متوترة، غير مستقرة. حينها سنعرف ما الذى يعنيه وجود ملحقيات ثقافية للمملكة فى بلدان العالم المختلفة.
ولنأخذ الحرمين الشريفين كعنوانيين على المسلمين كافة، وعلى السعودية كبلد بشكل أخص.
فهما بالنسبة للمسلم فى أى مكان من العالم يلقيان بظلال إيجابية فى نظرته للإنسان السعودى، كمواطن فى بلد أختصه الله دون الأرض جميعاً ببيته الحرام، وبقبر أكرم خلقه.
إلا أن الغرب ـ الأوروأمريكى ـ وقد إستطاع أن يسحب معه العديد من دول العالم الثالث والعاشر أيضاً ـ أخد يتعامل مع الإسلام والمسلمين ـ بالتالى ـ كأعداء، ليس له وحده، بل وللحضارة، والعالم كله، من خلال تهمة الإرهاب..
هذا المصطلح الهلامى دلالاتاً ومفاهيماً، والمفصل جيداً على مقاس الإسلام والمسلمين.. وعلى كلٍ فإن من شأن الغرب، أن يخلق العدو إن لم يجده.
وحسب هذا الطرح الإيديولوجى الجديد كان ولابد أن تحتل المملكة موقع الصدارة فى لائحة الأعداء، بإعتبارها حاضنة هذه الهبة الإلهية أو المحظية بهذا الكرم الإلهى كقبلة تهفو لها قلوب المسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها، لوجود المقدسات الإسلامية على أرضها..
ومن هنا فإن النيل " سياسياً " من المملكة إنما هو فى جوهره إستهداف لقيمها " الرمزية " كقبلة للمسلمين.. وقد إقترح أحدهم بالأمس القريب أن تضرب مكة المكرمة بقنبلة نووية..
ولذا توصف المملكة ـ ككيان سياسى ـ بالممول للإرهاب والراعية الأولى له من خلال مؤسساتها الخيرية... الخ من هذا الهراء، خاصةً حين يخلط هذا بمواقف المملكة المبدئية الداعمة للحق العربى فى فلسطين وقيادتها لهذا العمل عربياً.

مابين الشـهوانى والتطهرى:
أما المفردة الثانية ـ ولعلها الأولى من منظور آخر ـ فى العنوان السـعودى غربياً فهى النفط.
هذا النفط الذى، ومنذ كشـر عن أنيابه إبان حرب 1973 كسلاح إقتصادى سياسى إستراتيجى، أصبح هو بؤرة التخطيط السياسى الإستراتيجى فى الغرب، وفى الولايات المتحدة تحديداً والتى كانت تقود الغرب فى حربها المقدسة آنذاك ضد المعسكر الشيوعى.
وقد أكرم الله ـ ثانياً ـ هذا البلد بأن جعله الأمين على المخزون الإحتياطى النفطى الأكبر فى العالم، وإن كانت المنطقة كلها بهذا القدر أو ذاك من هذا المخزون.
ويجرى فى أمريكا الترويج من قبل مراكز القوى والضغط ـ وهى صهيونية فى الأصل ـ لفكرة أن أرواح الناس فى أمريكا، إنما هى فى قبضة صاحب القرار السعودى، وبالتالى فإن المحافظة على بقائهم أحياء، يتمتعون بالرفاهية تستلزم السيطرة على منابع النفط.
وحين تبدى المملكة ـ مثلاً ـ إحتجاجها على الإنحياز الأمريكى المفضوح لإسرائيل التى تقوم بعملية إبادة منظمة وممنهجة للشعب الفلسطينى، وتحاول بشتى الطرق السياسية والدبلوماسية، لعب دورها الطبيعى كدولة ذات ثقل إسلامى نوعى وموضوعى فى العالم. تهب القوى الصهيونية فى أمريكا نابحة لتنشر الرعب فى قلوب المواطنين الأمريكان، وهم أساساً يجهلون ما يدور خارج أسوار بيتهم الأمريكى، وتتعالى الأصوات: النفط.. النفط !!
ونأتى إلى المفردة الثالثة وهى: الإنسان الخليجى، والسعودى تحديداً.
نحن نعرف كلنا ماهى الصورة النمطية للإنسان الخليجى عامة والتى تم تكريسها فى الإعلام الغربى وفى وسائط الثقافة الجماهيرية. حيث تم تكريس صورة: الثرى المبذر الجشع الشهوانى. وقد تم الإلحاح على هذه الصورة فى الأفلام والمسلسلات والروايات والمذكرات المزورة بشكل متواتر، حتى تم ترسيخها تماماً.
وللأسف فقد أستغلت أخطاء البعض ممن لاتخلو منهم أمة أو مجتمع مهما بلغ طهـره الأخلاقى، لتأكيد هذه الصورة وترسيخها.
وبعد أحداث سبتمبر أضيفت لها صورة نقيض، يجرى تسويقها والترويج لها عبر أجهزة الإعلام، وهى صورة أسامة بن لادن ومن هم معه ممن كانت تدعمهم أمريكا إبان حربها ضد السوفيت فى أفغانستان.
وتختلط الصورتان فى الذهن الأمريكى، أو ذهن المواطن الأمريكى ويظل مشدوداً ما بين الثرى الشهوانى، والثرى الأصولى المتطرف.
ما بين الذى يبدد الأموال بسخاء أخـرق.. وذلك الإسـتشـهادى المتطهر الذى يزرع الرعب والموت !!.
هذه هى المفردات التى تشكل الصورة العامة، أو التى أراد لها الإعلام الصهيونى، أن تشكل صورة السعودى فى مخيلة المواطن الأمريكى، إن لم نقل الغربى، فثمة أسباب موضوعية تجعل أروبا أكثر تفهماً، ونظرتها أكثر واقعية من هذا الهـراء الذى يجرى ترسيخه فى أمريكا.

مسـؤولية تاريخيـة
مثل هذه المعطيات تحتاج إلى عمل سياسى ضخم، لايركز على مخاطبة الساسة فى العواصم الغربية والآسيوية والأفريقية، ولكن عمل يتم عبر مؤسسات المجتمع المدنى، ويعمل بالتنسيق أيضاً مع المؤسسات الحكومية، وفى الجامعات، ومراكز الأبحاث العلمية، ليعكس الوجه الآخر أو الجه الواقعى الحقيقى للمملكة كدولة.. والإنسان السعودى كإنسان.
وهنا تستطيع أن تلعب الملحقيات الثقافية دوراً متعاظماً.
ففى دولة كصين مثلاً ـ وهى مناسـبة هذا الحديث ـ حيث تربطنا بها علاقات تمتد على آلاف السنين، ويربطنا بها إرث حضارى مشرقى مشترك..
مثلاً نحن نعرف أن الصين تتقدم فى صناعة التكنولوجيا بخطوات واسعة، ويتوقع الصينيون بعد عقدين أن يكونوا من الأرقام المتقدمة فى صناعة وتجارة تقنية الإتصالات.. وأن الصين أصبحت مفتوحة سياسياً وإقتصادياً على العالم، وأنها تقيم علاقات تبادل فى مجال تصنيع التكنولوجيا حتى مع إسرائيل، فلماذا لا نفتح أبواب التعاون والتبادل العلمى والثقافى معها فى مجالات التدريب، والتعليم التقنى والفنى، وإقامة المراكز الثقافية بين البلدين ؟.
فإذا وضعنا فى الإعتبار أننا مسؤولون عن نشر الإسلام والثقافة العربية والإسلامية، وأن فى الصين ملايين المسلمين، فلم لانكثف النشاط بينهم عن طريق المراكز الإسلامية لوصل حبال الأخوة بينهم وبين أخوانهم المسلمين هنا، وفى العالم ؟. أوليس هذا واجباً دينياً لايسقط ؟.
وما يُقال عن الصين ينطبق على أى بلد آخر فى العالم تدعونا ظروفاً معينة على تخصيص ملحقية ثقافية فى سفارتنا به، فى أى قارة من قارات الدنيا.
ليس درء الشبهات، وتفنيد الأكاذيب وحدهما ما يجب أن تقوم به ملحقياتنا الثقافية.. ولكن أيضاً التعريف بنا للعالم، وإقامة جسور التواصل والتعاون الثقافى بيننا وبين الشعوب والحكومات، ما يمكن أن تقوم به هذه الملحقيات.. وقبل هذا وذاك نشر ثقافتنا.. ثقافة السـلام.
خلاصة القول: أننا بلد بقدر ما أكرمه الله بمقدساته وبخيراته الطبيعية، بقدر ما وضع على عاتقه مسؤوليات جسام، لحماية الإسلام من كيد من يكيدون له وللمسلمين.
وأننا يجب أن ننهض بهذه المسؤولية مهما بدت كبيرة، وثقيلة وشاقة، فبعون الله نحن أهلاً لها..
وأن الحرب اليوم ـ فى ظل العولمة ـ أصبحت حرباً ثقافية فى المقام الأول، وأن واحدة من الوسائل التى يجب توظيفها فى هذه المرحلة هى الملحقيات الثقافية التى ستقوم بعملية الإستكشاف من خلال إتصالها الثقافى بالمراكز الثقافية الأهلية والحكومية، والمراكز العلمية والأكاديمية..
فهلا أعطيناها بعض حقها لنقوم بدورها ؟.

والله الموفق،،،


أكاديمي و كاتب سعودي
[email protected]