حين بدأ تطبيق قرار الحصار المفروض على العراق بالنظر لتعنت السلطة البائدة وأصرار الرئيس البائد المقبوض عليه لاحقاً على عدم الأنصياع والأستجابة للقرارات الدولية، عانى المواطن العراقي معاناة غير سهلة من خلال تناقص الضروريات في الحياة العراقية، وأستمرار تدفقها ووجودها لدى السلطة العراقية الدكتاتورية البائدة.
وبدأت عمليات التهريب المنظمة التي تقوم بها السلطة العراقية الصدامية تحت شتى الأسماء والواجهات، وتم أخراج مليارات الدولارات من العراق الى الخارج بأسماء مختلفة وعمليات غسيل متعددة ومعروفة، لتشكيل خزين مادي خارج العراق لمعالجة الظروف الطارئة التي قد تحدث للعائلة الصدامية الحاكمة في العراق، وتعاونت في هذا الأمر شركات عالمية وقوى دولية وشخصيات وبنوك ومافيات تهريب وعصابات نقل الأموال وغسيلها وبالأضافة الى عصابات الجريمة المنظمة التي تعاونت معها سلطة بغداد منذ بواكير أستيلاء صدام – البكر على السلطة.
ولم تعتمد السلطة العراقية البائدة على هذا الأمر، انما قامت بنشر أشاعات تفيد بأن الدولار الأمريكي تم أبداله ونشرت نداء وأخبار أعلامية لتبديل الدولار بالعملة العراقية، وفعلاً بادرت الناس لتبديل الأوراق النقدية من الدولارات الأمريكية في المصارف العراقية وبأسعار متدنية وبورق لاقيمة تبادلية أو دولية له، وأستطاعت السلطة أن تمتص المبالغ الصعبة الموجودة في حوزة المواطنين بهذه الأساليب الرخيصة التي لاتقدم عليها سوى مواخير العهر أو عصابات السرقة والنشل.
وسيطرت العائلة الحاكمة على موارد البلاد وتحكمت في العديد من شركاته وخطوطه الصناعية حتى صار العراق ليس فقط سياسياً ولاعسكرياً وأنما أقتصادياً وتجارياً مملوك صرفاً لهذه العائلة المتصفة بجوع الروح والتي لم تشبعها خزائن العراق.
وبعد أن مضت سنوات عجاف تحملها المواطن العراقي على مضض، مارست السلطة البائدة عليه حصاراً منهكاً وقاتلاً يبدأ في رفع ضريبة السفر الى خارج العراق الى مايقارب 400 الف دينار، وهو مبلغ كبير بالنسبة للمواطن العراقي وليس انتهاءً في الرشاوى التي نخرت دوائر الدولة بتوجيه وتخطيط من قيادة هذه السلطة، وحين أستجابت السلطة للقرارات الدولية وأقرت بالموافقة والسماح للمفتشين الدوليين بالحضور الى العراق للتفتيش، تم أقرار برنامج تصدير النفط مقابل الغذاء والدواء.
وحين سمحت الأمم المتحدة للعراق تصدير النفط العراقي مقابل أستيراد حاجاته الأساسية والضرورية في الدواء والغذاء، فأن صدام وأولاده مارسوا التهريب العلني للنفط سواء عن طريق الشاحنات البري الى تركيا أو الى الخليج عبر شط العرب والخليج العربي أو الى آيران، غير أن مايلفت النظر ويثير الأستغراب أن عمليات التهريب كانت تجري تحت أشراف ممنثلي الأمم المتحدة وقبولهم مقابل عمولات وصفقات، وكان يجري تمريرها على القوات الأمريكية والبريطانية المكلفة بتدقيق عمليات ضخ النفط وأصولية بيعه ومقايضته بصمت يشوبه الشك والريبة في معرفة هذه القوات بحقيقة كون النفط يجري تهريبة لصالح رأس النظام شخصياً وخارج عملية النفط مقابل الغذاء والدواء، ودون أن توقف الولايات المتحدة الأمريكية أو بريطانيا هذه العمليات مطلقاً، مما يوحي بأن لها ضلع في الموافقة على أستفادة الدكتاتور من عائدات تهريب النفط دولياً.
وبقيت قضايا التهريب تتسع وتكبر، والطاغية يوسع من مخططة ووسائله وترتيباته الأمنية منذ صدور قانون تحرير العراق، والغريب أيضاً أن صدام كان يهيء نفسه في رصد المبالغ الخيالية بشراء الذمم والضمائر بكوبونات النفط أو برشاوى كبيرة وصلت الى حد تقاضي رؤوساء دول وأحزاب قسم من هذه الرشاوى منذ العام 1991 وحتى قبل سقوط النظام الصدامي في نيسان 2003.
وكان الطاغية العراقي يوسع من عطاياه وأنفاقه ملايين الدولارات على الصحف والأحزاب والشخصيات، ويوزع قسائم النفط ويمنح النسب من المبيعات وينشر شبكته المخابراتية مثل خيوط العنكبوت، فيتم صناعة جمعيات المغتربين وأزلام السفارات وأعداء الحصار على العراق، ويتم رسم خيوط واهية تحت يافطات عديدة جميعها بأموال العراق وتحت أنظار الأمم المتحدة والقوات الأمريكية والبريطانية المتجحفلة في مياه الخليج العربي وفي قطر وتركيا، وليس غريباً أن يتم خلط الأوراق وذر الرماد في عيون المواطن العربي البائس الرازح تحت رحمة أعلام الدجل العربي.
وحين تبدأ الأمم المتحدة في لعبة التفتيش مع السلطة العراقية البائدة والتي تشبه لعبة الأطفال في الأخفاء والأختباء، تصاحب ذلك مشاركة علنية للأجهزة التابعة للمنظمة الدولية مع السلطة الصدامية في السماح لها بتمرير صفقات دنيئة القصد منها الربح غير المشروع بهدف أيصال مواد غذائية تالفة وأحياناً رديئة الى العراقيين تحت ذريعة الغذاء، وفي أيصال أدوية منتهية الصلاحية ورديئة الفاعلية تحت ذريعة الدواء، ودون شعور بالذنب ودون محاسبة أو مراجعة وتحقيق لما حل بالأنسان العراقي من موت ودمار وخراب.
ولم تكن المنظمة الدولية ولا الولايات المتحدة جادة في محاربتها وعدائها لصدام والزمرة الشريرة الحاكمة في العراق معه، ومن يراجع تلك الفترة يلمس عدم جدية الأجراءات التي مورست من قبل الجهات المذكورة، وعدم فاعلية القسم الآخر منها في تأثيرها على السلطة الدكتاتورية، أذ يتفق الجميع أن التأثير الفاعل والحاد كان يظهر على أبناء الشعب العراقي، أذ بدأ التأثير المدمر على الحياة العراقية وظهر التخريب المتعمد لمجمل الحياة العراقية يصاحب ذلك بقاء السلطة الدكتاتورية متنعمة وسالمة وتبسط سطوتها وقوتها وجبروتها على العراقيين بقسوة لم يشهد لها التاريخ من قبل.
كانت القوات الأمريكية في قطر وفي المملكة العربية السعودية أو في الكويت أو في تركيا تعرف تحرك السلطة الصدامية دون أن تتحرك ودون أن تعرقل حركة السلطة وأنتشارها مثل الأميبيا أو الأخطبوط خلال الفترة التي سبقت أسقاطها لضرورات سياسية وتنفيذا لسياسات دولية تمليها المصالح والتخطيط البعيد في المنطقة.
وأذ تم أسقاط سلطة الطاغية العراقي الا أن المشهد العراقي مليء بالألتباس ومليء بالأسئلة الكبيرة والأتهامات والشكوك التي لم تجد جواباً أو نتائج يمكن الركون اليها، فقد ظهرت قضايا عديدة على السطح العراقي أشبه ماتكون بالأدوار المسرحية والحركات التمثيلية، والمتابع يجد في الوضع المرتبك وغير المستقر الذي صار اليه حال العراقيين بعد سقوط السلطة الدكتاتورية يلمس مدى الأفتعال والتعمد في صيرورة هذا الوضع، كما أن تمكين القوى الأرهابية والشريرة من التجمع في العراق والسماح لها بالتسلح وتمكينها من مد الخطوط مع الفضائيات لايمكن لعاقل أن يصدق عفويته ومعاداته للمحتل الأجنبي.
الصور المشوشة في تمكين أقطار تقع تحت الهيمنة الأمريكية والسطوة الأسرائيلية تضع نفسها في خدمة بقايا النظام الساقط والبؤر الأرهابية، والصور المشوشة في تعمد الأدارة المحتلة الى التدخل الفظ في أدارة الشأن العراقي، والصور المشوشة في تمكين الأحتلال من نقل عائلة الطاغية وأزلام العهد البائد مع الأموال العراقية المسروقة الى دول الجوار والتوصية بالمحافظة عليهم، والصور المشوشة في أستغلال الدين الأسلامي والتعمد بأظهاره بالشكل البشع الذي يقوم بأداء هذا الدور التنظيمات الأسلامية المتطرفة والهمجية في تعمد تصوير مناظر الذبح وجز الرؤوس والأعدامات ليس فقط للأجانب الأبرياء من المدنيين، وانما طال القتل أبرياء مدنيين من العراق ومن مختلف الديانات الأخرى في العراق.
والصور المشوشة بعد ذلك في البؤر التي تتعمد القوات المحتلة أن تجعلها دائمة السخونة والأشتعال، والصور المشوشة في أن تكون مناطق عراقية مقرات للزرقاوي ولتنظيمات متطرقة ومجموعات أرهابية برعاية أمريكية تحمي البيوت التي تأوي المخطوفين من قبل تلك التنظيمات مقابل أموال كفدية لأطلاق سراحهم أو مواقف تسمى سياسية تحت بصر وأنظار القوات الأمريكية وربما رعايتها وغض النظر عن امتدادها ومواصلاتها وعدم الأطباق عليها ومحاصرتها ضمن مناطق معينة من اجل أبقائها ممتدة وسبباً يمكن التعكز عليه في المستقبل، او لربما التعمد في أحداث شرخ عراقي لغرض التوازن الطائفي أو الديني أو المذهبي أو القومي في العراق ، او لربما لتثبيت أسس المصالح المستقبلية للأحتلال في المنطقة.
علامات الأستفهام الكبيرة التي لم تزل تشرخ حدود العراق وتطرح نفسها دون جواب يشفي تلح في أجابة واحدة وعريضة بعرض المحنة العراقية ، والمأساة التي يعيشها المواطن العراقي، أن في الأمر ثمة أسرار كبيرة والعراق مجرد ورقة من أوراق اللعب فيها.
وأذ تبدأ هجرة أخرى غير الهجرة الأولى التي اقبل عليها أهل العراق، هجرة غير سياسية بدأت بهروب الطاقات والكفاءات والعقول العراقية الى خارج العراق، لحقت بها رؤوس الأموال العراقية المتبقية الى دول الجوار، ثم لحقت بها العمالة والطبقة الواعية والمنتجة في العراق، هذه الهجرة تجد لها طريقاً واسعاً ورحباً وأسباباً معقولة ومقبولة أيضاً، غير أن نتائجها الوخيمة ستظهر على العراق حين يستتب الأمن وتصبح دولة الحق كما يسميها المفكر القانوني فلاح أسماعيل حاجم تنشر سطوتها في التطبيق القانوني، تكون الدولة في أقصى عوزها العلمي والثقافي الوطني الذي يمكن ان تستند عليه، مما يدفعها للأستناد على الأجانب حالها حال أية دولة منتجة للنفط نزعت قدرتها الزراعية والصناعية والتجارية دون ثروة علمية وبشرية.
- آخر تحديث :
التعليقات