قـرار تاريخي ... أم تحــدٍ نوعـي جديــد ؟!

ليس أبهج لقلب الكاتب من أن يري أفكاره تطبق علي أرض الواقع وتحقق شاخصة أمام عينه. ولعل هذا هو مبعث سعادتي بشكل خاص وشخصي، بقرار مجلس الوزراء بمشاركة المواطنين في إدارة شئونهم المحلية عن طريق الإنتخاب.
فقد سبق وأن كتبت في هذا الموقع وغيره من قبل وتحت عنـوان (( مجالس المناطق في الميزان)) منادياً بضرورة تفعيل صيغة هذه المجالس.
وقلت أن الفلسفة والأسس التي قامت عليها هذه المجالس إنما تهدف إلي تحقيق الآتي:-
-ترسيخ أسس المشاركة الوطنية في أمور المحليات والمناطق.
-تنمية الشعور بالمسؤولية لدي جميع أفراد المجتمع.
-التعرف علي القيادات والطاقات والقدرات الوطنية التي يمكن الإعتماد عليها وتدريبها وتطويرها للمشاركة بالرأي وتحمل مسؤولية بناء الوطن وتنمية المجتمع.
- كما تتضمن هذه المشاركة جانباً تربوياً وطنياً.
إن مثل هذه الإصلاحات في نظم الدولة تحميلها الضرورات الداخلية ويجري عليها سنن التطور والتغيير، وهي تتم متي ما دعت الضرورة إليها.
فإذا وضعنا في الإعتبار أننا – وبفضل الله – نعيش في وطن أشبه ما يكون بالقارة، نستطيع أن نفهم ضرورة مشاركة كل قادر وكل ساعد قادر علي العطاء، وقد كان وعي ولاة الأمر سباقاً إلي إكتشاف هذا، إذ أن نظام المجالس في صيغته الأم كان قد وضع نصب عينيه هدفاً واضحاً وهو (( العمل علي توصيل الخدمات في أكمل صورة لكل المناطق، مهما تباعدت عن مركز الدولة وعاصمتها، وفي أقرب وقت وبأقل التكاليف الممكنة)).
وأن مشاركة المواطنين في إدارة الشئون المحلية أيضاً تساعد علي تقليص الظل الإداري الحكومي المركزي، الأمر الذي يخفف العبء عن كاهل المسؤولين التنفيذيين المركزيين، ويعطي الأجهزة المركزية الفرصة كي تتفرغ لأعمال التخطيط الإستراتيجي الوطني والمتابعة علي كافة المستويات، خاصة ما تعلق منها بالسياسات العليا للدولة، ويعطيها الفرصة كي تقوم بالتنسيق بين الموارد والطاقات وإحتياجات المناطق، وتنظيم شبكة العلاقات بين المحليات في إطار الخطة التنموية الشاملة للدولة.
والآن تأتي الخطوة الثانية والمتمثلة في قرار مجلس الوزراء والقاضي بتوسيع مشاركة المواطنين في إدارة الشئون المحلية عن طريق الإنتخاب، وذلك بتفعيل المجالس البلدية وفقاً لنظام البلديات والقرى، علي أن يكون نصف أعضاء كل مجلس بلدي منتخبون، ويختار وزير الشئون البلدية والقروية النصف الآخر من ذوي الكفاءة الأهلية.
وكل ذلك فيما نري يمثل الخطوة الأولي في الإتجاه الصحيح، بما يعني أن هناك خطوات مقبلات لابد وأن نخطوها طالما خطونا هذه الخطوة الأولي، ولكن السؤال يظل قائماً: ثم ماذا بعد القرار ؟! .
والمشكلة الحقيقية تبدأ بعد صدور القرار، فمثل كل شئ آخر، يظل الهاجس دائماً تلك العلاقات الشائكة بين القرار والتطبيق !!.
لقد ظللت دائماً أردد ما أكتب وأتحدث، إن مشكلتنا الحقيقية ليست في النظم، وليست في الإمكانيات، هاتين الشماعتين اللتين ظللنا نعلق عليهما قصورنا، ولا أريد أن أقول فشلنا.
ولكن مشكلتنا الحقيقية تكمن في فشلنا في تفعيل النظم، وإستقلال الإمكانيات.
وحول قضية مجالس المناطق وفي غيرها كتبت في مقالين نُشِرنا بهذه الصحيفة تحت العنوان المشار إليه سابقاً وقبله مقال بعنوان ((نحو حكومات محلية فاعلة))، أن النظم الحالية لا تحتاج إلي تطوير أو تغيير بقدر ما تحتاج إلي أن نفعلها إلي حدودها القصوي.
وإذن فلنرجئ الإحتفال قليلاً بهذا القرار التاريخي الهام، حتي نضع الأسس التي تجعله واقعاً متعيناً يفي ويحقق الغرض الذي أقر من أجله.
فما هي هذه الأسس التي يمكن أن تجعله يؤتي ثماره كاملةً ؟.
إنه الوعي، ولا شئ غير الوعي.
فثمة مسألة لا أدري لماذا نتجاهلها دائماً وهي أن الحقوق حين تعطي، أو تؤخذ، إنما تعطي وتؤخذ بحقها.
فلا حقوق في الدنيا إلا وتقابلها واجبات.
لقد أصبح من حق المواطن بموجب قرار مجلس الوزراء أن يشارك في إدارة الشئون المحلية عن طريق إنتخاب من يمثله في مجالسها، إلا أن القرار بالطبع لم يحدد للمواطنين من يختارون، وترك هذا لإرادتهم الحرة في أن يختاروا من يشاؤون، وأن وضع معايير ومواصفات لمن يحق له أن يترشح لهذه الإنتخابات.
وهنا يأتي المحك.
أو دعنا نقول بالدولة النامية بشكل عام، كيف أن ثمة الكثير من الممارسات التي تنحرف بهذه العملية إلي وجه غير التي خطط لها أن تسير فيها، وكيف أنها في النهاية تصل إلي نتائج تناقض تماماً والهدف الذي وضع لها ...
فيفوز في بعضها ذوي النفوذ الإجتماعي أو الوجاهة الإجتماعية ويفوز في بعضها الآخر ذوي النفوذ الإقتصادي.
ويفوز بعضهم بالغلبة العشائرية.
وحين يحدث ذلك فإن هذا الحق يصير نقمة علي المجتمع والمصلحة العامة للمواطنين، ويكون حينها النظام القديم هو الأنسب.
فهذا الصوت الذي يدلي به المواطن هو مسؤولية تتجاوز لتطال، ليس مجتمع منطقة وحده، بل وتطال الوطن كله، ليس الآن فحسب، بل وحتي مستقبل الأبناء الذين يجب أن نهيئ لهم واقعاً أجمل.
لذا أعتقد أننا في حاجة إلي حمله توعوية وطنية مكثفة لتوعية الناس بأهمية ومدلولات وجدوى وأسس العملية الإنتخابية، حتي تحمل أصوات الناخبين أحق المتنافسين إلي المجالس، وحتي يحسنوا إختيار من يمثلهم ، وحتي لا تتحول العملية إلي مهزلة مثلما حدث في كثير من التجارب التي أطلعنا عليها في الدول النامية.
أما النصف الآخر من المختارين من قبل وزير الشئون البلدية والقروية، فلا شك في أنه سيعتمد معيارية صارمة عند الإختيار، وقد كتبنا من قبل أن معيار الإختيار ينبغي أن يكون صارماً في مقاييسه وتطبيقاته، ليُختار لهذه المجالس من يملك القوة، والكفاءة، وقبل هذا وذاك من يملك الرغبة الحارقة في العطاء لمجتمعه ووطنه، ومن يعتبر شرف إختيار ولاة الأمر له في هذا المكان بمثابة تكليف وطني، يبذل في سبيل النهوض به أقصي ما يملك من إخلاص وحب وطاقة وقوة، في سبيل ممثليه، لأن ينوب عن ولاة الأمر في هذه المهمة ويحقق أقصي رغباتهم في رفاه المواطنين وتيسير أمور حياتهم.
وحين نضع الإنسان الأمثل – بمعايير الكفاءة – سنجد أن ساحة هذه المجالس قد إمتلأت علي سعتها بالأكفاء المخلصين من أهل العلم والعمل إلي جانب أصحاب الخبرة بكل تجاربهم الثرة، تتفاعل جهودهم وتتكامل قدراتهم.
خلاصة الأمر : إن هذا القرار التاريخي – وهو تاريخي بكل المقاييس – يمثل نوعية في تطور المملكة السياسي والإجتماعي ، وهو مفصل أساسي نحو مستقبل مشرق، ولكنه يحتاج إلي عمل مكثف.
هذا القرار بقدر أهميته يفتح الباب واسعاً أمام عمل جديد ، ويلقي مسؤولية كبيرة علي عاتق المواطنين، لذا علينا أن نشمر سواعدنا لنكون بقدر التحدي الذي ألقاه هذا القرار في وجهنا.

وبالله التوفيق

أكاديمي وكاتب ســعودي
DR_ [email protected]

انقر على ما يهمك:
عالم الأدب
الفن السابع
المسرح
شعر
قص

ملف قصيدة النثر
مكتبة إيلاف