هموم مشرقية (2)

في معرض سعينا لتتبع مظاهر وأسباب التخلف في شرقنا، يداهمنا أبرز وأخطر ما يوصم به:
•سيادة القهر وأنظمة الحكم الشمولية.
•رواج العنف الدموي وانتهاك حقوق الإنسان.
•العداء للآخر والتعالي عليه.


ولما كنا في هذه السلسلة من المقالات نرمي إلى لفت الانتباه إلى بعض البذور الرابضة في أعماق الشخصية الشرقية، وينتج عنها ما نراه ونعاني منه، ويعاني معنا العالم المتحضر، فإننا نتبع نهج الإشارة إلى العنصر الأساسي، ثم ما قد ينتج عنه من مظاهر، وليس العكس، أي استعراض المظهر، ثم حصر العوامل المسببة له حصراً تاماً.
أمامنا الآن عنصر يبدو الأخطر والأكبر تأثيراً في توجهاتنا وممارساتنا، وهو تقييم الذات، تقييم الإنسان الفرد لذاته ولقدراته، التي يتبعها مدى ثقته في نفسه، ونزوعه إلى الاستقلال أو التبعية، وعلى الوجه الآخر من العملة تثمينه أو استرخاصه لنفسه، وبالتالي للنفس الإنسانية بوجه عام، ما ينعكس على موقفه من الآخر، سلباً وإيجاباً.
نزعم أن تقييم الإنسان الشرقي لذاته - قدراته، وبالتالي قيمته أمام نفسه – منخفضة جداً، إنه يشعر بتفاهته وضآلة شأنه وتواضع قدراته لدرجة كبيرة، وترتب على هذا التقييم الداخلي والعميق للذات، انعكاسات عديدة على أداء الفرد وتوجهاته وخياراته في الحياة:
•اختيار دور التابع، لشيخ القبيلة أو كبير العائلة أو رجل الدين، أو عادات وتقاليد الأجداد، ذلك لإحساسه العميق بحاجته لمن يقوده كما الأعمى، فهو يستشعر عدم قدرته على العثور على الطريق الصحيح، وبالتالي يفتقد الرغبة في تحمل مسئولية أي قرار، ولنتمعن في الصياح الحنجوري لأشاوس العرب من رفض الهيمنة الأمريكية، وخشية الهيمنة الإسرائيلية (تلك الدويلة الصغيرة وسط أمة ذات رسالة خالدة كما يقولون)، إنه التعبير عن الشعور العميق بالدونية وبالقابلية الشديدة للتبعية، وربما المشكلة الحقيقية لهؤلاء الأشاوس ليست الهيمنة في حد ذاتها، وإنما هيمنة الآخر الكافر على وجه التحديد، بالإضافة إلى العقدة النفسية الناتجة من الإيمان الداخلي بأننا كائنات قابلة أو راغبة في الهيمنة عليها، كما لو كانوا يطالبون بحزام عفة فولاذي لامرأة سيئة السمعة، ترضى طوال عمرها لكل من يطرق بابها، واليوم يناوشها غرباء كفار.
•الخنوع والخضوع للمستبد، ناتج عن عدم الإحساس بقيمة الإنسان، فمن يثمن نفسه عالياً يأبى أن يركع أمام ذهب المعز أو سيفه، ومن نفس ذلك المنطلق نستطيع أن نفسر ممارسات النفاق والتزلف، ولا يخفى أن كثرة الحديث عن الكرامة مثلاً يشي بالعكس، فمن يتحدث كثيراً عن أهمية الأمانة غالباً ما يكون لصاً، وهكذا، فالأمثال الشعبية المصرية تقول: إن كانت بلد بتعبد عجل، حش وارمي له ـ اللي يتجوز أمي أقول له يا عمي، وهنالك أمثال للنفعية الوضيعة مثل: إن كان لك عند الكلب حاجه قوله يا سيد ـ اليد اللي ماتقدرش تعضها بوسها، وهناك الكثير مما ينضح ويوحي بعدم الاعتزاز أو احترام الذات.
•انتهاك حقوق الإنسان في السجون وفي الدوائر الحكومية التي يلقى فيها الفرد ألوان العذاب لقضاء مصالحه، الأمران رغم تباعدهما الظاهري يرجعان لنفس الجذر، وهو استرخاص قيمة الإنسان، وبالتالي غياب مفهوم حقوقه، فليس صحيحاً أن الحاكم المستبد أو طغمته هم المسؤولون عن انتهاك حقوق الإنسان، فهو لا يفعل ذلك بنفسه، أو بواسطة القلة المحيطة به، وإنما يتم ذلك بواسطة مئات وآلاف من أفراد ذلك الوطن، مدفوعين بإحساس داخلي بتفاهة قيمة الإنسان، وهم لا يتميزون في ذلك عمن يقومون بإهدار إنسانيتهم، الذين هم أيضاً من نفس المجتمع، ولهم ذات التوجه، بحيث إذا انقلبت الأوضاع، واستحال المسجون سجاناً، لمارس نفس الأفعال، لأن له ذات المنطلقات.
•انتهاك حقوق الآخر، فالموقف من الآخر هو الوجه الآخر من عملة وجهها الأول تقييم الذات، تقييم النفس الإنسانية بوجه عام، فمن يحترم ذاته ويقيم نفسه عالياً، لابد وينعكس هذا إيجابياً على موقفه من الآخر ولو كان عدواً، والعكس بالعكس، فمن يستشعر كرامة الإنسان لا يمثل بجثة عدوه، ولا يقتله وهو أعزل، ولا يقتل الأبرياء لمجرد إثبات الذات أو كراهية الآخر كراهية مطلقة ليست خاصة بشخص من يزهق حياته، ولعلنا نستغرب أو نستنكر أن يكون الغربيون الذين نعدهم أعداء، مدافعين عن حقوق الإنسان في بلادنا، فيقول أشاوسنا وأبطال ميكروفوناتنا: هل هم يحبوننا ويحرصون علينا إلى هذا الحد؟! نعم يا سادتي الأشاوس والنشامى، إنهم يحبوننا ويحترموننا، ليس لأننا نستحق هذا الاحترام، ولكن لأنهم يحترمون ويثمنون أنفسهم عالياً، ويمتد هذا التثمين إلى تثمين الحياة بوجه عام، والإنسانية بوجه خاص، وهم يفترضون أننا ننتمي للإنسانية، ولو من الوجهة البيولوجية، إن لم يكن بالفكر والرقي الأخلاقي.
•إتقان العمل واحترام القوانين نابع أيضاً من احترام الذات، فهنالك فرق بين أداء من يشعر بتفاهة ذاته، ومن يشعر بقيمتها، فالأول يؤدي كما العبيد، يجتهد بقدر ضربات السوط على ظهره أو التلويح به، لكنه لا يتقن ولا يبتكر، بعكس من يحترم ذاته، فهو يؤدي من منطلق إثبات الذات، إتقاناً وابتكاراً، واحتراماً للقوانين، دون ما حاجة لخوف مرضي من عقوبات، يحرص على التحايل عليها وانتهاكها، كما يحدث في شرقنا الرازح في الفوضى واللا كفاءة.
•القابلية للارتشاء وتفشي الفساد، فالمنحرفون موجودون في كل المجتمعات، لكن نسبة تواجدهم في المجتمع كمقياس كمي يحدد التقييم الكيفي للحالة، فنسبة المنحرفين إذا كانت ضئيلة كان من الصواب تسميتهم بالمنحرفين بالمعنى اللغوي، أي أنهم منحرفون عن الاتجاه العام الممثل للاستقامة بالمعنى الأخلاقي واللغوي، أما إذا زادت النسبة عن حد معين بحيث أصبحت الأغلبية هي الفاسدة، لزم تسمية من لم يتلوثوا بالمنحرفين بالمعنى اللغوي لأن القاعدة هي الفساد، ولا فرق هنا بين من يرتشي بمليون جنيه ومن يرتشي بسيجارة، بل ربما كان الأخير أحقر أمام ذاته لأنه يبيع نفسه بثمن بخس، فالعوامل الاقتصادية تأتي في المرتبة الثانية في هذا الأمر، وإن كنا لا ننكر تأثيرها، لكن العامل الأهم في تفشي الفساد في مجتمع وعلى جميع المستويات، كل حسب وضعه، يرجع إلى تقييم الذات واحترامها من عدمه، فهنالك مثل عامي مصري يقول: إن سرقت اسرق جمل، وإن عشقت اعشق قمر، فهذا دأب من يثمن ذاته عالياً، وهذا هو المدخل لتحجيم تفشي الفساد، فالجمال والأقمار المتاحة للسرقة والعشق محدودة، لكن لسان حالنا الآن يقول اسرق أي شيء تجده، حتى أغطية بالوعات الشوارع، فالفقر هنا يأتي تأثيره في الدرجة الثانية، فنحن نعرف أن فئة سارقي أغطية البالوعات في الشوارع المصرية هي الفئة التي من السهل عليها أن تجد مصدراً للرزق، بعكس فئة خريجي الجامعات، التي تخنقها أزمة البطالة، ناهيك عن كبار الفاسدين، الذين لا يمكن أن تجد لهم عذراً اقتصادياً يدفعهم لذلك.
هنا علينا أن نتساءل إن كان الإحساس بانخفاض قيمة الذات يرجع لعوامل ثقافية أدت إلى هذا التقييم الخادع للذات لصالح أطراف معينة ( حكام مثلاً)، أم يرجع لتكوين بيولوجي ضعيف وهش لإنسان هذه المنطقة، ولإرادته الناتجة عن معادلته البيولوجية، بما يعني أن الشعور المستشري بالتفاهة إحساس داخلي للإنسان بحقيقة موضوعية، هو الأقدر أن يستشعرها في ذاته، أم إنه يرجع للأمرين معاً؟‍!!
أياً كانت الإجابة الصحيحة لسؤالنا السابق، ليس لنا إلا أن نلجأ للأسباب الثقافية، والمنظومة الاقتصادية والاجتماعية لمحاولة تعديلها، لبث الثقة في الذات لدى الإنسان الشرقي، لترتفع قيمته في عيني نفسه، عندها سيستشعر قيمة الآخر المختلف، أو الآخر العدو، وستتغير تماماً نظرتنا إلى العالم، وتتغير معها نظرة العالم لنا.

[email protected]

انقر على ما يهمك:
عالم الأدب
الفن السابع
المسرح
شعر
قص

ملف قصيدة النثر
مكتبة إيلاف