لو كان للعراقيين مئة غالب الجزائري لناموا مِلء جفونهم

حكاية جزاء المهندس سنِمَّار مقابل تصميم وتشييد قصر الخورنق بالحيرة من قبل النعمان بن امرئ القيس معروفة، وهي بلا ريب أشهر ما ضرب من الأمثال في مقابلة الإحسان بالإساءة أو الوفاء بالغدر، ولاشتهارها لا حاجة للقارئ بإعاتها. وربما كانت نسجاً من الخيال، لكن ليس هناك عصر من العصور استغنى عن التذكير بهذه الحكاية ومدلولها الأخلاقي.
ومثلما شيد سنِمَّار القصر المنيف الخورنق فوق رابية من الروابي المطلة على النجف، بسط مدير شرطة النجف غالب الجزائري الأمن والأمان جوار هذه الرابية، وأحاط بشجاعته وصبره على البلاء ضريح الإمام علي بن أبي طالب، يوم كانت المليشيات تصول وتجول في أزقة الكوفة والنجف وليس من رادع يردعها. تتجول كأنها عساكر عبيد الله بن زياد تطارد مسلماً بن عقيل، حتى وصلت شظايا الرصاص ووصل رذاذ سقط الكلام إلى دار آية الله علي السيستاني، وامتلأت أروقة الحضرة العلوية بالأسلحة. ولم يسمع آنذاك غير صوت غالب الجزائري عالياً، مدوياً في ساحة الحرب، يقود شرطته وهم القلة بينما عدد الميليشيات لا يعد ولا يحصى، وتهلهل لهم الفضائيات بالصوت والصورة، وتبث بينهم روح الاعتداء والجرأة حتى على صاحب الضريح. كان الجزائري أمل النجفيين في عودة مدينتهم إليهم، وأمل الحكومة ببغداد في عودة الدولة إلى النجف، والكل كان تحت حمايته وبعهدته من وزير الداخلية ووزير الأمن ووزير الدفاع، يوم كانوا يشرفون على محاصرة الميليشيات، ويدخل النجف بحمايته وعهدته كل مَنْ طمع بلقاء المرجعية.
لم يتهاون غالب الجزائري في أداء عمله رغم أسر والده، وأشرافه على الموت في محكمة جيش المهدي (الشرعية)، بل كان يشد أزر قوات الشرطة والحرس الوطني، ويتنقل حاسر الرأس من أجل سلامة المدينة. كانت معركة من أخطر المعارك وأدقها، فهي حول ضريح الإمام علي وبمدينته، وكانت ضد خليط من الناس والأجناس بينهم فاقدو السلطة والناهبون ومَنْ دخل نكاية بالمدينة، ومَنْ دخل بواجب شرعي هو نسف الأضرحة والقبور لأنها بشرعه شرك بالله. فكم كانت مهمة مدير شرطة النجف صعبة ومخيفة، وهو يتحرك بلا شرطة مدربة ولا سلاح فعال، يده على السلاح وقلبه عند والده العليل، وأسرته غير المحمية.
كان غالب الجزائري ضابطاً في الجيش العراقي، سجن زمن النظام السابق وأخطأه حكم الإعدام، ثم عاد إلى العراق ليأخذ على عاتقه مهمة أمن النجف، وقام بمهمته خير قيام. ظل يطارد الإرهاب من مكان إلى آخر، بداية من الضريح العلوي وحتى تماس حدود النجف مع حدود المملكة العربية السعودية، يحرس الصحراء والسهل، ويوفر لحجاج الضريح الأمن والراحة، ويا لها من مهمة شاقة وخطرة.
آخر إنجازاته أن صادر خزين من الأحزمة الناسفة، وقاد ضالعين في عمليات الإرهاب قوداً إلى السجون، ووضع يده على وثائق أدانت البعث السوري في المساعدة بتسريب إرهابيين وسلاح. وفي كل هذا يؤسس الجزائري لهيبة الدولة العراقية وسطوتها، يطارد الإرهابيين في الوقت الذي فيه عاثت بعض الأحزاب بأموال الدولة ببغداد والمحافظات، وامتلأت وزارة الصحة بفضائح في المحسوبيات والمنسوبيات، ثم تلتها وزارة التربية، وكل يوم يخرج جاسوس في وزارة الداخلية ووزارة الدفاع، ولم ينشغل قادة هذه الأحزاب بالأمن والأمان مثلما انشغلوا في التوسع في المقاولات وتكثير الزوجات، والصراع من أجل المناصب الدبلوماسية، ونفع ذوي القربى.
كان صوت غالب الجزائري الدليل الوحيد على وجود الدولة، في غمرة الحرب والتمترس في الضريح العلوي وخطب الجُمع المهيجة، والدليل على انتهاء عصر البعث وبداية عصر جديد. فبكم تقدرون ثمن رأس هذا الرجل عند الزرقاوي وعند البعثيين، وقبلها عند ميليشيات المهدي؟ وكم شتمته قنانا الإرهاب المنار والجزيرة، وكم كرهه الإيرانيون، لأنه الخبير بألاعيبهم، والخبير في الغدر البعثي، خبرة مع جرأة لا مثيل لها. فأي من أقطاب السلطة ترك والده أسيراً بين الموت والحياة واستمر في المعركة، وكم مسؤول جامل المعتدين على الضريح العلوي في تصريح لإذاعة أو قناة تلفزيونية، واحتمى بظلال حمايته، ولاذ بالمدينة الخضراء.
قد لا يفقه غالب الجزائري، وهو المقاتل الواضح في سبيل إنجاح عملية التحول والبناء ومن أجل عراق خال من الإرهاب، نفاق السياسة وبهذه الطريقة المكشوفة، فما فعله هو إعلام الناس أن العدو البعثي الآتي من سوريا يطلب رأس العراق، فأفيقوا واستيقضوا من حلم الأمة العربية الماجدة. أفصح الرجل عما لديه من غنائم، هي أحزمة ناسفة وشخصيات وأموال ووثائق، فعلام السكوت والكذب على الناس؟ لا ندري كم تمتلك الدولة العراقية اليوم من البارعين في مقاومة ومعاندة الإرهاب مثل غالب الجزائري حتى تضحي به وتقدمه قراباً للإرهابيين؟ وهل يشعر أياد علاوي وهو رئيس الوزراء وفلاح النقيب وهو وزير الداخلية أن غالب الجزائري بات خطراً على العلاقات مع دول الجوار، ذلك بملاحقته للفلول التي تأتينا من تلك الدول؟ فالتهمة التي وجهت إليه تهمة مغلفة ومشبوهة بالضغينة، وهي أطلاق سراح مشبوهين، واعتقال مشبوهين بلا أمر القاضي، وتسريب معلومات إلى الإعلام عن ألاعيب دولة مجاورة. لكن هل ينتظر مدير الشرطة، في ظروف العراق الحالية، تنفيذ تفجير سيارة وسط سوق النجف حتى يطلب الأذن من القاضي باعتقال الرماد المتبقي من نار التفجير، أو ينتظر أذناً من القاضي وهو اللابس جوف الليل مطارداً للإرهاب؟
لازال الغموض يحيط بمسؤولين في الدولة، ربما يريدونها دولة سرية تقودها عصابة مركبة، وإلا أين الحقائق؟ لماذا لا تكشف للناس؟ أين الذين يعلن عنهم يومياً وزيرا الداخلية والدفاع؟ أين عين الدولة وقد قتل بين حراسها محافظ بغداد؟ الحقيقة هي ما قاله الجزائري، والكذب هو مجاملة دولة الجوار، التي ينعم فيها سبعاوي إبراهيم الحسن وسعدون شاكر وصلاح المختار بالعيش الرغيد والعمل الإرهابي المريح. على النجفيين أن لا يفرطون بمدير شرطتهم في هذه المرحلة بالذات، فربما هناك ما يبيت لهم ولرجالاتهم، عليهم أن يخرجوا إلى الشوارع يمنعون إهانة مَنْ كاد يفقد حياة والده، وتستباح عائلته في سبيلهم. فقبلها فعلها على رابية من روابي النجف النعمان بسنِمَّار، واليوم تعاد بالجزائري، فليس جزاء هذا الرجل الخذلان بهذه الطريقة المحبطة حقاً، بل حقه التكريم والفخر بأمثاله.
قال عبد العزى الكلبي يوم أحسن للملك الغساني فجازاه بجزاء سنِمَّار:
جَزاني جزاه اللهشرَّ جَزائه
جزاء سنِمَّار وما كان ذا ذنب
سوى رصِّه البُنيان عشرين حجةً
يُعلي عليه بالقراميد والسكب
وهل فعل غالب الجزائري أقل من رص بنيان دولة يعاث بها إرهاباً وفساداً؟

[email protected]