كل ما يمكن أن تكتشفه فى شخصية "عويشة" لا يتجاوز تلك الصفات الشائعة فى "جدعان" مصر وناس أحيائها الشعبية ..من "الفتونة" .. والجرأة .. ولغة الإقناع الشعبية التى تستخدم فيها المفردات المبتكرة ، والإيماءات الموحية، والقسم المغلظ حتى في أتفه الأمور ، كل هذه الأشياء يمكن أن تصادفها لدى هذا أو ذاك فى شتى المجتمعات والبلدان، لكن الجديد والمتفرد فى شخصية "عويشة" يكمن فى تلك التوليفة النادرة التى تشبه الأدوية المركبة التي تتألف من عدة عناصر بنسب محسوبة ومحددة وتحت ظروف خاصة، هكذا بدا لي " عويشة" سمسار السيارات السكندري، فهو عملاق تقترب قامته من المترين، لدرجة أنة يقطع عرض الطريق العام فى ثلاث خطوات فقط دون مبالغة، ورغم طوله الفارع هذا، وشاربة الكث المفتول بعناية، وملامح وجهة التى توحي بالعدوانية لمن لا يعرفه جيداً، إلا انك لن تكون بحاجة إلى أكثر من ربع ساعة معه، حتى تكتشف أن انطباعك المبدئي كان مخادعاً، فهو يتصرف ببراءة طفل وحياء عذراء ونزق مراهق وحكمة كهل في آنٍ، إنه يتعاطى الحياة بكل أبعادها ، تماماً مثل "زوربا اليوناني"، أو "عمر الخيام"، مغتنماً من الحاضر لذاته، وهو بالطبع لا يعرف شيئاً عن زوربا ولا الخيام، ولا يعنيه ذلك، لكنة مارس أنماطا حياتية وتجارب وخبرات شديدة الثراء والتنوع من حواري الإسكندرية إلى مقاهيها، ومن دواوينها الحكومية إلى ورشها العشوائية، ومن شواطئها الرائعة إلى أسواقها المميزة، ومن فنادقها الحالمة إلى زنزانات سجونها البغيضة، لكنه دائما كان لصيقا بالحياة وقوانينها وكائناتها، وباختصار كان طرفاً أساسياً فيها، لم يكن ذات يوم متفرجاً أو مراقباً للأحداث، لذا تراه ينتقل بكل بساطة وعفوية من البراءة الى الشراسة، ومن الحكمة الى التفاهة، يحكى لك دون سابق معرفة كافية عن تفاصيل حياته اليومية، ومشاجراته مع زوجاته وأبنائه وجيرانه، ثم يعرج بك فجأة ليحكي لك عن صولاته وجولاته في أحياء الإسكندرية التي عاش بها كلها على مدار سنوات عمره، وعالمها الخفي الذي لن تكتشفه إذا كنت مصطافا أو زائرا أو موظفاً، أو باختصار لست "عويشة"، وبغض النظر عن مصداقية ما يرويه من أخبار ونوادر إلا أنك ستظل تصدقه، لأنه يتحدث بطريقة لا تخلو من المنطق، فضلاً عن كونها مفعمة بالصدق والإثارة والانفعالات، على الأقل لن تجد مفرا من تصديقه .. أو في أسوأ الحالات ـ لو كنت مثقفاً أو تذهب بك الظنون لهذا التصور ـ لن تجرؤ على تكذيبه، ليس خوفا من ردة فعله فحسب، بل لأنك ستشعر برغبة جارفة فى تحريضه على المزيد من الحكي والسرد.
في سوق السيارات المستعملة تجد "عويشة" وقد شحذ كل طاقاته، وأشهر كافة أسلحته من القسوة الرهيبة إلى الروحانية الخالصة، مرورا بالذكاء والتذاكي، بالخبث والتخابث، بالصوت المرتفع والألفاظ النابية التي لا تلبث أن تتحول ـ وفقا لقانون الموقف ـ إلى صوت خفيض وأدب جم ونبرة حنون، بالعواطف الجياشة وبكل ما أوتي من قدرة على التعبير والتمثيل والتأثير، كل ما يعنيه أن ينتهي الأمر بكتابة عقد بيع السيارة، ويقوم بهذه المهمة بكل صدق وتفان ، إلى الحد الذي تظن معه أن هذه المسألة ـ بغض النظر عما سيترتب عليها من عمولة سمسرة ـ قد أصبحت متعته الحقيقية، ولذته الخاصة التي لا يعرفها إلا من تذوقها ومارسها ، وأوقف لأجلها جُلّ أيامه كما فعل عويشة الذى روى لى بعد أن انتهينا من كتابة عقد سيارة إنه تزوج سبع سيدات رغم أنه لا يزال في أربعينات عمره، وعندما سألته عما دفعه للزواج من كل هؤلاء النسوة أجاب ببساطة مفصلاً:
الأولى: تزوجتها وكنت لم أزل بعد غضاً، لم يكن يعنينى شخص الزوجة بقدر ما كان يعنينى الزواج ذاته!
الثانية: كنت قد اكتشفت أن النساء لسن متشابهات!
الثالثة: كانت ابنة عائلة من الفتوات الذين ساندونى فى معاركي.
الرابعة: أحببتها وما زلت
الخامسة: كانت غنية وكريمة، كانت أرملة طروب
السادسة: كانت زوجة صديق عزيز… أوصانى قبل وفاته بها خيراً.
أما السابعة: فأصارحك القول: ليست جميلة ولا غنية، ولا أعرف لها أهلا أو أقارب، ولم أحبها، ربما لا تصدق أننى تزوجتها لوجه الله زكاة عن صحتي وعافيتي، فقد تلفتّ حولي وخلفي فلم أجد خيراً فعلته في هذه الدنيا، فقررت أن أتزوجها لعل الله يجزيني عنها خيراً، أو يغفر لى بعض ذنوبي!
الآن.. على ذمة "عويشة" ثلاث زوجات فقط، أقسم بالطلاق منهن جميعاً، أن كل ما رواه لي كان حقيقياً وصادقاً .. وأنا صدقته!