بات العراق اليوم رهينة التدخلات اليومية المستمرة لدول الجوار، وانعكس ذلك بصورة آلية على الساحة الإعلامية وحرب التصريحات والإتهامات المتبادلة بين مسؤولين عراقيين واقران لهم في الأنظمة الحاكمة في دول الجوار العراقي. الشكوى العراقية الرئيسية تنصب على التدخل الأمني ودور دول الجوار في ايواء وتدريب وتمويل وارسال المخربين والإرهابيين الى العراق، ودول الجوار حسب دأبها الدائم تنفي وترفض وتتهم ... والخ. المشكلة الرئيسية هي اننا كعراقيين نقيم الدنيا ولانقعدها عندما يتعلق الأمر بالجانب الأمني من القضية وهذا حقنا بالطبع، ولكن تدخل دول الجوار العراقي لا يقتصر على الجانب الأمني وحده، ويمكننا ان نجزم بأن هذا النوع من الدور – اي التدخل الأمني - ليس إلاّ الوسيلة التي يلجأ اليها الجوار العراقي في سبيل تحقيق اهداف سياسية على الأرض، اقلها اهمية هو التخريب، بينما الهدف الأساس الذي بات مكشوفاً للقاصي والداني هو اولاً بناء نفوذ داخل العراق ، وثانياً إفشال التحول الديمقراطي في العراق، او على الأقل تعطيله بغية تأخير وصول رياح التغيير والديمقراطية والإصلاح الى داخل بيوتها . لم يعد الحكام جيراننا وانظمتهم القمعية والمستبدة والمتخلفة تكتفي بإعداد واخراج هذا المسلسل الرهيب المرعب الذي يغرق العراق يومياً في دماءه، بل بات تدخلهم واضحاً وسافراً حتى على الصعيد السياسي، هذا النوع من التدخل كان فيما مضى يتخذ صور تصريحات لمسؤولي هذه الدول بخصوص القضايا السياسية التي تخص العراق والعراقيين وحدهم، او استدعاء عراقيين وتمويلهم وتحريضهم على تبني مواقف تخدم مصالح هذه الدول وليس العراق او اية طائفة من طوائفه،إلاّ ان هذا النوع من التدخل السياسي السافر في شؤون العراق والعراقيين اخذ يأخذ منحاً آخر عندما حصلت هذه الدول على نوع من الإطار الإقليمي الذي يمنحها الفرصة للتدخل في خيارات العراقيين وقراراتهم المصيرية، عندما بدأت اجتماعات دول الجوار العراقي واخذت تمتلك طابعاً دورياً. طبعا يمكن ان يشكل هذا النوع من الإجتماعات ومثل هذه الآليات عوناً لدولة منكوبة يمر بظروف العراق الحالية، وهذا الإحتمال يمكن ان يصدق في اي زمان ومكان إلاّ في حالة العراق، ويمكن ان يكون العراق هو الإستثناء الرئيسي لمثل هذه السيناريوهات المتفائلة المفعمة بالخير، والأسباب كما نعلم ويعلم الجميع كثيرة ولها اول وليس لها من آخر.

في اجتماعات دول الجوار اخذت هذه الدول تفكر وتتصرف على انها اصبحت الوصي على العراق والعراقيين، والأدهى من ذلك هو انها اخذت تنقل صراعاتها الجانبية الى العراق وتتحث عن ذلك بصورة علنية. من هنا يأتي قصورنا كعراقيين وبالتحديد كنخب سياسية ومثقفة في العراق، يتجلى هذا القصور من الوهلة الأولى في القراءة المبتسرة التي باتت تسيطر على تفكيرنا، فأخذ التفسير الأمني والهاجس الأمني والكلام عن التدخل الأمني لهذه الدول في العراق والتصدي لها يسيطر على جلّ تفكيرنا ومواقفنا، العيب الكبير في هذا الوضع هو إغفال التدخل اليومي السياسي السافر واللامسؤول لهذه الدول. اكاد اجزم بأن هذا هو بالضبط ما ارادت هذه الدول الوصول اليه، اي تحول العراق الى جحيم امني لايطاق فتشغل بذلك النخب العراقية عن التصدي لتدخلاتها في الشأن السياسي، وهي بذلك تكون قد جعلت من العراق رهينة يرزح تحت رحمتها. واذا كانت هذه الفرضية تمتلك ولو القليل من الصحة فإن الكارثة تكون قد اكتملت، ونكون كنخب سياسية عراقية اصبحنا ضحية واحدة من اكبر عمليات الدجل والإحتيال، ونكون قد اصبحنا مجموعة من المغفلين استغفلتنا الأنظمة الحاكمة لدول الجوار، في هذه اللحظة بالذات يأتي السؤال الجوهري، اذا كنا بهذا المستوى المتدني من الخبرة والدراية السياسية، فهل نصلح لكي نساهم في قيادة العراق والأخذ بيديه المكبلتين بكل هذه المصائب وانتشاله من هذا المستنقع؟

الأمثلة على هذا الوضع كثيرة بحيث يصعب حصرها وتتكرر بصورة يومية، إلاّ ان احدثها هو ما تناقلته بعض وكالات الأنباء حول تحقيق سوريا لكسب في الإجتماع الأخير لدول الجوار، إن هذا (الكسب العظيم) لسوريا لايتعلق بمفاوضات السلام مع اسرائيل، ولا بإستعادة الجولان، ولا مرونة في الموقف الأمريكي والدولي بخصوص تنفيذ القرار الدولي (1559) و الوجود السوري في لبنان، وكذلك فمن الطبيعي ايضا ان لا يتعلق هذا (الكسب العظيم) بالإصلاح الديمقراطية على صعيد الداخل السوري، اذن اين يمكن ان نجد هذا الكسب المزعوم الذي حققته سوريا في الإجتماع الأخير لدول الجوار العراقي؟ ان هذا (الكسب) السوري حسب وكالات الأنباء يتعلق بتدخل سوريا في الإجتماع الأخير في النظام السياسي والقانون الإنتقالي للدولة العراقية الواعدة، والمسألة ببساطة هي ان سوريا استطاعت ان ترغم المشاركين في الإجتماع على قبول تعديل في موقف هذه الدول من قضية الفيدرالية في العراق، وذلك بإضافة فقرة (بعد موافقة الشعب العراقي عليها). المفارقة المضحكة المبكية هي ان النظام السوري الذي لا يحسب اي حساب للشعب السوري وإرادته، يتشدق الآن بذريعة إرادة الشعب العراقي للتدخل في شأن سياسي يخص العراقيين وحدهم، وقد خطوا في هذا المجال بالذات خطوات كبيرة وطموحة. يبدو ان الاخوة في سوريا لا يتعبون من التدخل في شؤون العراق والعراقيين، إذ ان هذا الموقف لم يأتي من فراغ، بل هو امتداد واستمرار لمسلسل مواقفها المعهودة من مستقبل العراق ونوع النظام السياسي الذي يحلم به العراقيون. وبحسب وكالات الانباء فإن سوريا حاولت في الإجتماع ما قبل الأخير الذي كان افضل نسبياً من الإجتماع الأخير الإعتراض على ذكر عبارة الفيدرالية في البيان الختامي للإجتماع، حينها لقيت المحاولة السورية معارضة قوية من قبل كل المشاركين، حتى ان الاتراك وبالرغم من حساسيتهم الشديدة تجاه قضية الفيدرالية ولا سيما في كردستان العراق، فإنهم اعترضوا على المحاولة السورية مبررين موقفهم هذا بأن هذه المسألة باتت محسومة لدى العراقيين انفسهم وبأن من العبث الإصرار على رفض امور باتت محسومة. المصيبة هي ان هذا التعديل الاخير بات يشكل تحدياً كبيراً لكل القوانين التي اقرها العراقيون منذ سقوط نظام صدام، إلاّ اننا ساكتون بصورة غير قابلة للتصديق، المصيبة الاكبر هي ان سوريا التي لاتحسب اي حساب للعراقيين وخياراتهم، اخذت تتحدى العراقيين وخياراتهم ولاتحسب اي حساب للتغيرات التي تحدث على الساحة العراقية، بل هي مصرة على اعادة عجلة التقدم العراقي الجريء والشجاع الى الوراء، بدليل انها تصر على تبني مثل هذه المواقف، حتى بعد ان غدت قضية الفيدرالية قضية عراقية عامة تشغل الجنوب والوسط، لا بل وحتى اجزاء من غرب العراق ، كل هذا يأتي و تعقد مؤتمرات عديدة للبحث في شؤون وصيغ انشاء الاقاليم الفيدرالية والنظام السياسي الفيدرالي في العراق، واذا بأخوتنا في سوريا يصرون على البقاء في واديهم المنعزل المغلق. في السابق كان بعض الاخوة المعارضون للفيدرالية يتشدقون بطروحات شوفينية لرفضهم للخيار الفيدرالي، لكن اللعبة انكشفت الآن ولم يبق في جعبتهم ما يستطيعون اخفاءه. اذ ان قضية المطالبة بتبني تأسيس نظام سياسي فيدرالي في العراق حسب تفسير هؤلاء الاخوة كانت في السابق(بدعة كوردية لتنفيذ مخطط امبريالي – صهيوني في العراق والمنطقة، وطبعاً بتحريض وتآمر جاهز مع اسرائيل)، ماذا بقي الآن لدى (اشقاءنا) هؤلاء بعد ان اصبحت الفيدرالية خياراً للغالبية العظمى من ابناء الشعب العراقي بمختلف الوانه ومكوناته؟ بماذا سوف يبررون تدخلهم من الآن فصاعداً في قضايا تخص حق تقرير المصير بالنسبة للعراقيين. فالعراقيون وحدهم يقررون مصيرهم ومصير نظامهم السياسي وبالطريقة التي تخدم العراقيين ومستقبلهم، وليس لأحد مهما كان ان يتدخل في خياراتنا اياً كانت. اذن على النخب العراقية اعادة النظر في القراءة السابقة المبتسرة لتدخل دول الجوار العراقي في بلادهم، وعليهم ان يعدلوا من زاوية نظرهم اولا، ان الخطر لا يكمن فقط في التخريب والإرهاب والتدخل الامني اليومي والمستمر في العراق، بل ان هذا النوع من التدخل ليس إلاّ جزءاًً يسيراً من مجمل المخطط الكبير الذي يهدف الى التدخل سياسياً في العراق وفرض خيارات وقرارات معينة على الشعب العراقي الذي رفض صدام، فكيف يمكنه ان يقبل بتدخل هؤلاء. نحن محقون في تصدينا للتدخلات الامنية في بلادنا، ولكن علينا ان لا ننشغل عن الخطر الاكبر وعلينا ان نفضح تدخلاتهم السياسية واغراضها ومن واجبنا ان نتصدى بحزم اكبر لمثل هذه التدخلات في امور بلدنا ومصير شعبنا وخياراته. واذا لم نقم بذلك اخشى ان اقول بأننا سنتحول الى مجرد ضحية مسكينة استغفلتنا دول الجوار، وبذلك نحن لا نستحق ثقة شعبنا للأخذ بيده في محنته هذه، فهل نحن بمستوى هذا الواجب وهذه المهمة المقدسة؟ هل نحن نستحق فعلاً ثقة الشعب العراقي؟ اتمنى ذلك، ولكن الايام التالية وحدها ستجيب عن السؤال المحرج بالنسبة لنا كلنا....