قبل الحديث عن الثورة "المخملية" او "البرتقالية" في اوكرايينا كما عرفت به بشكل واسع لا بد من التعريج على التأريخ الدامي لبقية الثورات والمعارضات في التأريخ الإنساني، إسلامية كانت أو عربية أو على مستوى المجموعات البشرية المختلفة الاخرى على كرتنا الأرضية. ولحسن الحظ نعيش عدة ثورات من نوع جديد في نصف العقد الأول من هذا القرن، إذا اعتبرنا أن الانتخابات نوع من الثورة. تلك يمكن أن تحمل تسمية أخرى تختلف عن التسميات الباقية ولربما الأقرب هي ثورة الأصابع الملونة بحبر الاقتراع كما حدثت في أفغانستان ضد نظام القرون الوسطى لعصابات طالبان والثانية في العراق في رفض الإرهاب وتحديه يوم الثلاثين من الشهر الماضي. أما إذا أضيف إليهما الانتخابات الفلسطينية الأخيرة وهي انتخابات ديمقراطية تكون منطقتنا قد دخلت فعلا عهد جديد من الثورات ليست كتلك التي ابتدأت من ظهور الإسلام ولحد العقود الأخير من القرن الماضي عند وصول العسكر إلى الحكم وإنشاء دولة " الجند الاستبدادية، وبالهيمنة على السلطة المركزية دون تحمل مسؤولياتها مباشرة والسيطرة على مؤسسات الدولة، التشريعية والإجرائية والقضائية والتصرف في الحياة العلمية والثقافية والإبداعية وجعلها أداة لأغراضها التسلطية، ودائما ما سميت ثورة أو حركة إنقاذ أو خلاص...الخ" تلك الحقيقة جزء من تاريخنا العربي والإسلامي.

وقبل التعرض لتأريخ الثورات في العالم لا بد من البدء بتأريخنا العربي الإسلامي الذي صبغت صفحاته بالدم وخطت حروفه بكافة أنواع العنف غير الإنساني. ومنذ بزوغ فجر الإسلام كانت أول مذبحة للفكر وحرية الرأي في القضاء على من انتقد أو لم يمدح الرسول (ص) في الوقت الذي جاء قول الحق في عدة آيات كريمات عن أن محمد بن عبد الله والرسل الآخرين (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحي إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ، سوره الكهف الآية 109 ) والآية الثانية (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ، سورة فصلت آية 6).فقد ذكر الدكتور شاكر النابلسي في كتابه " لو لم يظهر الإسلام " ما يلي: " وأخيراً توقف الشعراء عن قول الشعر كما فعل لبيد بن ربيعة، وعَدِمَ ظهور شعراء جدد خوفاً من القتل وإهدار الدم، مما أدى إلى ضعف الحركة الشعرية في صدر الإسلام، حيث قامت مجزرة كبيرة وفريدة في تاريخ الثقافات الإنسانية للشعراء في صدر الإسلام. فقد تم في عهد النبي قتل أكبر عدد من الشعراء في تاريخ الثقافة العربية، بل في تاريخ الثقافة الإنسانية قاطبة". ولم يمضي وقت بعيد حتى كانت الثورة الدموية على الخليفة الثالث وعلى الرغم من دفاع الإمام علي وابنيه عنه حيث تحمل آل بيت الرسول وزر تلك الثورة واصبح " قميص عثمان" مرفوعا إلى يومنا هذا. وقد قامت ثورة دموية بسبب ذلك ضد رابع الخلفاء الراشدين الإمام علي بن أبى طالب ذهب ضحيتها آلاف من المسلمين كما دست عبرها ابشع قضية حق أراد بها باطل ( برفع المصاحف). ولم تمضي فترة طويلة حتى كانت ملحمة استشهاد الإمام الحسين سبط الرسول محمد (ص) الذي لم يرفع السلاح من اجل السلطة وانما اختير لها ودعي لتوليها وتحمل مسئوليتها وقتل وأفراد عائلته وقطع رأسه الشريف ونقل على الحراب إلى دمشق. اليس هذا كان درسا للذين يقطعون رؤوس العراقيين اليوم ويمثلون بأجسادهم كما فعل سلفهم ؟ أو انهم اخذوا من الآية الكريمة( فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ، سورة محمد الآية 4) وان الثورات الدامية في التأريخ العربي ـ الإسلامي متشابه بغض النظر عن دعاتها من اليمين أو اليسار كما نسمي الآن الاتجاهات السياسية حيث كانت ثورة القرامطة فإذا كان الخوارج قد وضعوا حجر الأساس للمعارضة السياسية الجماعية بخروجهم ضد الإمام علي بن أبى طالب ومارسوا كافة أنواع التنكيل والقتل والتعذيب ضد خصومهم، وإذا كان أصحاب الزنج قد عمموا روح المعارضة بين عامة الناس برفقة العنف بابشع صوره، فان للقرامطة دورا كبيراً في بلورة قوى المعارضة المنظمة ضد مركزية الخلافة، وعلى الرغم من أنها كانت ثورة متكاملة،كما يسميها بعض الباحثين، بأهدافها وأساليبها وأبعادها الاجتماعية والاقتصادية التي لم تقتصر آثارها على منطقة الخليج بل امتدت من جنوب العراق إلى ارض الشام ومصر لكن سادتها روح انتقامية دموية وأساليب بشعة ضد خصومهم. وإذا صنفت بلغة العصر الحديث عن فكر اليسار او اليمين فيمكن اعتبار القرامطة حركة يسارية تمركزت في الخليج قابلتها دولة الأمويين في الشام التي مثلت أقصى اليمين في تأريخ الدولة الإسلامية -العربية. وان اختلف البعض في تقيم حركة القرامطة او ثورتهم فان البعض من المستشرقين يسمون اتباعها "بشيوعيي الإسلام". والبعض الآخر ينظرون إليها كحركة اجتماعية فكرية إصلاحية تهدف إلى إيجاد مملكة "أممية" يسودها السلم والمحبة عن طريق أنظمة متطرفة تنشد العدل والمساواة، خصوصا في المسائل الاقتصادية والاجتماعية. والكثرة الباقية تقدحها حيث اعتبرت اتباعها دهريين ملحدين في أفكارهم الدينية وكذلك إباحيين في انظمتهم وعاداتهم الاجتماعية. وعدهم الكثير ايضا يعتبرهم من الزنادقة لانحراف تفكيرهم وحرصهم على هدم " الدين الإسلامي" والقضاء عليه مستشهدين بأن قرمط سار إلى صاحب الزنج قبل هلاكه ليتفق معه على " هدم الإسلام" وتخريب دياره. وقد تحركت جموعهم إلى بلاد الحجاز ودخلوا المسجد الحرام وسفكوا دم الحجيج واقتلعوا الحجر الاسود وذهبوا به إلى بلدهم سنة 317 للهجرة/929 للميلاد وأبقوه في البحرين قرابة العشرين عاما. فقد أكد ابن خلدون أن: " دعوة القرامطة لم يظهرها أحد من أهل نسب العلوية ولا الطالبيين" وإنما قام بها أولا رجل اسمه الفرج بن عثمان القاشاني ( من مدينة قاشان الفارسية)الذي لم يتمكن من تكوين دولة له في الكوفة. وبعده في عام 378 هجرة أسس ابو سعيد بن الحسن بن بهرام الجنابي دولة القرامطة في البحرين. وهذا ما يرجحه ابن الأثير أيضا الذي يرى أن دعوة القرامطة قد نشأت بين سواد أهل الكوفة. وبالرغم من التكتم الذي أحاط بزعيم القرامطة إذ لم يذكر اسم مؤسس الدعوة إبان ذروة نشاطهم بين أواخر القرن التاسع الميلادي وأواسط القرن الثالث عشر فان أغلبية المراجع تشير إلى أن حمدان قرمط بن الأشعث هو مؤسس حركة القرمطيين في واسط (بين الكوفة والبصرة) عندما انشأ "داراً للهجرة" كمركز لنشر دعوته خلال عام 892 ميلادي ثم كلف دعاته بإنشاء فروع للحركة أهمها على الإطلاق فرع (البحرين). ولم يكن القرامطة افضل من الذين سبقوهم ولا الذين جائوا بعدهم في تعاملهم مع معارضيهم ولم يسجل التأريخ الإسلامي صفحة واحدة من التسامح الفكري لهذه المجموعة او غيرها من تلك التي سميت بالثورة او الحركة او غيرها.

كما اعترضت مسيرة التاريخ الإسلامي في العهد الأموي ثورات أهمها: ثورات من أجل الخلافة كما كانت ثورات الخوارج وثورات المرجئة وثورات الولاة والعمال وكلها ثوارت سادتها روح الانتقام والقتل والتعذيب والتمثيل بالموتى. وقد تفجرت هذه الثورات في العراق وخراسان وفي الحجاز وفي إفريقيا( بلدان المغرب العربي اليوم)، وتولت السلطة قمعها حيث استعملت أشد ألوان القمع، وأشهر ممثلي القمع السلطوي في الإسلام زياد ابن أبيه وابنه عبيد الله بن زياد والحجاج بن يوسف الثقفي ويوسف بن عمر الثقفي ويزيد ابن أبي مسلم الثقفي وقرة بن شريك وعدد لا يحصى من الخلفاء والولاة ورجال الشرطة وقادة الجيش الذين سملوا العيون وعذبوا اشد انواع العذاب اعدائهم وقطعوا الرؤوس والاطراف ومثلوا بالموتى . وكان الضحايا رجال الفكر وعلماء الدين ورجال الثقافة. وبقمع تلك الثورات ثبت حكم بني أمية كما ثبت حكم الكثير من الخلفاء والولاة وكذلك كانت فيها نهاتيهم وانهيار دولهم ومماليكهم. وفي بداية العصر العباسي كان شمال خراسان خارج المنطقة العربية في الحكم حيث قامت ثورة قادها شريك بن شيخ المهري ( أو المهدي)، وايده كثير من الناس من أهل شمال خراسان، وخاصّة من منطقة "بخارى " (اهم مدن اوزبكستان الحالية)، قمعت تلك الثورة من قبِل أبي مسلم وقائده على الجيش زياد بن صالح، وأُحرقت مدينة بخارى معقل الثائرين لاكمال، وأُعدم عدد كبير من أهلها. ثمّ قُتل أبو سَلَمة الخَلاّل، القائد السياسي لتلك الحركة في الكوفة. اما ما تعرض له بعض من من آل البيت وعلماء دين اغنت الموضوع الكثير من المؤلفات اذكر منها " التعذيب في الإسلام لهادي العلوي ) وغيرها الكثير.

هددت ثورة الزنج كيان الدولة العباسية أكثر مما هددها الأتراك. والزنج كانوا جماعات من العبيد السود المجلوبين من أفريقيا الشرقية للعمل في استصلاح الأراضي الواقعة بين مدينتي البصرة وواسط، وكان عددهم كبيرا يُعدّ بالألوف ويعملون كماعات، ويعيشون حياة سيئة ولا يتقاضون أي أجر كما لا يتجاوز قوتهم اليومي قليلا من الطحين والتمر والسَّويق. استغل "علي بن محمد" هذه الأوضاع وكان رجلا طموحا مغامرا فنجح في استمالة الزنج إليه، مستغلا أوضاعهم السيئة فمنّاهم بالتحرر من العبودية وتمكينهم من الوصول إلى السلطة، ثم اشتط في دعوته فادعى صفات النبوة، وأعلن أنه مرسل من الله لإنقاذ العبيد البائسين، وانتحل نسبًا إلى آل البيت. نجح صاحب الزنج في فترة قصيرة (255-261هجرة / 869-875م) من أن يسيطر على البصرة وما حولها. وبعد نجاحه في هزيمة جيش الدولة، امتد نفوذه ليشمل الأهواز وعبادان وواسط، وكانت سياسته مبنية على العنف والإرهاب وإراقة الدماء؛ فدمر المدن التي احتلها وأباد كثيرا من أهلها وعاث فيها فسادا، وما فعلوه بالبصرة إلا خير دليل على ذلك؛ حيث ذكر المؤرخون أن الزنج قتلوا أكثر من 300 ألف شخص بالبصرة وحدها، وأسروا عددا كبيرا من النساء والأطفال. وهذا لا يختلف عما فعل في مكة المكرمة في العصر الاموي الاول من قصف الكعبة بالمنجنيق واغتصاب النساء وقتل آلاف من أهلها.
فالثورات كثيرة التي مرت عبر التأريخ البشري ولسوء الحظ كانت حمراء سالت من جرائها دماء الإبرياء أيضا. وإذا نظرنا إلى التأريخ الحديث وليس ابعد منه ابتداء من الثورة الفرنسية مرورا بثورة عام 1905 في روسيا التي سميت ب " الأحد الدامي" لكمية الدماء التي سالت بفضلها ومن بعدها ثورة أكتوبر البلشفية عام 1917 التي كان عدد ضحاياها اكثر من عشرين مليون إنسان. أما الثورات في عالمنا العربي ليست بعيدة عن ذلك، أولها كما سميت " ثورة يوليو" التي قام بها مجموعة من الضباط المصرين عام 1952 والتي ربطت الامة العربية حالها بعد مخاض من اجل التحرر الوطني بشخص قائد تلك "الثورة" كما قال عن ذلك الشاعر العراقي بدر شاكر السياب :
يا أمة تصنع الأقدار من دمها لا تيأسي إن عبدالناصر القدر

وعلى الرغم من بداياتها "البيضاء " وعلى الرغم من النهضة القومية التي حفزتها نظريا وإعلاميا لكنها لم تختلف عن سابقاتها حيث جلبت المآسي للشعب المصري خاصة، والشعوب العربية عامة ومنها حمامات حامض الاكسيد وسجون أبو زعبل والمزه وغيرها كما كانت من اخطائها دماء العرب الآخرين في العراق( حركة الشواف ) واليمن وغيرها مرورا بالأول من سبتمبر/ ايلول الليبية عام 1969 وأختها اليمنية والسورية والموريتانية وغيرها. ولم يستطع العرب التغير إلا بجنازير الدبابات ورصاص بنادق الجنود وحكم العسكر والاجهاض على أي رغبة لدي الناس في المساواة والعدالة الاجتماعية والحرية الفكرية . ودخل مصطلح العسكرياتية في قاموسنا العربي ممثلا لحكومة العسكر وسلطات الجند ببدلة الكاكي كمظهر للسلطة في الحكم التي امتازت بالاستبداد وفي هيمنة الجند على السلطة ومؤسسات الدولة وتسخيرها لمصلحتها. وتسابق وعاظ السلاطين بتسمية ذلك الاستبداد العسكرياتي بالثورة تارة او حركة انقاذ او خلاص...الخ. وبقوا كذلك على الرغم من كشف زيفها في مصر وسوريا او في ليبيا او السودان، في اليمن او مرريتانيا، وبقيت لدي الكثيرين منهم اربعة عقود من القمع والارهاب من قبل السلطة البعثفاشية في بغداد "كعروس الثورات" على الرغم ما جنته على واقعنا الحالي وما خلفته من انتكاسات وتأخير في تطور بلداننا. بتلك وغيرها من "ثورات " العساكر العربية كانت عملية فوقية بعيدة عن مشاركة ورغبة الجماهير صاحبة المصلحة في التغير.

يتبع