مما لا شك فيه ان المنطقة العربية فتحت صفحة جديدة في تاريخها الحديث في اليوم التاسع من نيسان عام 2003 عندما اطيح بالصنم البعثفاشي ومن ثم انتصار ثورة الاصابع المزينة بحبر الاقتراع في الثلاثين من كانون الثاني الماضي. ومن نتيجة ما جرى في نيسان قبيل عامين شهدت المنطقة وتشهد احداث عظيمة إذا نظر إليها من منظور التغير في وعي الناس. فالاول مرة في تاريخ المملكة العربية السعودية تجري انتخابات، ولو انها ناقصة من حيث عدم مشاركة المرأة فيها ولكنها خطوة كبيرة للامام. خروج مظاهرة في مصر تعترض على عملية توريث الرئاسة فيها حيث تظاهر مئات المصريين أمام جامعة القاهرة يوم الاثنين 21 شباط الحالي ضد التمديد للرئيس حسني مبارك لولاية خامسة قد تتيح له البقاء في الحكم 30 عاما، وضد ما يتردد عن توريث الحكم لابنه الأصغر جمال.ونظمت المظاهرة "الحركة المصرية من أجل التغيير/كفاية" التي تضم مثقفين وصحفيين وكتابا ونقابيين مصريين.وردد المتظاهرون "لا للتمديد, لا للتوريث". كما اعلن جورج اسحق المنسق العام للحركة أن الحركة ستواصل تحركاتها الشعبية حتى يتم تعديل الدستور المتعلق برئاسة الجمهورية.

المظاهرات السلمية في لبنان ضد وجود القوات السورية فيها مؤشر جيد على وعي الجماهير في عدم استخدام العنف في العمل السياسي وكان نداء سمير فرنجية، الذي دعا مثقفي العالم العربي للتضامن مع لبنان ومع معارضته معتبرا خروج القوات السورية من أجل استقلاله. وفي الدعوة السلمية للبنانيين وهم من اكثر الشعوب العربية تجربة باساليب الحرب لما عاشوه خلال الحرب الاهلية التي امتدت حوالي حوالي ستة عشر عاما مؤشر مهم. كما وجد الشجاعة 70 مثقفا سوريا في المطالبة بخروج قوات بلدهم من لبنان واعطاء اللبنانين حرية القرار دون املائات خارجية، حتى من قبل الاشقاء. وان "الحبل على الجرار" كما يقول المثل. وفي انتخاب الجمعية الوطنية العراقية الجديدة خطوة اكبر من واسعة في ارساء النظام الديمقراطي وترك الارث الدكتاتوري وراء العراقيين. وان نجاح الانتخابات يعود بالدرجة الاولى لشجاعة العراقيات والعراقيين الذين تحدوا كافة انواع التهديد والوعيد التي حملتها منشورات الارهابيين من سلفين كالزرقاوين الذين يعتبرون الانتخابات بدعة وجماعات النظام الساقط الذين تعودوا على انتخابات يحصل فيها "فأر العوجة " على نسبة مائة بالمائة، وكذلك من اجل جر عقارب الساعة إلى الخلف. ان ارادة العراقيين افشلت كل محاولات ايقاف بناء عراق جديد عن طريق انجاح الانتخابات وكانت عبرها رسالة العراقيين ضد الارهاب ومن يقف وراءه. وبما ان التجربة العراقية رائدة في منطقة الشرق الاوسط في ارساء انظمة ديمقراطية حقيقية لا بد ان تكون ايضا مثالا يحتذي به عما ستكون عليه طريقة ممارسة العمل السياسي من قبل المنتصرين فيها وكذلك من خسرها. ان في ذلك امثلة يمكن ان تكون مستحدثة في مجال الممارسة الديموقراطية والوعي السياسي لأن الفشل فيها سوف يلقي بظلاله السلبية على مجمل عملية إعادة السيادة لمواطني الشرق الاوسط في ان يكونوا غير مستبعدين من قبل انظمة شمولية او شبه شمولية او انظمة جمهورية ملكية او قبلية وايقاف مشروع دمقرطة المنطقة التي يتمناها اغلبة مواطنيها. وقبل الحديث عن الامنيات التي ينتظرها الكثيرين ليس في العراق وحسب، وانما في العالمين العربي والإسلامي وفي العالم اجمع عن اسلوب العمل الديمقراطي الذي سيمارسه اعضاء الجمعية الوطنية في تحقيق الاهداف المعلنة في برامج الاحزاب والفعاليات التي حصلت على شرف عضويتها، لا بد من العودة إلى مرحلة الانتخابات التي كانت في ضروف غير عادية لما كان للجانب الامني فيها من تاثير، هذا من جانب ومن الجانب الآخر عدم وجود فرص متكافئة للقوائم التي ساهمت في الانتخابات على الرغم من ان عددها زاد على المائة وذلك :
1.حصلت بعض القوائم على دعم ظهر غير محدود عبر ما صرف على الحملة الانتخابية من دعاية عن طريق الاعلانات وطباعة البوسترات التي ملئت المدن العراقية في الوقت الذي لم تحصل القوائم ذات التوجه الوطني العراقي على دعم يؤهلها من طباعة اكثر من بوستر دعائي واحد وبمجهودها الذاتي وهذا ما دعى الكثيرين في الشك بانها من مصادر خارجية وهذا ما يتنافى اساسا مع قانون الانتخابات في الدول الديمقراطية.
2.دخول احزاب قومية ودينية كبيرة في إتلافات حرمت الناخب العراقي من معرفة الفرق في برامجها السياسية منفردة وكذلك معرفة حجمها السياسي في الشارع وهذا شمل الحزبين الكرديين والحزبين الشيعيين، المجلس الاعلى وحزب الدعوة. ويمكن اعتبار قصور في عملية المنافسة الصحيحة التي يمكن تمثيلها في قانون "الاحتكار" في المجال التجاري حيث يحرم تكوين مجموعة شركات كبيرة تجمعا مع بعضها يسيطر على السوق ويحرم التنافس الشريف وخاصة بالنسبة للاقل قدرة.
3. اقحام الدين الإسلامي بشكل واسع في تايد احد القوائم على حساب القوائم الاخرى وقد سيس الدين كما تحول رجال الدين إلى قادة سياسيين يفتون بتأيد قائمة محددة دون سواها وقد وصل الامر حتى في شكل الشعارات واللافتات والبوسترات التي ملئت المدن العراقية بان القائمة تلك ايدها المرجع الديني وبالتالي حازت على رضى الله. او في دعوة العراقيين العائدين من الحج انتخاب القائمة تلك من اجل ان تكون حجتهم مقبولة. اقحم الدين بشكل واسع في مجمل العملية السياسية واستغل ايضا رجاله مكرهين مرة ومرة اخرى تحت رغبة المشاركة الفعلية في العمل السياسي حتى وصل الامر إلى " تعريق " ولاية الفقيه الإيرانية وذلك ليس ان احد القوائم جمعت اسماء اعضائها حسب دعم المرجع الديني السيد السستاني وانما يستشار أيضا في اختيار رئيس الوزراء. ومن يدري لربما سيعرض عليه برنامج الحكومة العراقية القادمه لكي يفتي بصوابه او فشله. ان الفرق بين ولاية الفقيه الإيرانية هو ان السيد على خامنئي المرجع الديني والحاكم السياسي. اما في العراق فالمرجع الديني يوجه العملية السياسية عبر مجموعة من المقربين إليه مثل الدكتور حسين الشهرستاني الذي سمي "عراب" قائمة الائتلاف الوطني الشيعية.
4.قطاعات غير كبيرة بالنسبة لعدد الناخبين في الانتخابات لم تشارك لاسباب مختلفة منها طاعة جماعة علماء الدين السلفية التي تخاف الديمقراطية ويرعبها حكم الاغلبية. وثانيا جماعات النظام الساقط الذين أرادوا التعبير عن رفضهم خسارة مراكز القوة التي كانوا يتمتعون بها في ظل النظام القبلي والمناطقي والطائفي. واخيرا لم تستطع اغلبية عراقي المهجر الوصول إلى مراكز الاقتراع ليس فقط في الدول الاخرى التي فيها المراكز وانما حتى في الدول نفسها لبعد المسافة وكلفة النقل التي هي قليلة لمهاجرين اغلبهم في ضروف اقتصادية غير جيدة.
وهناك عوامل اخرى. لكن الاهمية تكمن في التجربة العراقية للمنطقة في نجاح الانتخابات ومشاركة حوالي 60 بالمائة من عدد الناخبين وهذا مؤشر قوي على شرعيتها. وما ينتظره العراقيون والعرب كيف يمكن ان تكون الممارسة الديمقراطية لممثلي العراقيين في الجمعية الوطنية من اجل ان تكون التجربة العراقية مثال يحتذى به ؟ فبعد اعلان النتائج النهائية قدم العراقيون تهانيهم لكل لفائزين. وان حصول احدى القوائم على الاغلبية من مقاعد البرلمان ليست الاولى في الدول الديمقراطية ولكن العبرة في كيفية تكريس هذا النجاح في خدمة الوطن والشعب، خاصة إذا عرفنا ان الضروف الاستثنائية التي مر بها العراق واستغلال الدين في الحملة الانتخابية كانت السبب من حرمان العديد من الفعاليات السياسية من دخول البرلمان والمساهمة في تحقيق قدر اكبر من انجاح العملية الديمقراطية وبالتالي يقع على عاتق القائمة الفائزة اكبر المسؤوليات التي يمكن ان تتحملها اي مجموعة تحصل على الاغلبية في دول العالم وذلك للارث التأريخي الذي خلفه النظام الساقط في بغداد وكذلك تعقد المشاكل الدينية والقومية وتقاطع المصالح الوطنية مع المصالح الطائفية في بعض الاحيان او القومية في احيان اخرى. ان العبرة في هذا النجاح اثبات الولاء للعراق الموحد والتفاني في تحقيق امنه ووحدته وصيانته من التدخل في شأنه الداخلي من دول الجوار واخذ مصلحته ومستقبله فوق اي اعتبار، مهما كان طائفيا او قوميا او مناطقيا. انا اشك بان ولاء القائمة الفائزة لإيران وعلى الرغم من اعطاء اصحاب هذا الرأي الكثير من المبررات لارتباط العديد من شخصياتها بإيران ليس فقط لضروف ما قبل التحرير من سلطة البعث فاشي وانما اديولوجيا طائفيا. متخذين مثال زيارة من مثل العراق في عهد مجلس الحكم في جولته الخارجية لرفع الديون عن الشعب العراقي او تخفيضها ومطالبته دفع تعويضات لإيران قدرها مائة مليار دولار ؟ او عدم استنكار التدخل الإيراني المفضوح في الشأن العراقي الذي بات معروفا. وعلى ذلك الاساس وغيره كتبت اكثر من وسيلة اعلام بان العراق قدم لإيران على طبق كلفته "كذا" مليار دولار وهو مقدار ما صرفته الولايات المتحدة ودول التحالف في عملية "الحرب على العراق " أي تحريره من السلطة البعثفاشية. نعم فرحت إيران اكثر من فرح الفائزين انفسهم بالانتخابات على الرغم من انها لم تمارس العملية الديمقراطية كما مارسها العراقيون في وجود قوائم زاد عددها المائة ولكن فرحهم جاء على امل ايصال تأثيرها المباشر على السياسة العراقية عبر قبة البرلمان العراقي. يتمنى الوطنيين العراقيين جميعا فشل ذلك التصور ليس فقط لما ذهبت إليه وسائل الاعلام تلك وانما فرح القادة الإيرانيين انفسهم لوجود الكثير من اعضاء قائمة الائتلاف الوطني الشيعية من الوطنين العراقيين. ان اولى الخطوات الصائبة ترشيح الدكتور ابراهيم الجعفري رئيسا للوزراء. اثبت الرجل في كثير من الحالات الولاء للعراق والعراقيين والدفاع عن مصالحهم. وفي مطالعة سريعة للقوائم التي لم تفوز في الانتخابات او بعض الاسماء يشعر بان الذين لم يدخلوا البرلمان لا يقلون وطنية عن الكثير من الذين دخلوه ولربما هم اكثر منهم وطنية واخلاصا للعراق الموحد. ان الضرف الاستثنائي الحالي اعطى هذه النتيجة وعلى الرغم من ذلك يمكن اعتبارها خطوة ولو صغيرة لبناء العراق الجديد. الامل من ان القائمة الفائزة ان تقدم للعراق اولى صور الاخلاص في تشكيل حكومة من الوطنين العراقيين والاكفاء وليس على مبدأ المحاصصة الحزبية والولاء الطائفي. ان تجد من يستطيع تمثيل العراق في الخارج من ابنائه الكفوئين البررة. ان تضع قاعدة واسعة للمساهمة في وضع الدستور العراقي وأن تنصب الجهود في التعاون مع كل الفعاليات العراقية داخل البرلمان وخارجه لكي يكون دستورا لكل العراقيين ضامنا حقوقهم القومية والدينية والحرية الفردية بعيدا عن تسلط العقد الدينية او المذهبية او القومية لاي قومية في العراق بمشاركه كافة العراقيين بغض النظر إن شاركوا في الانتخابات او لم يشاركوا، المهم انهم مع العراق الجديد وضد الارهاب. صياغة دستور قائم على مبادئ حقوق الإنسان، و بناء عراق ديمقراطي، فدرالي، تعددي، وعلماني موحد، يضمن حقوق المرأة وحريات المعتقد والفكر والتعبير والحريات العامة وحقوق الأقليات القومية والدينية ليكون العراقيون نساءً ورجالاً متساوين في الحقوق والواجبات وبناء مجتمع مدني وتعزيز دور دولة المؤسسات والمساوات أمام القانون لجميع العراقيين بغض النظر عن القومية والدين والمنطقة. ان يكون دستورا يضمن وحدة العراق الجغرافية مع الاخذ بخصائص الشعب العراقي متعدد القوميات والديانات واعتبار كل قرية او مدينة عراقية هي ملك لكل العراقيين كما هي ثروات العراق وتراثه وعدم الانجراف من اجل مكاسب سياسية مؤقتة في وضع قنابل موقوتة في مستقبل العراق السياسي ووحدته ووحدة ابنائه. الولاء للعراق في اختيار رئيس الدولة، اعضاء الحكومة، السلك الدبلوماسي العراقي الجديد عن طريق الكفاءة والنقاء الاداري. تحقيق الامن للعراقيين والبدأ في اعماره، بناء الوحدة الوطنية وتوسيع قاعدة المصالحة بين ابناء الشعب العراقي. الاستفادة من خبرة السياسيين الذين لم يدخلوا البرلمان في بناء الدولة العراقية الجديدة. في هذه الحالة فقط يمكن ان تكتمل الصورة الامل لشعوب المنطقة في نجاح التجربة العراقية. تحية لكل عراقية وعراقي حمل روحه على كفه وساهم في الانتخابات ودعم اللبنة الاولى في صرح العراق الجديد. تحية لتلك العائلة العظيمة التي قسمت ابنائها جماعات من اجل الاشتراك في الانتخابات حتى ولو اغتيلت مجموعة منها فان المجموعة التالية ستساهم ومثلها الكثير. لا تدعوا الفرح بالنصر ايها الفائزون يعمي ابصاركم. ولا تنقلوا تجارب دول الجوار في الولاء الطائفي والتقليد الاعمى. ان العراق هو العراق لا تشابه ضروفه ضروف دول اخرى. وانها فرصة الاختبار ليست الاولى للبعض منكم ولكنها حتما الاخيرة، فيجب عدم اضاعتها. هذا هو العراق الذي بدأ طريق الالف ميل، وعلى سياسيه ان تكون خطواتهم سليمة ليس من اجل العراق فحسب، وانما من اجل جميع دول المنطقة.