يبدو أن الرياح العالمية تجري عكس ما كانت تشتهي السفن السورية في لبنان. التقرير الذي قدمه رئيس لجنة تقصي الحقائق الأممي بيتر فيتزجيرالد بشأن اغتيال الرئيس الحريري كان خطيراً للغاية. وعلى ما يظهر أننا نشهد بداية أزمة جديدة أخرى للنظام السوري الحاكم في دمشق، إضافة إلى أزمة القرار 1559 ، من شأنها إدخال السوريين والأجهزة اللبنانية الأمنية المتحالفة معهم في لبنان، في نفق مظلم آخر، تؤكد كل المؤشرات أنه سيكون شبيهاً إلى درجة كبيرة بما حل بميلوسوفيتش الصربي وأعوانه.
لجنة (التحقيق الدولية) المزمع تكليفها من الأمم المتحدة للتحقيق الفعلي في اغتيال الحريري، والتي كانت السلطات السورية واللبنانية تعمل بكل استماتة على تفاديها، يبدو أنها الآن أصبحت أمراً واقعاً، شاء السوريون واللبنانيون أم أبوا. هذه اللجنة ستكون مهمتها مشابهة إلى حد كبير لمهمة وأهداف وذرائع لجنة (البحث عن أسلحة الدمار الشامل) في العراق، والتي وصل محققوها إلى غرف نوم صدام. ولا أعتقد أن مهمة هذه اللجنة المزمع إنشاؤها في لبنان ستكون بصعوبة لجنة البحث عن أسلحة الدمار الشامل في العراق. حيث أن لسوريا، وللسلطات اللبنانية المتحالفة معها، الكثير من الأعداء الذين سيسهلون أهداف ومهام هذه اللجنة، إضافة إلى الممارسات السورية التاريخية الحافلة بالاغتيالات السياسية، والتي يصعبُُ على (الغربال) السوري المهترىء هذه الأيام أن يمنعَ شمسها من الظهور.
وفي ظني أن لجنة التحقيق الدولية القادمة إلى لبنان ستدخلُ بحجة التحقيق في مقتل الحريري في البداية، غير أنها بكل تأكيد ستمر في طريقها نحو هدفها (بتاريخ) حافل من الاغتيالات السياسية الأخرى طوال أكثر من ربع قرن على الوجود السوري في لبنان، والتي سيتورط فيها أسماء سورية ولبنانية كثيرة، منها من قضى نحبه ومنها من ينتظر.
والسؤال: أمام هذه التداعيات والتطورات التي يبدو أنّ من صمم خطة اغتيال الرئيس الحريري لم يأخذها في الحسبان؛ كيف سيواجه المتورطون تكالب هذه الظروف الغير متوقعة عليهم؟.
سوريا لم يبق لها في لبنان جيش ولا أجهزة مخابرات، ولم يعد لها من تحالفات يمكن التعويل عليها أمام هذه الضغوط التي ستتزايد بكل تأكيد مستقبلاً سوى حزب الله اللبناني، وأمينه العام حسن نصر الله. حزب الله حقق أول انتصار عسكري على الإسرائيليين في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، واضطرهم لأن يولوا الأدبار، ويُخلوا الجنوب اللبناني المحتل مرغمين. هذا الانتصار هو مصدر قوة حزب الله في الداخل اللبناني، وهو في الوقت ذاته السبب الذي حدا بالقرار الأممي 1559 لأن يجعلَ من نزع سلاحه مطلباً دولياً. فكيف سيتعامل حزب الله مع هذه التطورات السياسية، وهل سيلعب في الساحة السياسية بنفس المهارة والذكاء التي لعبَ بهما في ساحات الحرب و المقاومة؟.
الحقائق على الأرض تقول : أن حزب الله لم يعد لديه سياسياً الكثير من الأوراق التي بإمكانه اللعب بهما.
سوريا في حاجته أكثر مما هو في حاجة إليها، وليس هناك ما يدفع حزب الله للذهاب مع دمشق إلى نهاية الطريق، الذي يبدو أنه يتجه بالنظام السوري نحو النهاية. ويُدرك قادة حزب الله أن الوفاء ليس له أهمية في قاموس السياسة قدر أهمية المصالح.
الورقة الإيرانية لم تعد بالقوة التي كانت عليها قبلاً. فإيران تواجه أزمة المفاعل النووي الإيراني، التي تكرس لها كل طاقاتها وإمكانياتها السياسية. وربما تكون الورقة الإيرانية التي كانت مصدر قوة لحزب الله في السابق، مصدر خطورة عليه الآن، فيما لو اضطرت إيران إلى اللعب بها للتخفيف من الضغوط عليها في حمى التجاذبات السياسية بيتها وبين الغرب. وهذا ما تدركه قيادات حزب الله بكل تأكيد.
إذن... فإن الواقعية و المنطق، وتداعيات الأوضاع السياسية في لبنان، بل وفي المنطقة أيضاً، وبالذات بعد تقرير لجنة تقصي الحقائق في مقتل الرئيس الحريري، تجعل من المثل العربي المأثور: أنج عمرو فقد هلك زيد، أو أنج (حزب الله) فقد هلك (حزب البعث)، هو عين العقل. فهل سيدرك حسن نصر الله ذلك ؟. الأيام القليلة القادمة ستجيبُ على هذا السؤال.