مستقبل العراق بين الوجود والعدم / 16

أفتى أو أصدر سماحة المرجع الديني الكبير آية الله علي السيستاني فتواه القاضية بضرورة التعاون مع الأجهزة الأمنية الرسمية في سياق مواجهة الإرهاب، وملاحقة القتلة والمجرمين و السفاحين الذين أحالوا العراق إلى ساحة دموية، وتشير الأخبار أن وكلاء السيد الجليل تنادوا بذات الطلب إلى الناس من خلال محاضراتهم وكلماتهم وتعليماتهم، وذلك تبعاً للطلب والعمل به، وتشير الأخبار أيضاً أن الناس تفاعلوا مع الفتوى الكريمة، وسارعوا إلى تقديم كل عون إلى الجهات المسئولة عن حفظ الأمن.
ليس من شك أن هذا الموقف امتداد للمواقف الطيبة التي كان قد إجترحها سماحته من أجل السلام الاجتماعي، ومن اجل تفويت الفرصة على كل محاولة تهدف إلى تمزيق النسيج الاجتماعي للشعب العراقي، هي امتداد لفتواه بتحريم دخول غير العراقي إلى العراق بغير إذن رسمي، محاولة منه لصد العابثين بشؤون هذا البلد من المتسللين المخربين من دول الجوار بلا استثناء. وهي امتداد لطلبه بتجريد المليشيات غير الرسمية من السلاح غير المسموح له، وهي امتداد لإصراره على أجراء الانتخابات في موعدها المحدد.
ولكن ماذا بعد هذه المواقف الكريمة الشجاعة؟
في تصوري أن وعي المرجع الكبير أكبر من رهن العمل الشعبي الحضاري بفتوى تصدر منه !
هل فهمنا المقصود؟
أن المرجع الكبير يريد شعبا يفهم تكاليفه الإنسانية والشرعية والروحية والوطنية من خلال وعيه، من خلال ثقافته، من خلال وطنيته، من خلال إحساسه بالمسئولية، ولا يعجبه ــ كما أتصور ــ أن يكون كل ذلك مرهوناً بفتوى تصدر من سماحته.
أليس كذلك؟
هذه المواقف التي صدرت وتصدر عن سماحته الكريمة، إنَّما هي بداية لتربية الناس على اتخاذ المواقف الطيبة، المواقف المسئولة، المواقف الوطنية، المواقف الحضارية من دون انتظار فتوى بذلك، وتلك هي السمة الأولى لكل شعب حضاري يعرف وظيفته.
المرجع في هذه الفتاوى وفي هذه المواقف يريد دمج الشعب بمسؤولياته من خلال تفاعله مع القانون، واحترامه للأصول العامة، وتماهيه مع الدولة كمعاون ونصير وداعم، وليس كمعارض بلا سبب، ومستهلك بلا إنتاج، وكمواطن لا يحترم حق المواطنة.
ليس المهم هنا الفتوى...
أبدا
الهدف البعيد هنا هو مران... تنبيه... تربية... تعليم... توجيه... الدخول إلى حريم الحياة القانونية، الحياة الدستورية، رفض للكسل الروحي، تبديد للمواقف السلبية...
الفتوى هذه فضائية المعنى...
فهل نحتاج بعد إلى فتواه حفظه لله لمحاربة مهربي النفط تحت عناوين شرعية !
وهل نحتاج بعد إلى فتوى سماحته بضرورة الكف عن التوسط بالوظائف المهمة، حيث تفيد بعض الأخبار أن هناك من يتولى مثل هذه الممارسات باسم الوكالة عن المرجعية الدينية الشريفة؟
وهل نحتاج إلى فتواه أيده الله بتحريم الهجوم على الناس بالهراوات والعصي بحجة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، خاصة إن الذي يقومون بمثل هذه الأعمال الإجرامية لا يجيدون فهم حكم شرعي واحد؟
الآن أنتقل لمسألة أخرى...
أقول : ألا نفهم من الفتوى أو الطلب أن السيد الكبير ــ مثلا ــ يحز في نفسه أن يرى مدينة الثورة أو غيرها تطوف على مياه الأمطار؟
فهل يتنادى ( الثائرون، وعلماء الدين، والغاضبون على الكفار بالخطب الرنانة ) بحملات شعبية لتنظيف هذه المدن، ولو على غرار النداءات بنصرة ( حماس !) في فلسطين، وعلى غرار النداءات الداعية إلى التظاهر ضد المحتل، وعلى غرار الحملة التي قادها ( المتدينون ) على طلبة البصرة الفسقة الكفرة الملاعين؟
إن فتاوى السيد الجليل تعليمية...
مرة كنت أشتغل في جريدة عربية في طهران، وقد كنت مشغولا بكتابة مقال عن طبيعة الديكتاتورية التي تحكم في العراق، فاجأني رئيس التحرير بتغيير الموضوع، فقد كانت سفن تجارية كثيرة محملة بالبضائع من اليابان وغيرها ترسو على ميناء خرم شهر، وقد لبثت أسابيع رابضة على الساحل، حيث لم تستطع وزارة النقل الإيرانية أقناع السواق بجلب البضائع من الساحل المسكين إلى المخازن في طهران وغيرها لسبب وآخر، وفي خطاب للإمام الخميني أشار إشارة عابرة إلى ذلك، فما كان من سوق السيارات الكبيرة إلاّ التقاطر على الوزارة، الأمر الذي دعا الوزارة إلى الإعلان عن كفايتها، حيث فاض الإقبال عن مستوى الحاجة بكثير... وقد طلب من رئيس التحرير أن أكتب عن هذا التلاحم الكبير بين طلب المرجعية الدينية والشعب في ضوء هذه المفارقة المدهشة !
رفضتُ الكتابة !
كانت دهشة رئيس التحرير كبيرة، متهما إياي بكره ( الإمام )، كما كان شائعا عني، ثم طالبني بالكتابة لأني أولا وأخيرا مجرد موظف يجب علي أن أطيع. وبهدوء قلت له : ولكن هل تعرف لماذا رفضت؟
سأل عن ( فلسفة ) ذلك بنوع من الاستهزاء، فأجبته : أن مثل هذا المقال يبرهن للعالم على أن الشعب الإيراني تحركه فتوى وليس حضارة !
أصدر المرجع الكبير هذه الفتوى أو هذا الطلب، وسوف يستجيب بعضهم إلى ذلك، يذهب إلى الجهات المسئولة ليدلي بما عنده من معلومات إليها في خصوص تحركات مشبوهة، أسلحة مخبأة، أشخاص مريبين، ولكن هل سوف يخبر الجهات المسئولة عن سرّاق النفط من على سواحل البصرة المسكينة؟ هل سوف يندم على تورطه برشوة توظيف في جهاز حكومي حساس؟
المسألة أكبر من استجابة لفتوى، المسألة تتعلق بروح الفتوى التي تتعدى حدودها المرسومة بكلمة أو كلمتين، هناك ثقافة الفتوى، والمرجع الكبير يريد توصيل هذه الثقافة عبر بعض جزئياتها.
لقد كان كاتب هذه السطور قبل سنة وفي مقال من موقع ( كتابات ) التمس بكل تواضع وفخر أن يصدر المرجع الكبير حفظه الله فتوى بتحريم زيارة العتبات المقدسة مؤقتا من جهة إيران، لما يمر به العراق من ظروف استثنائية، وكان له شرف الإشارة إلى ضرورة تشجيع الشباب على الانخراط في صفوف الجيش والشرطة، وذلك بطلب من الجهات الروحية التي لها قدسية في ضميرنا جميعا، واليوم ألتمس هذه الجهات أن تقف بحزم في وجه مهربي النفط العراقي إلى هذه الدولة أو تلك، وذلك من سماسرة، وأدعياء دين، وأن تطلب من الناس مساعدة الجهات المسئولة في تأدية مهمتها في هذا المجال، فيبدو أننا نحتاج إلى فتوى في ذلك، خاصة وفينا من يخاف الله تعالى في شرف العراق وأهله ! ودعاء من الأعماق أن يحفظ الله تعالى المرجعية الكريمة، فهي قوام وليست سببا عارضا. وإلى اللقاء في حلقة مقبلة أن شاء الله تعالى.