لطالما شكلت المسألة القومية للكورد في العراق صفحة من صفحات الظلم التي مورست بحقهم من جميع السلطات التي تحكمت في العراق على أثر ترتيبات الانظمة الاستعمارية التي سيطرت على العراق لتجعل من مصالحها ورغباتها السياسية والاقتصادية الأساس في تعاملها مع الشعوب، و هذه المصالح هي التي رسمت اسس الظلم الذي لحق بالكورد ليس فقط في العراق، وانما جراء تقسيمهم بين عدة دول وتهميشهم وتجاوز حقوقهم السياسية والقومية ومنع تطلعاتهم الانسانية المشروعة وتحريم مطالبتهم بتطبيق لوائح حقوق الأنسان التي أقرتها الانسانية عليهم، لقد تم الحاق الغبن الفاحش والظلم بحق الأمة الكوردية سواء في معاهدة سيفر او معاهدة سايكس بيكو أو في العهود والوعود التي اعطيت للشعب الكوردي تطميناً له لأستخلاص الحقوق القومية لهم في المنطقة، والتي لم تكن صادقة.
وليس فقط القوى الأستعمارية البريطانية من خذل المطالب الكوردية، فقد حارب الكورد في روسيا مع الجيش القيصري ضد الدولة العثمانية، على امل منحهم حقوقهم المشروعة، وحين انتهت الحرب قلب القياصرة لهم ظهر المجن وبطشوا بهم، بل وسلموا اعداد منهم الى العثمانيين ليتم اعدامهم والقضاء عليهم، ومثل ذلك ماصار مع الثائر الكوردي الشيخ سعيد النقشبندي الذي ثار ضد مصطفى اتاتورك وخذلته الدول الغربية، مثلما خذلت الثائر الشيخ محمود في ثورته في العام 1930، ونفس الشيء صار مع جمهورية مهاباد التي قادها قاضي محمد، كما حارب الكورد في ثورة العشرين جنبا الى جنب مع اخوتهم العرب والتركمان وأصابهم الحيف بعد ذلك، ثم ماصار مع ثورة القائد الملا مصطفى البارازاني مع النظامين الايراني والعراقي وما لحق الثورة الكوردية من خسائر وانتكاسات بسبب المواقف التي وقفتها الدول الغربية بالتعاون مع الانظمة الدكتاتورية والشوفينية في المنطقة التي كانت تضع مصالحها الأقليمية والدولية فوق مصالح وحقوق الشعوب.
ان كوردستان تعني موطن الأكراد وهي تشمل مساحات واسعة من الجنوب الغربي لقارة آسيا متوزعة بين تركيا وأيران والعراق وسورية، وأذ تتميز الأقاليم التي توزعت في هذه الدول بوجود أثني كثيف للكورد ضمن مناطقهم التي لم تستطع كل السلطات التي تعاقبت على حكم تلك البلدان ان تغير من طبيعتها او حقيقتها، فقد بقي الكورد في كل هذه البلدان محكومين من حكامها ورعايا تحت سلاطينها.
الا ان القاسم المشترك الذي بقي يسري في دساتير هذه الدول التي صار الكورد تحت رايتها كان الظلم الفادح والكبير الذي لحقهم في تهميش دورهم وقيمتهم الأنسانيــة ومشاركتهم في السلطات، لابل وصل الأمر ببعض هذه الدول الى منعهم من التحدث بلغتهم أو أعتبارهم مواطنين أكراد فعمدت الى تغيير قوميتهم رسمياًومارست في سبيل ذلك شتى الاساليب التي تؤدي الى تغيير قوميتهم ، واوغلت السلطات في ظلم ومنع الكورد من المطالبة بحقوقهم الدستورية والقومية، ومارست ضدهم شتى انواع التعسف والإجحاف، وبالغت في تهجيرهم ونفيهم وقتلهم سواء بالأبادة الجماعية أو بالحروب الطاحنة وأبادة قرآهم ومزارعهم وسحق تطلعاتهم وتوظيف القدرات العسكرية لاسكات الأصوات المطالبة بحقوقهم المشروعة والمتطابقة مع حقوق الإنسان.
وهكذا بقي القسم الجنوبي من كوردستان تحت رحمة السلطات العراقية، وبقي الكورد ينعمون بشراكة يتضمنها الدستور الأساس منها أو المؤقتة دون حقيقة ملموسة، فالعرب والكورد شركاء دون شراكة، والكورد لهم كل الحقوق والواجبات التي يرسمها الدستور بينما الواقع ان عليهم الواجبات دون ان يكون لهم نفس الحقوق، فقد اعتبرتهم السلطات مواطنين من الدرجة الثانية، ولم يكن يصلح الكوردي الا للنيابة في كل مركز، حتى صحت تسمية المواطن الكوردي من الدرجة الثانية أو نائب للمواطن.
وبالرغم من شراسة الهجمات التي تشنها القوات المسلحة للسلطات التي تعاقبت على حكم العراق، فلم تكن هناك فرصة في أن يكون الكورد لهم مايتناسب مع تضحياتهم وتطلعاتهم للعراق.
وأذ يوجب المنطق أن تكون الشراكة الحقيقية في أن يكون مستقبل العراق الأساس الذي نطمح في ان يكون ديمقراطيا وفق اسس الفيدرالية التي قررها شعب كوردستان من خلال برلمانه بالأجماع في العام 1992، ينبغي ان يكون الجميع شركاء في العملية السياسية والبناء الجديد دون أن يتم تغليب قومية على أخرى أو دين على آخر.
وأذ يحتاج العراق لمواقف تتوحد الناس من خلاله، وتشعرهم هذه المواقف بنهاية العهود الشوفينية وأندحار فكرها الهجين، وأذ يحتاج العراق اليوم التوحد والتلاحم الذي نعبر به بشكل صداق عن أعتزازنا بجميع مكونات العراق، وأذ ينبغي ان يتم التعرف على موجبات التغيير ومتطلبات النهوض بالمستقبل العراقي، وأذ نحتاج الى تفعيل الخطوات الأولى للمسيرة بأتجاه الديمقراطية، وأن نتفهم معاني الفيدرالية وضروراتها واركانها وأشكالها ، كل هذا تم ترجمته في أختيار المواطن الكوردي السيد جلال الطالباني رئيساً للعراق.
وفي أختيار الطالباني بهذه النسبة من الأصوات دلالة عميقة على أعتزاز العراقيين بكافة مكوناتهم بشعب كوردستان، ودلالة أخرى على استذكار النضال والجهاد الذي بذله شعب كوردستان من اجل أن تتحقق الديمقراطية للعراق.
وفي أختيار جلال الطالباني نكون ترجمنا فعلاً الخطوات التي تلغي هيمنة القومية على باقي القوميات، تلك الهيمنة المقيتة التي يتلبسها الفكر المتعصب والشوفيني ، ودحرنا الفكر الذي يتباهى بتغلب القومية الواحدة على الأخريات تحت شتى المزاعم والذرائع، ورسمنا الخطوات الصادقة والصريحة التي نريد بها أن نبني العراق الجديد.
وبعد كل هذا فقد يعني أن العراقي بكل مكوناته القومية والدينية أصبح مؤهلاً لممارسة دوره الطبيعي دون خطوط حمراء ودون قيود فقد تردت العقليات التي كانت لاتبيح للعراقي ان يكون رئيسا أن كان من قومية أخرى، ومن الممكن ان يكون الرئيس القادم تركمانيا أو كلدانيا أو آشوريا ومن الممكن ان يكون أيزيديا أو صابئيــاً مندائياً أو مسيحيا أو مسلما ويهوديا، بشرط ان يكون منتخبا من قبل ممثلي العراق وهذا هو العراق الحقيقي، ودون تلك المكونات، وبتهميش أي مكون من مكوناته نكون جانبنا الفعل الديمقراطي ووضعنا العدالة في غير موضعها.
وبالرغم من ان منصب الرئاسة يشكل تكليف لمهمة وطنية، وهو رمز لقيادة العراق، فأن اختيار العراقيين بواسطة ممثليهم في الجمعية العمومية العراقية للسيد جلال الطالباني ليكون رئيساً للعراق في هذه الفترة الحرجة التي يمر بها البلد تعبيراً عراقياً صادقاً يترجم بحق كل معاني الاخوة والشراكة والأتفاق على أن تكون مرحلة الزمن القادم مرحلة البناء والأعمار بالرغم من قصرها وتراكم المهمات التي ستكون عليها ان تنجزها خلال الفترة القادمة.