أستطاع الجعفري اثناء توليه مجلس الحكم لمدة شهر ان يظهر كفاءة سياسية وبعد نظر في تقيميه للواقع العراقي بما يملكه من قوة في تعدد قومياته ودياناته. في احدى اللقاءات في مدينه دترويت الامريكية تكلم الرجل بالنسبة لحقوق كل العراقيين بغض النظر عن القومية والدين وتساويهم جميعا، وإن عمل على تنفيذ ما قاله فانه رجل المرحلة القادمة. وقد كتبت عن ذلك اللقاء في إيلاف في شهر ايلول عام 2003 مقال تحت عنوان " عرس عراقي تحت خيمة الشيطان الاكبر". فعلى الرغم من تقاعس الدكتور الجعفري وحزب الدعوة الذي يمثله عن دعم عملية تحرير العراق او المساهمة في مؤتمر لندن للمعارضة العراقية عام 2002، لكنه كان واقعيا في التعاون مع قوات التحالف والعراق الجديد وساهم في تشكيلة مجلس الحكم. ومن المعلوم ان حزب الدعوة الذي يمثله الجعفري اقدم الاحزاب الدينية السياسية على الساحة العراقية، حيث تاسس في خمسينات القرن الماضي وكان مقدام في الوقوف بوجه دكتاتورية البعث واستشهد مؤسسه الصدر الاول تحت تعذيب رجال السلطة الفاشية وكذلك العديد من اعضائه، لكن الكثير من كوادره في العراق المحرر لم تكن على درجة عالية من الوطنية التي يمثلها الجعفري في اعطاء صورة حقيقية عن ان عراقا جديدا قد ولد وذلك في مساهمتهم توسيع ظاهره الفساد الاداري والمحسوبية والشفاعة الحزبية في جميع الوزارات والدوائر التي شغلوها، وهذا ما يؤخذ على الحزب، ولسوء الحظ ليس هو الحزب الوحيد من الاحزاب المساهمة في ادارة العراق الجديد في هذا المجال. وعلى الرغم من ذلك و رفع اكثر من جهة الحق بالتحدث باسم الدعوة او قائدها الصدر، لكنه لا زال يحظى باحترام الكثير من العراقيين. وعند حلول الذكرى الثانية لسقوط النظام البعثفاشي ووضوح الصورة السياسية العراقية بانتخابات المجلس الوطني واختيار رئيس الجمهورية وتكليف ابراهيم الجعفري لرئاسة الوزراء تبدأ مرحلة جديدة ليست في حياة العراق، وانما في حياة ابراهيم الجعفري نفسه. وحسب تصريحات الرجل فانه يقدم نفسه كنوع جديد من السياسيين العراقيين يمكن ان يعول عليهم . ولكن هل التصريحات وحدها كافية ؟ او ما سينقله على ارض الواقع خلال الفترة القادمه التي سيقود فيها العراق الديمقراطي، وعلى الرغم من قصرها حيث ستنتهي بعد الانتخابات القادمة في شهرتشرين اول القادم؟ هذه الفترة في غاية الحساسية لانها فتره اعداد الدستور الدائم، استباب الامن، والبداية الفعلية لعملية إعادة اعمار العراق وتحسين البنى التحتية، تعزيز المؤسسات الديمقراطية وعودة الهيبة للدولة وتعزيز وحدة العراق شعبا وترابا. ان تلك المهام الجسام لا يمكن الاتكال على انجازها على الكوادر الحزبية ورافعي الشعارات الطائفية والقومية والمناطقية وانما على عاتق من يحب العراق اولا. وفي تصريح للجعفري لصحيفة "الصباح" البغدادية بعد تكليفه قال :"ان الباب لازال مفتوحا امام كل الاكفاء وفق المقاسات، الكفاءة والتكنوقراط، من زاوية الاختصاص، وان يكون نزيها وطنيا وسياسيا معروفا في تاريخه، وان يكون مستعدا في ان يعمل بجد مع بقية الوزراء، مرتبطا برئاسة الوزراء، وان يقدر تقديرا جيدا للمهام، وان يتمتع بخبرة ادارية في ان ينهض بهذه المسؤولية ". وفي تصريحه هذا برنامج سياسي وعملي واضح يحتاجه العراق الجديد، ولكني اخاف من ان الجعفري سوف لن يلتزم به ولا القائمة التي يمثلها لان المحاصصة الحزبية والتقوقع المذهبي هو السائد في إدارة العملية السياسية العراقية في الوقت الحاضر. وأعتقد انا بان ابراهيم الجعفري سيدخل التأريخ العراقي من اوسع ابوابه كوطني عراقي مخلص ان استطاع فعلا ان يغير ما يجري الان على الساحة السياسية العراقية في هذا الاتجاه ويعتمد على الكفاءة والوطنية العراقية وليس حسب الانتماء المذهبي والحزبي والقومي. ان الشك الذي يعتري الكثير من الوطنيين العراقيين مبني على تجربة لا زالت فصولها مستمرة. فالكل يعرف بان تشكيل حكومة ائتلاف حتى في الديمقراطيات الراسخة مهمة معقدة، اما في دولة خرجت بعد عقود من القمع الوحشي والدكتاتورية فهي مهمة اصعب كثيرا. وعلى الرغم من ذلك كان من الممكن ان تجري العملية في سلاسة اكثر ونتائج اسلم لو ان القيادة العراقية الجديدة لم تضع الاعتبارات الشخصية والطائفية قبل المصالح الوطنية، وهي بالتالي رسخت التشرذم الطائفي والمحاصصة بكل انواعها والولاء الحزبي ومرض المكسب القومي على حساب الوطن. ان المهمة الاكبر التي تقف امام الجعفري والقياده العراقية الجديدة هي في وضع الدستور العراقي الذي تطالب الولايات المتحدة بان تلتزم القيادة العراقية بموعده وهو منتصف الشهر الثامن من العام الجاري وكذلك تصريح الرئيس جلال الطالباني بالتزامه بنفس الموعد . لكن الحقيقة المؤكدة هي ان الاحزاب المشاركة في العملية السياسية تواجه قضايا في غاية التعقيد، وان تحقيق الإجماع حول دستور ديمقراطي ليس بالمهمة السهلة، خاصة إذا عرفنا ان قطاعا مهما من العراقيين وهم العرب السنة لا زالوا بعيدين عن المساهمة في العملية الديمقراطية في العراق وبالتالي المشاركة في كتابه الدستور. وفي نفس الوقت لا بد من الاشارة ايضا إلى ان اغلب الاحزاب تلك تتصرف وكأنها مجموعة اشخاص في ندوة شعبية بدلا من سياسيين يحاولون تشكيل ديمقراطية معاصرة بمساهمة جميع فئات الشعب العراقي وان يضعوا دستور لدولة حديثة . وان استمر الحال على ما هو عليه فلربما من الافضل ترك كتابة الدستور للبرلمان القادم الذي سيكون حتما اكثر تمثيلا للرأي العام العراقي. من المؤسف بان الكثير من العراقيين ومنهم اعضاء القيادة الجديدة يتناسون بانهم وصلوا إلى الحكم او ما يتمتعون به من الحرية جاء بفضل تحرير العراق عن طريق قوات التحالف التي قادتها الولايات المتحدة، وبالتالي محاولة اللعب في مجال العداء لها او الاتكاز على دعم رجال الدين مسرحية هزيلة معروفة دوافعها وفصولها.كما وان شجاعة الناخب العراقي الذي خاطر بحياته وانجح الانتخابات منحت القيادة الجديدة الشرعية ولذلك لا بد من اخذ الكفاءة والوطنية معيار للتعامل معها في ادارة شؤون البلاد. وهي كذلك لا زالت تستفاد من تضحيات الآخرين، بما في ذلك رجال الشرطة والجيش العراقي الجديد الذين يغتالهم الارهابيون بطريقة يومية حيث استشهد يوم السبت التاسع من نيسان الحالي 15 عشر فردا منهم، فلا بد من العمل على توفير الامن لهؤلاء وللعراقيين عامة. ففي بلد خرج من حكم تعسفي عشائري وطائفي وقبلي ومناطقي يجب ان لا ينحو نحو تسيس الدين اكثر مما فعل لحد الآن. نعم ان السيد السستاني رجل دين يحظى باحترام العراقيين لما قدمه من خدمات في الدعوة للانتخابات وايقاف حرب اهلية محتملة بين جماعة مقتدى الصدر والاحزاب الشيعية او قوات الحكومة، كما ويحسب للسيد السيستاني رفضه زيارة مسقط رأسه في ايران لمدة 27 سنة بسبب معارضته لديكتاتورية رجال الدين، هو آخر شخص يريد نسخ حكم الملالي في ايران ونقله للعراق، لكن على الطرف الآخر يحاول رجال الاسلام السياسي جره لذلك. فالقيادات العراقية الجديدة تهرع الى النجف لاشراكه في حل خلافاتها مهما كان نوعها. واخيرا ما صرح به "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية" بزعامة عبدالعزيز الحكيم أن الكلمة الفصل في قبول الدستور أو رفضه، ينبغي أن تكون للمرجعية الشيعية. فهل يحاول اصحاب الاسلام السياسي الشيعي نقل التجربة الإيرانية التي اظهرت الايام فشلها إلى العراق ؟ ومن تصريحات الجعفري ما قاله بأنه "سيحكم العراق لا كشيعي بل كعراقي ". وهو تصريح مهم فعلا، ليس للعراقيين فحسب وانما للآخرين لأن في تاريخ الإسلام السياسي الذي ينتمي إليه الجعفري يحكم قادته لا كمواطنين يتصرفون مع مواطنيهم بمعيار واحد مبني على حقوق المواطنة وواجباتها وانما على اساس التعالي الكهنوتي والفتوى وهذا يشمل السنة والشيعة على حد سواء، كما كان في افغانستان السابقة او إيران الحالية وما شابههما من انظمة. فلو اخذ مثلا نسبة الشيعة في إيران الذي يصل إلى حوالي 90 % من عدد السكان، التي استفاد من ذلك الملالي الذين ازاحوا من اسقط نظام الشاه في نهاية سبعينات القرن الماضي واستولوا على شؤون البلاد واعتقد الكثيرين بان دورهم سيكون مرحليا، ولكنه استمر لحد الان وتحول النظام بمضي الايام إلى نظام شمولي يشبه إلى حد كبير نظام البعث الفاشي الساقط في العراق الذي حكم تحت راية القومية العربية وتوابل الدين، اما في ايران تحت جبة الاسلام الشيعي وعمامة القومية الفارسية. فان من قصر النظر السياسي أي محاولة لفرض حكم ملالي في العراق لانها ستقابل بالرفض ليس فقط من قبل السنة العرب والاكراد وغيرهم من الاقليات الذين يمثلون اكثر من 30% من السكان،وانما من الاغلبية العراقية التي تطمح لبناء عراق جديد لا سيطرة فيه لاي طرف وبعيد عن هيمنة الإسلام السياسي. وما هو الدور الذي سيلعبه الجعفري لإيقاف التدخل الإيراني ومحاوله الهيمنة الطائفية والسياسية على المسرح السياسي العراقي ؟ ولا بد من الاشارة إلى ان السيد علي السيستاني، بالرغم من انه آية الله العظمى، ليس الخميني، ولا يطمح الرجل ان يكون مثله. وما على الجعفري إلا ان يقود العراق في اتجاه الحداثة وليس الحكم تحت قبة المرجعية الدينية، ان اراد فعلا ان تكون الوطنية العراقية معياره والالتزام بما صرح ويصرح به