الآن يحق للجميع أن يحزن

قالها الشيخ عايض القرني واستجاب، في فترة لا تتجاوز الأسبوع سمح ونفى وأكد ثم خالف وتراجع واعتذر، كان أن تحدث في فيلم لهيفاء المنصور بدا فيه منفتحا وشيخا جديدا وواعيا ومجددا. ولكن هذا الشرف له ضريبة أثبت عايض القرني أنه لا يريدها، فالتنوير والاختلاف والتجديد هو سمة الفاعلين والمؤثرين الذين يقيمون المسائل وفق اجتهادهم العلمي ثم يدافعون عن تلك العلمية.
لكن عايض القرني أيضا..أثبت لنا ولنفسه أنه في غنى عن ذلك كله. بعد أن أخطأت هيفاء- ربما - في أن عرضته بشكل متناقض- كما يقول -وهو الذي استضافها في بيته عاد لا ليعاتبها فقط بل ليتراجع عن القضية بأكملها.

عايض القرني الذي كان الراعي الرسمي لمهرجان التراجع التكفيري الذي كان أبطاله الخضيري والفهد والخالدي ها هو الآن أيضا يتراجع. وإذا كان تراجع أولئك عن خطأ فتراجعه هو أكثر نكاية بنفسه لأنه تراجع عن موقف علمي وعن سائد في كل أنحاء العالم الإسلامي.
إن عايض القرني أثبت انه ليس سوى مجرد طالب في فصل كبير ، وأنه يذكرك بالطلاب الذين يجلسون في أول الفصل ثم تتضخم علاماتهم لأنهم يرفعون قلم الأستاذ كلما وقع على الأرض ويبادرون لمسح السبورة كلما دخل الأستاذ إلى الفصل.
وإذا كان عايض القرني قد اشتهر بآرائه الساخنة والراديكالية ثم يبدأ يتجه بكل وعي إلى آراء أكثر تطورا وفق سنة التطور التي هي فطرة الناس وشأنهم في حياتهم فإنه يعود الآن مرغما إلى ما كان فيه، وهي عودة لا بد أن تستحث معها ظلال تلك الفترة وما فيها من تبعية وصراخ ومجانية.
الشيخ عايض يستحث في تراجعه كثيرا من الآراء والأدلة الفقهية النبوية ليؤكد أن ما عداد إليه هو الصواب وأن ما قال به قبل أيام هو الخطأ.
أنها الهداية السوبر تلك التي لا تترك مجالا للرأي الجديد حتى تستلهمه خطأ وتتراجع عنه، وإذا كان الشيخ القرني قال آرائه الجديدة بالدليل الصحيح ثم تراجع عنها أيضا مستدلا بالدليل الصحيح فقد أوجد ذات الأجواء التي هي لب المشكل المعرفي الديني بأكمله، فالذي يفجرون أيضا يستشهدون بالدليل فيما الذين يجادلونهم يجادلونهم أيضا بالدليل.

أراد أن يوضح أنه إنما استقبل فريقا من المصورين والإعلاميين لكي لا يقال بأنه استضاف في منزله امرأة سافرة، وقال إنه إنما استشهد برأي الشيخ الأباني ثم رجع لما عليه أهل العلم..، أي أنها معادلة لا دور له فيها، ففي رأيه الأول استشهد بآراء غيره ثم في تراجعه استمع لآراء غيره، فالأول لم يقله عايض والثاني كذلك لم يقله، إنها حزورة ( عايض ومش عايض).
إذن يا شيخ عايض : لا تحزن
أما أنا وكل من يعرفك ويكن لك حبا وإجلالا فمن حقه أن يحزن طويلا، فالجميع كان يبحث عن رأيك أنت، لا عن منقولات وأراء واستشهادات يمكن للجميع أن يقول بها دون أي ميزة علمية أو معرفية، ثم يقول : (ورأيت في المشاركة في هذا البرنامج مصلحة في مخاطبة شعوب لم تسمع منا، وهي بأمس الحاجة إلى السماع منا اليوم وجرى حديث عن تغطية الوجه واختلاف العلماء فيه وهي مسألة فقهية اختلف فيها السابقون، وحيث أن هذا الكلام موجه للغرب فالمناسبة والمقام اقتضيا ما سبق وأنا على مذهب الأئمة القائلين بتغطية الوجه...). والله لهذا التشكيل الرمادي للدين الذي يصدّر للغرب والذي يصدر لــ(دخنة) أكثر نكاية به من أي أذية قد يتعرض لها ولم يوضح الشيخ هل تراجعه محلي أم عالمي، أي هل التراجع أيضا شامل للغرب وموجه إليهم أم أنه خاص بالسعوديين وعلى المقيمين خارجها مراعاة فارق التوقيت القرني!! لكن عليه أن يعي أن أن هؤلاء المقيمين داخلها بدأوا في فرز من حولهم ومن يسوقونهم إلى حيث لا رأي ولا فكرة ولا موقف، وإنما باتجاه تجاذبات الحياة تستمر خارجها، ولم يعد من وقت لديهم لتتبع هذه الرخص التي تنقض نفسها إما توبة وتراجعا.