أحمد العمار: عندما تفتقت أفكار يوحنا جوتنبرغ عن اختراع آلة الطباعة الأولى في القرن الخامس عشر ميلادي ، كانت بحق فتحا تنويريا ضخما في تاريخ البشرية ، ما دفع مارتن لوثر إلى القول :(إن المطبعة هي أسمى نعم و فضائل الرب على الناس) ، و لما كنا عاجزين عن استنطاق الموتى ، فإنه يتعذر علينا أن نحصل على رأي لوثر أو أي من معاصريه حول ثورة المعلومات و النشر عبر الشبكة العنكبوتية التي نشهدها هذه الايام.
**النشر الالكتروني الماهية
من بين تعريفات عدة للنشر الالكتروني نود إيراد هذا التعريف بصفته –حسب رأينا –أكثرها إحاطة و شمولية ، إذ يعرف هذا النشر بأنه : (استخدام الأجهزة الالكترونية في مختلف مجالات الإنتاج و الإدارة و التوزيع للبيانات و المعلومات و تسخيرها للمستخدمين و المستفيدين ، علما بأن ما ينشر من مواد معلوماتية لايتم إخراجها ورقيا لأغراض التوزيع ، بل يتم توزيعها على وسائط الكترونية كالأقراص المرنة أو الأقراص المدمجة أو من خلال الشبكات الالكترونية كالانترنت ) . و حسب هذا التعريف فإن الاختلاف الجوهري هو في مدخلات و مخرجات هاتين الصحافتين من ورق و أحبار و أقراص و اسطوانات ..
** هل ((تسلم الجرة هذه المرة)) !؟
عندما دخلت صحافة المسموع (الإذاعة) و المرئي (التلفزيون) حيز النشر الصحفي ، تملك الخوف العاملين في صحافة المقروء (صحف و مجلات) ، بل باتوا يخشون من أن يكون ظهور هذه النوع من الصحافة إيذانا بأفول مهنتهم العريقة ، و قطعا لمصدر عيشهم ، و لكن هذا الخوف سرعان ما تبدد و تبدل أمنا ، إذ استطاعت الصحف و المجلات أن توجد نوعا من الهدنة الدائمة مع هذا المنتج الإعلامي الجديد ، و ضمن شروط اغلبها ليس في صالح الصحافة المقروءة و السؤال الذي يقفز إلى الأذهان بداهة هو : هل تنجح الصحافة المقروءة هذه المرة في صد هجمة الصحافة الالكترونية و هي صحافة لا يخفى على أحد ما تتمتع به من مغريات البحث و السرعة و الانتشار و تقنيات الصورة و الصوت ، و الأهم الإفلات من قبضة الرقيب ، و لو إلى حين ، أم أن ((الجرة لن تسلم هذه المرة)) ، و سوف يفرض الغالب شروطه على المغلوب ، و الحرب سجال ؟!
**قاريء ((ورقي)) ..قاريء ((الكتروني))
لعل السؤال الأكثر أهمية هو ليس شكل هذه الصحافة أو تلك ، بل لمن تتوجه ، فالقاريء هو الهدف النهائي المراد توصيل الرسالة إليه ، و نجاح هذه الرسالة رهن بمعرفة ردة فعله أو ما يطلق عليه (feedback) ، و هذا منوط بالاستخدام الأمثل لتقنيات الإقناع و التأثير و الموضوعية و بقية أساليب الفن الصحفي مما لا يتسع المجال لذكره و بشيء من المقارنة نستطيع القول بأن القاريء الورقي تعترضه محدودية المكان و الزمان و الخيارات الأقل ، بينما القاريء الالكتروني يتخطى حدود الزمان و المكان و تتاح له خيارات غير متناهية ، و هكذا بدأ الورقي يتبخر لصالح الالكتروني ، بيد أن هذا لا يعني أن الطريق مفروشة بالورود و الرياحين ، فالإصدارات الالكترونية لا تستطيع المراهنة على القارئ الالكتروني بصفة مطلقة في ظل مؤشرات تفيد بأن عدد مستخدمي الانترنت في العالم العربي لم يتجاوز (5%) من اجمالي عدد السكان العرب و الذي يقترب من حافة الـ(3) مليون نسمة ، و هي نسبة لا تكاد تذكر إذا ما قيست بالأرقام العالمية في هذا المجال .
**الرقيب هو الرقيب
علمتنا تجاربنا و تجارب الآخرين ألا نعتقد إننا إن قوينا و حصنا أسلحتنا و دفاعاتنا ، فإن الآخر نائم ، أو أنه لايخضع لقانون التطوير و التحصين عينه ، فهي على ما يبدو سنة الأشياء فاللص طور أدواته مثلا بعد أن حصن صاحب البيت أقفال صناديقه و خزنته ، و كذلك الأمر بالنسبة للحشرات التي تعتاد بمرور الوقت على أجواء المبيدات فلا تعد تتأثر بها ، و لا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة للفيروسات التي نصليها بوابل من الأدوية و الإستطبابات ، لكن ذلك لا يثنيها عن مهاجمة أجسامنا و اختراق مناعاتها..و هكذا فإن حال الرقيب الصحفي يتطور هو الآخر ، فلقد اختلفت مهمة الرقابة على المطبوعات من شكلها التقليدي و المتمثل بمراقبة منافذ دخول المطبوعات برا و بحرا و جوا إلى مراقبة الشبكات و المواقع و مصادر المعلومات ، ولأن الرقيب –كما أسلفنا-طور من أسلحته ، فلم يعد يرضى بالقص البسيط أو المصادرة الجزئية لهذه المطبوعة أو تلك من خلال حذف بعض صفحاتها ، هذا إن لم يتم منع المطبوعة كاملة ، بل راح يمنع أي موقع لا يروق له و ينسجم و السياسة التي يتبناها ، حتى اصبحت عبارة هذا الموقع غير مسموح به او ممنوع شاهدا على وجود مقص الرقيب ، و الذي لم يعد بالطبع يستخدم مقصا تقليديا ، بل الكترونيا يعمل بواسطة محطات التشويش و المراقبة الامنية و الاستخباراتية..
**و لكن ماذا عن الصحفي و المثقف
يتمتع النشر الالكتروني بجاذبية كبيرة تشكل إغراء منقطع النظير يجذب الصحفي و المثقف للإبحار في عالم مليء بالشاشات و الصور و الاصوات ، بغية الاستفادة من تدفق سيل المعلومات عبر الطريق السريع للمعرفة و المعلومات (Information super -Highway) ، إذ لأول مرة في تاريخ البشرية تكون المجلدات و دور العرض و البنوك و المعارض و جميع الخدمات على مقربة من أنامل الباحث عن المعلومة ، و كل ما يفصله عن الاستفادة منها هو ضغطة على زر ، أو نقرة (click) على فأرة ليست كالفئران التي نعرفها و لقد أتاح النشر الالكتروني للصحفي و المثقف أفاقا أوسع و أرحب لنشر إبداعاته و أفكاره ، و وفرا في تكلفة النشر إذّا ما قيست بتكلفة النشر الورقي ، ناهيك عن سهولة الوصول و الانتشار و القفز فوق حواجز الرقابة و لو نسبيا
**الانسان ..أولا و آخرا
و برغم كل ما ذكر حول النشر الالكتروني ، فإن ثمة كتاب و صحفيون و مفكرون متمسكون بالتصور الرومانسي للكتابة و بأنها جهد خلاق وإبداع فردي يقوم على أثافي (أي ركائز) ثلاث هي الحبر و الورق و الفكر ، بينما الفضاء الالكتروني عالم مفتوح و متداخل بطريقة توتر أعصاب المبدع ، و تجعل إيقاع الحياة أكثر سرعة و أقل خصوصية 0 و أرى أنه رغم جمالية و رومانسية هذا الطرح ،إلا أنه لا يخلو من الإنكفاء السلبي و الانحياز الإرادي ، الذي قد يجعل المبدع خارج إطار ثورة النشر الالكتروني بكل ما فيها من إيجابيات ، لأن ثورة المعلومات و الشبكة العنكبوتية تتيح تطورا متناميا و متلاحقا ، فمن لا يواكب هذا التطور سوف ينتهي به الحال إلى العزلة ،و كما قيل ((إنك لن تستطيع ان تستحم في مياه النهر مرتين)) ، و بقراءة بسيطة لتاريخ البشرية نجد أنه كلما ظهر إبداع أو اختراع جديد وقف الناس منه على ثلاثة فرق ، فالفريق الأول هم السباقون و ينظر إليهم في البداية على أنهم مغامرين ، ثم المتقدمين و هم من قيم المسألة بشكل عقلاني فركب موجة الجديد و استفاد منه ، ثم المتأخرين و هم نظروا إلى المسألة نظرة ملؤها الشك و الريبة و التحفظ و بعد أن يصبح الاختراع محل استخدام اعتيادي و يثبت جدواه ، ما تلبث المواقف حتى تتبدل ، فينظر الناس إلى الفريق الأول بصفتهم روادا و فاتحين ، و إلى الفريق الثاني بصفتهم مواكبين و مجتهدين ، و إلى الفريق الثالث على أنهم متخلفين ، أو على الأقل غير مسايرين لركب التطور فمثلا أجاب أحد المفكرين العرب البارزين في مطلع القرن الماضي عند سئل عن رأيه في الإذاعة –و قد كانت يومها منتجا إعلاميا جديدا كالانترنت حاليا-بأنها ((كلام يذهب في الهواء هباء )) ، فأين الإذاعة الآن من هذه المقولة ، و لو رزق هذا المفكر عمرا ماذا كان سيقول ؟
أخيرا اترك للقاريء الكريم حرية الحكم على هذا الإنجاز العجيب ، و حرية أن يكون مع أي من الفرق التي ذكرناها ، و استخدامنا لهذا المنتج أو ذاك يجب ألا يلغي خصائصنا أو ينحي عقولنا جانبا ، فلن ننتظر من الأجهزة الصماء أن تفرح أو أن تنتشي أو أن تحزن ، فهذه خصائص ميز الله بها الإنسان دون غيره ممن خلق.
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات