لا تشي الأدبيات الرسمية الأميركية أو الفرنسية بأي أهلية في التعامل مع الوضع العراقي، سواء في الشق المرتبط بالعملية السياسية الجارية في البلاد منذ سقوط النظام، أو في الشق المرتبط بموجات العنف القرباني التي أعقبت احتلال البلاد. والحق أننا كنا بحاجة الى عودة الروح الكولونيالية الفرنسية كما تجلت مؤخراً بإزاء لبنان وساحل العاج ناهيك عن العراق نفسه، تماماً كما كنا بحاجة الى إعادة اكتشاف أميركا لأهمية إقحام المجتمع الدولي ككل، ومنظمة الأمم المتحدة على رأسه، في سياساتها الدفاعية، كي نهتدي الى حقيقة مفادها أن كلاً من أميركا وفرنسا تتعامل مع المسألة الكولونيالية عموماً، ومع العالم الاسلامي خصوصاً، بموجب قاموس مشترك من التوصيفات والوصفات، تجمع بين التعبير الأشد فظاظة عن المصالح الدنيوية والانشداد الأكثر غلاظة للمرامي الأسمى.
لا يترجم الاحتلال الأميركي للعراق استيطاناً، وإن كان في الأساس احتلالاً معنياً بحماية الاحتلال الاستيطاني الاسرائيلي للمناطق الفلسطينية. ليس في العراق مستوطنون أميركيون، أو مستوطنون من أي صنف. مع ذلك، فإن الأميركيين لا يتعاملون مع العراق على أنه فييتنام بعيدة عنهم في الجانب الآخر من المعمورة. ان تعلقهم بالعراق يكاد يستعيد قبسات من التعلق الكولونيالي الفرنسي المزمن بالجزائر. العراق جزائر أميركية، والأميركيون يتعاملون مع العراق بنحو من العاطفية الشديدة التي ميّزت مسلك الاستعمار الفرنسي في الجزائر عن سواها من المستعمرات، وهم الى حد بعيد ينغمسون، لا في صراع مع جماعات مضادة لهم. هان الأمر لو كان كذلك لا شيء غير. المشكلة ان الاميركيين ينغمسون في صراعات عراقية عراقية، أي في شكل من أشكال الحرب الأهلية العراقية، التي لم تتوقف بطريقة كاملة ونهائية منذ ثورة 14 تموز 1958 وسقوط الملكية الهاشمية والى اليوم، والتي كانت في جانب أساسي منها، كناية عن نزاعات طائفية بامتياز، ودامية بامتياز، بصرف النظر عن تسمّي هذه النزاعات بشعارات أيديولوجية. فحتى النزاع بين القوميين والشيوعيين في العراق، بين الأعظمية والكاظمية، كان بمثابة وجه من أوجه الاقتتال المذهبي.
يأتي الأميركيون الى العراق بأجندة ديموقراطية لسنا ممن يعتقد أنها تختزل الى مجرد سلعة استهلاكية. إلا أنهم يرهنون هذه الأجندة بنوع من الحب الكولونيالي على الطريقة الفرنسية لجزائر يريدونها هم، على الطريقة العراقية الأصيلة. لا يكترث الأميركيون لتجربة كولونيالية ناجحة نسبيا، وهي تجربة العراق البريطاني، تلك التجربة التي فهمت حيوية وتعقد العلاقة بين مركبات النسيج العراقي، كما فهمت المصلحة الوطنية للعراق في أن لا يكون الوسط السني ضمنه وسطاً مهمشاً أو مهضوم الحقوق، ذلك أن الوسط السني هو ضامن وحدة هذا البلد لكونه عربياً مثل الجنوب الشيعي وسنياً مثل الشمال الكردي، ولكونه مرتبطاً من موقعه التواصلي هذا مع المحيط العربي، وقادراً بفضل هذا الموقع التواصلي على نظم علاقة سيادية راشدة مع الجار الايراني.
هذا ما خبرته المدرسة الكولونيالية البريطانية في العراق، تلك المدرسة التي كانت أكثر جدية من المدرسة الفرنسية في جمعها بين الاستعمار والديموقراطية، كما تجلى ذلك في الهند خصوصاً، وإلى حد ما في العراق ومصر في العهد الملكي الدستوري، في حين لم يعرف الاستعمار الفرنسي أي تجربة تهيئة مؤسساتية ديموقراطية، لأنه لم يكترث بالمساعدة على إقامة مؤسسات بالحسنى والارشاد وبالترهيب ان دعت الحاجة كما فعل البريطانيون، وإنما أعطى الفرنسيون الأولوية لضخ lt;lt;القيمgt;gt; الديموقراطية بدلاً من إقامة المؤسسات.
الاستعمار الأميركي في العراق هو أيضاً مهجوس بضخ القيم، وهو يعليها على المؤسسات. ولأنه كذلك، فإنه يدير ظهره للتجربة الكولونيالية البريطانية في العراق، وبدلاً من محاولة إبرام عقد وطني عراقي جديد بعد صدام، عقد وطني ينهي عقوداً من الطائفية المستترة أو الدامية، جاء الاستسهال الأميركي بأن حلّت الشعوبية إيديولوجيا رسمية للعراق مكان البعثية العفلقية، وإن حلّت مذبحة الفلوجة وما يتبعها في المثلث، طريقاً الى تهيئة الوسط السني العربي في العراق، كي يقتنع بأيديولوجيا ليس فيها من الفدرالية غير المسعى لترجمة لفظ lt;lt;الشعوبيةgt;gt;.
ليتهم يسلمون البلد للبريطانيين وحدهم.