لم يكن عمري تجاوز تسع سنوات, حينما بدأ وعيي السياسي ينفتح على القضـية الفلسطينية, مع قرار التقسيم الذي صدر عن الأمم المتحدة في تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1947. وتزامن ذلك مع الشهور الأولى للعام الأول من دراستي الابتدائية, في مدينة المنصورة, بعيداً من أسرتي وقريتي. وبالكاد استوعبت الحد الأدنى من "المعلومات" والحد الأقصى من "الوجدانيات", حول القضية, من تظاهرات طلبة المدارس والهـتافات المشبوبة بالاحتجاج والغضب. وكان هذا المشهد المبكر في حياتي مثيراً, وعميقاً, ومؤثراً طوال العقود الخمـسة التـالية, حيث تابعت القضـية فكراً, وانخــرطت في عشرينات العمر متطوعاً في صفوف المقاومة الفلسطينية, وخرجت ومتطوعون عرب آخرون, مع مقاتليها, بعد المواجهة الدموية مع القوات الأردنـية في أيلول (سبـتمبر) 1970 (أيلول الأســود). وكــان كتابي الأول, الذي نشرته لي دار الطليعة في بيروت, عن "سوسيولوجية الصراع العربي - الإسرائيلي", قبيل حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973 بشهور عدة. وكان آخر كتبي "علم النكبات العربية", الذي نُشر في القاهرة العام 1999, قبيل دخولي السجن بشهور قليلة. وكان صدور هذا الكتاب الأخير في مناسبة مرور مئة عام على المؤتمر الصهيوني الأول, الذي عقد في مدينة بازل السويسرية (1897) والذي أرسى البذور الجنينية لولادة الكيان الصهيوني, الذي سمي بعد ذلك بإسرائيل.

مر هذا الشريط الطويل من الذكريات في خاطري, وأنا أتابع المشهد المأسوي الأخير للقضية الفلسطينية في تموز (يوليو) 2004. وكنت عشت أو تابعت عن قرب, مشاهد حزينة أخرى, مثل خروج المقاومة من بيروت عام 1982, ومذابح صبرا وشاتيلا في خريف ذلك العام. بل لحقت بالمقاتلين الفلسطينيين في تونس, مع وفد من لجنة التضامن المصرية (ضم الأخوة أمين هويدي, وأحمد حمروش, ومراد غالب), حيث قضينا أسبوعاً كاملاً مع ياسر عرفات (أبو عمار) وبقية القيادات الفلسطينية في مآدبهم الجديدة في ضواحي العاصمة التونسية.

كان ياسر عرفات حاضراً في معظم المشاهد المأسوية للقضية الفلسطينية, التي تابعتها أو عشتها, أو كتبت عنها. وعرفت الرجل عن قرب, كما لم أعرف زعماء عرباً آخرين, فقد امتدت معرفتي به لي ولجيل كامل من العروبيين, هو البطل الصاعد, والأمل الساطع, بعد هزيمة العرب عام 1967, وبعد المعركة الباسلة للمقاومة الفلسطينية في "الكرامة" ضد القوات الإسرائيلية, عبر غور نهر الأردن في ربيع 1968.

لكن هذا الإعجاب المبكر بزعيم المقاومة الفلسطينية, ورمز الشعب والقضية والنضال, بدأ يهتز مع كل مشهد عايشته فيه, أو تابعته عن قرب أو بُعد. ثم سرعان ما تحول هذا "الاهتزاز" إلى "تآكل". ولأن الرجل يعتبر نفسه رمزاً لشعبه وقضيته, فقد تعرضت القضية نفسها للاهتزاز, وتعرض النضال للتآكل. وكان حال القضية وحال النضال تحت قيادته وصلا إلى نقطة سحيقة في أواخر عام 1988. وكتبت في ذلك الوقت في جريدة "الرأي" الأردنية ومجلة "الأهرام الاقتصادي" المصرية, أناشد ياسر عرفات أن يتخلى عن القيادة للجيل الفلسطيني الجديد, الذي بدأ الانتفاضة الأولى. وكان مر على معركة الكرامة, وتوليه رئاسة منظمة التحرير, عشرون عاماً. وذكرت الرجل والقراء في ذلك الوقت, أن ياسر عرفات تسلّم راية القيادة من زعيم فلسطيني آخر, هو أحمد الشقيري, والذي كان شاخ واعتل. وناشدت ياسر عرفات أن يتخلى قبل أن يشيخ ويعتل ويتهاوى, لكنه لم يستمع إليّ أو إلى غيري ممن قدموا إليه النصيحة نفسها همساً. بل عاتبني الرجل عتاباً شديداً, في أول مناسبة رأيته فيها بعد ذلك, في مكتب الزميل مكرم محـمد أحـمد, في دار الهـلال في القـاهرة.

جميل أن يتوحد أي زعيم مع شعبه وقضيته ونضاله. لكن المأساة تحدث حينما يتحول "الزعيم" إلى "أيقونة" أو "صنم", وحينما يتصور أن الشعب والقضية والنضال اختزلوا جميعاً في شخصه.

إن المشهد الفلسطيني الأخير هو قمة مأسوية وهاوية عربية جديدة. وبطل هذه المأساة - الملهاة - الهاوية, مرة أخرى هو ياسر عرفات... وكل من حوله من أسماء قديمة ـ مثل (أبو مازن) محمود عباس و(ابو العلاء) أحمد قريع, أو أسماء جديدة ـ مثل محمد دحلان وعبد الرازق المجايدة ـ هم كومبارس. فهو يعزل هذا ويعين ذاك. وهذا يستقيل وذاك يقال. ويتراجع عرفات بعد تمرد هنا وعصيان هناك. كل هذا يحدث في ظل احتلال إسرائيلي, يحاصر ياسر عرفات نفسه في مبنى "المقاطعة" في مدينة رام الله, في الضفة الغربية. بينما التمرد, أو العصيان, واختطاف الرهائن يتم في غزة على بعد عشرات الكيلومترات. أي أن ياسر عرفات يدير أزمة التمرد والعصيان في صفوف قوات الأمن الفلسطينية في غزة بـ"الريموت كونترول". أما لماذا التمرد والعصيان بين قيادات السلطة الفلسطينية وكوادرها, فإن ذلك يرجع إلى "الفساد" ـ الضلوع فيه فعلاً, أو الاتهام به. ولا بد من أن المشاهد من بعيد يستغرب كيف يصبح الفساد "ظاهرة ملموسة" أو محسوسة, وفي البداية يتحدث عنها الفلسطينيون همساً, ثم علناً. ثم يتحدث عنها, بفرح وبهجة, الإسرائيليون, ثم يلتحق بأولئك وهؤلاء الأوروبيون, الذين يدفعون القدر الأكبر من موازنة السلطة الفلسطينية. وأخيراً, انضم إلى موكب المحذرين من استشراء الفساد واستمراره المبعوث الخاص للأمم المتحدة تيري رود لارسن.

ومبعث الاستغراب والاستهجان والأسى هو أن ياسر عرفات يدير ما يشبه "البيت المتهالك", بتوزيع الفتات على سكانه, طبقاً لاعتبارات الولاء والقرابة. والصراع كله حول كمية أو معايير توزيع هذا الفتات وتلك المعايير المختلة لتوزيع الفتات هي ما يعتبره الفلسطينيون والأوروبيون والإسرائيليون والأمم المتحدة "فساداً".

وياسر عرفات - منذ عرفته قبل ثلاثين عاماً - هو إنسان قدير في فنون "التكتيك" والتمثيل والبقاء. وكم من مرة رأيته يبكي ويُبكي معه مستمعيه ومشاهديه. وكم من مرة اعتقد العالم أنه انتهى موتاً جسمانياً أو معنوياً, بعد حصار, أو قصف, أو محاولة اغتيال. لكنه كان دائماً ينجو, وبأعجوبة, وقد شجعه ذلك دائماً على المقامرة والمغامرة. وهو ما زال على ما يبدو لي من متابعة مسلسل المشهد الأخير, مُصِرّاً على إمساك كل الخطوط في البيت الفلسطيني المتهالك, بكلتا يديه. لكن المؤلم حقاً أن هذا الشجار الفلسطيني حول الفتات, يؤدي إلى خسارة يومية لمؤيدي القضية في العالم, وبين العرب أنفسهم.

في أحد تجليات المشهد المأسوي الأخير, قرار ياسر عرفات بعزل اللواء عبدالرازق المجايدة من قيادة جهاز الأمن الداخلي, وتعيين أحد أقربائه مكانه. فكلما ثارت الكــوادر وتمــردت, وخطــفت رهائن فلســطينية وأوروبية, تراجع عرفات, وعزل قريبه, وأعاد تعيين عبدالرازق المجايدة, مع ترقيته إلى رتبة "فريق". وبهذا أخمد التمرد إلى حين, وأعاد السيطرة الوهمية, بـ"الريموت كونترول", من مقر اعتقاله في رام الله, على مجريات الأمور في غزة وتوابعها المحتلة. وطبعاً هناك شماتة ما بعدها شماتة وسخرية في إسرائيل. فها هم الفلسطينيون يظهرون بمظهر طفولي مزرٍ, يبدون معه وكأنهم لا يستحقون أن تكون لهم دولة مستقلة, فهم لا يستطيعون أن يديروا أمورهم بالحد الأدنى من المسؤولية والوقار والنزاهة العامة, ويستغربون كيف يصل أحد الكوادر إلى رتبة "فريق" في تنظيم لا تكاد تكون له قوات مسلحة, وهي رتبة لا توجد في الجيش الإسرائيلي المحتل نفسه.

أما بقية الأنظمة العربية فهي مشغولة بإدارة مشكلاتها الداخلية الخانقة, ومتوجسة مما يمكن أن يحدث لها. وهي لا تجرؤ على نقد ياسر عرفات, أو الحديث علناً عن فساد سلطته. فهذه الأنظمة تدرك في قرارة نفسها, كما تدرك شعوبها الصامتة, أن "الاستبداد العرفاتي" في البيت الفلسطيني المتهالك, هو مثل استبداد كل منهم, وأن فساد سلطته الفلسطينية هو مثل فساد سلطتهم تماماً. وما لا يعترف به عرفات أو زملاؤه الحكام العرب هو أن "الاستبداد" هو الذي يؤدي إلى "الفساد", وهذا بدوره يؤدي إلى "الخراب", وأن هذه الثلاثية البغيضة (الاستبداد ـ الفساد ـ الخراب) هي السبب الرئيس لنكبات العرب في العصر الحديث ـ ربما في كل العصور وفي كل الأرجاء, من الأندلس قديماً, إلى بغداد قديماً وحديثاً, إلى رام الله راهناً.
فلا حول ولا قوة إلا بالله.